سورة الأحزاب

مدنية (1)، ثلاث وسبعون آية.

في حديث أبي: " من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر " (2).

وعن الصادق (عليه السلام): " من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه " (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم الائي تظهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذا لكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل (4) ادعوهم لأبآئهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا ءابآءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ى ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5)﴾

ناداه سبحانه بالنبي وبالرسول، وترك نداءه باسمه كما قال: يا آدم، يا داود، ويا موسى، إجلالا لمحله وتشريفا له (اتق الله) أي: دم على ما أنت عليه من التقوى، وأثبت عليه وازدد منه (ولا تطع الكافرين والمنفقين) ولا تساعدهم على شيء، ولا تقبل منهم رأيا ومشورة.

وقرئ: " بما يعملون " بالياء (4)، أي: بما يعمل المنافقون من الكيد والمكر.

(وتوكل على الله) وفوض أمرك إليه وكله إليه (وكفى بالله وكيلا) موكولا إليه كل أمر.

(ما جعل الله) قلبين في جوف رجل، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل.

والمعنى: أن الله عز اسمه كما ليس في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأ نه لو كان ذلك لكان لا ينفصل إنسان واحد من إنسانين، إذ كان يؤدي إليه أن يكون الجملة الواحدة متصفة بكونها مريدة كارهة لشيء واحد في حالة واحدة إذا أريد بأحد القلبين وكره بالآخر، فكذلك لا تكون المرأة الواحدة اما لرجل وزوجة له، ولا يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له؛ لأن الابن هو العريق في النسب، والدعي لاصق في التسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء أن يكون أصيلا وغير أصيل.

وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة، وهو رجل من كلب، سبى في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهبته له، وقيل: بل اشتراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوق عكاظ وأسلم، فقدم أبوه حارثة بن شراحيل الكلبي بمكة واستشفع بأبي طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يبيعه منه، فقال (عليه السلام): هو حر فليذهب حيث شاء، فأبى زيد أن يفارق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال أبوه: يا معشر قريش، اشهدوا أن زيدا ليس بابني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشهدوا أن زيدا ابني، فكان يدعى زيد بن محمد، فلما تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش - وكانت تحت زيد بن حارثة - قالت اليهود والمنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، قوله: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله) (5).

وقرئ: (الئى) بهمزة ممدودة مشبعة بعدها ياء.

وقرئ: " اللآء " بهمزة ممدودة مختلسة لا ياء بعدها (6)، وقرئ: " اللاي " بغير همزة ولا مد حيث كانت من القرآن (7)، وقرئ: (تظهرون) من: ظاهر، و " تظاهرون " من: اظاهر (8) بمعنى تظاهر، و " تظهرون " من: اظهر (9) بمعنى.

تظهر، وأصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يقال: ظاهر من امرأته، وكان ذلك طلاقا في الجاهلية، يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنب المطلقة، فكان معنى قولهم: تظاهر منها: تباعد منها بجهة الظهار، وتظهر منها: تحرز منها، وظاهر منها: حاذر منها.

ونظيره: إلى من امرأته لما ضمن معنى التباعد منها، عدي ب? " من ".

ومعنى قولهم: أنت علي كظهر أمي، أنهم أرادوا أن يقولوا كبطن أمي في التحريم، فكنوا عن البطن بالظهر، لأن ذكر البطن يقارب ذكر الفرج.

(ذلكم) النسب هو (قولكم بأفواهكم): هذا ابني، ولا حقيقة له عند الله (والله يقول الحق) أي: لا يقول إلا الذي يوافق الحقيقة (وهو يهدى السبيل) ولا يهدي إلا سبيل الحق، فقال ما هو الحق، وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله: (ادعوهم لابآئهم هو أقسط عند الله) أي: أعدل حكما وقولا (فإن لم تعلموا) لهم آباء فهم (إخوانكم في الدين) وأولياؤكم، أي: بنو أعمامكم وناصروكم، وقيل: (ومواليكم): معتقوكم إذا أعتقتموهم فلكم ولاؤهم (10) (وليس عليكم جناح) أي: إثم (فيما أخطأتم به) إذا نسبتموهم إلى المتبني لظنكم أنه أبوه، و (ما تعمدت) في محل الجر عطفا على (ما أخطأتم)، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، ويجوز أن يكون المراد العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم، كقوله (عليه السلام): " وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه " (11)، ويتناول خطأ التبني وعمده لعمومه.

﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين والمهجرين إلا أن تفعلوا إلى أولياءكم معروفا كان ذلك في الكتب مسطورا (6) وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسئل الصدقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما (8) يأيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (9) إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11)﴾

(النبي أولى بالمؤمنين) في كل شيء من أمور الدين والدنيا، ولذلك أطلق ولم يقيد، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه أوجب عندهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أكثر من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه إذا حل خطب، ويجعلوها فداه إذا لقحت حرب.

وروي عن أبي وابن مسعود وابن عباس أنهم قرأوا: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم " وروي ذلك عن الباقر والصادق (عليهما السلام) (12).

وعن مجاهد: كل نبي أب لأمته (13)، ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأن النبي أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم في تحريم النكاح، كما قال: (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) (14) ولسن بأمهات لهم على الحقيقة، إذ لو كن كذلك لكانت بناتهن أخوات، فكان لا يحل للمؤمن من التزويج بهن (وأولوا الأرحام) أي: ذوو الأنساب (بعضهم أولى ببعض) في الميراث بحق القرابة، وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالمؤاخاة في الدين وبالهجرة، فصارت هذه الآية ناسخة للتوارث بالهجرة والمؤاخاة (في كتب الله) في اللوح المحفوظ، أو: في القرآن (من المؤمنين) يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام، أي: لأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، أي: أولي الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق المؤاخاة، ومن المهاجرين بحق الهجرة (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) عنى بذلك وصية الرجل لإخوانه في الدين، وعدي (تفعلوا) ب? " إلى " لأنه في معنى " تسدوا " و " تزلوا "، (كان ذلك) المشار إليه من نسخ الميراث بالهجرة ورده إلى أولي الأرحام مكتوبا في اللوح أو القرآن أو التوراة.

واذكر حين أخذنا (من النبيين) جميعا (ميثاقهم) بتبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد (ومنك) خصوصا (ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى) وإنما فعلنا ذلك ليسأل الله تعالى يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم فيشهد الأنبياء لهم بأنهم صدقوا عهدهم وكانوا مؤمنين، أو: ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم كقوله: (ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) (15)، أو: ليسأل الذين صدقوا ماذا قصدتم بصدقكم وجه الله أم غيره؟وفيه تهديد للكاذب.

قال الصادق (عليه السلام): إذا سئل الصادق عن صدقه على أي وجه فيجازى بحسبه، فكيف يكون حال الكاذب ؟! والميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حملوا، والغلظ استعارة، والمراد: عظم الميثاق وجلالة قدره في بابه.

(اذكروا نعمة الله عليكم) يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق (إذ جاءتكم جنود) وهم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (فأرسلنا عليهم ريحا) وهي الصبا أرسلت عليهم حتى أكفأت قدورهم، ونزعت فساطيطهم، وسفت التراب في وجوههم.

وفي الحديث: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " (16).

(وجنودا لم تروها) وهم الملائكة، وحين سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي، ثم خرج ومعه ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، واشتد الخوف في المسلمين، ورفعت الذراري والنساء في الآطام، ونجم النفاق من المنافقين، وكانت قريش قد أقبلت حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد وقائدهم عيينة بن حصين وعامر بن الطفيل ومالأتهم اليهود من قريظة والنضير، وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم وبين المسلمين قتال إلا الرمي بالنبل والحجارة، غير أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي لهب، ونوفل بن عبد الله خرجوا على خيولهم حتى مروا ببني كنانة فقالوا: تهيأوا للحرب فستعلمون اليوم من الفرسان، ثم أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا، ونادى عمرو وكان يعد بألف فارس: من يبارز؟فقام علي (عليه السلام) وهو مقنع في الحديد فقال له: أنا له يا رسول الله، فقال: إنه عمرو، اجلس، ونادى عمرو الثانية والثالثة يقول: ألا رجل؟أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟فقام علي (عليه السلام)، فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه ذا الفقار، وعممه عمامته السحاب، وقال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه، وتجاولا فضربه عمرو في الدرقة فقدها وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي (عليه السلام) وثارت بينهما عجاجة، فسمع علي (عليه السلام) يكبر، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قتله والذي نفسي بيده، فجز علي رأسه وأقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجهه يتهلل، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجح عملك بعملهم (17).

(إذ جاءوكم من فوقكم) من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان (ومن أسفل منكم) من أسف الوادي من قبل المغرب قريش (وإذ زاغت الأبصر) مالت عن سننها حيرة وشخوصا، وقيل: عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الخوف (18)، و (الحناجر) جمع الحنجرة وهي منتهى الحلقوم، قالوا: إذا انتفخت الرئة من فزع أو غم أو غضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ولذلك قيل للجبان: انتفخ سحره.

ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة (وتظنون بالله الظنونا) المختلفة، زيدت الألف في الفاصلة كما زادوها في القافية، نحو قوله: أقل اللوم عاذل والعتابا (19) وكذلك " الرسولا " و " السبيلا " (وزلزلوا زلزالا شديدا) أي: أزعجوا أشد إزعاج.

﴿وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا (12) وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13) ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا (14) ولقد كانوا عهدوا الله من قبل لا يولون الادبار وكان عهد الله مسئولا (15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا (16) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17) قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا (18) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعملهم وكان ذلك على الله يسيرا (19) يحسبون الاحزاب لم يذهبوا وإن يأت الاحزاب يودوا لو أنهم بادون في الاعراب يسئلون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قتلوا إلا قليلا (20)﴾

قيل: إن القائل معتب بن قشير وأضرابه من المنافقين قالوا: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، ونحن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط، هذا والله الغرور (20).

(يثرب) اسم المدينة، وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها (21).

قرئ: (لا مقام لكم) بضم الميم وفتحها (22)، أي: لا قرار لكم ها هنا ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون (فارجعوا) إلى المدينة، أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا وإلا فليست يثرب لكم بمكان (23)، (إن بيوتنا عورة) أي ذوات عورة، والعورة: الخلل، اعتذروا بأن بيوتهم مكشوفة ليست بحصينة، أو: خالية من الرجال يخشى عليها السراق، فكذبهم سبحانه بقوله: (وما هي بعورة) بل هي حصينة، وإنما يريدون الفرار.

(ولو دخلت عليهم) المدينة أو بيوتهم، من قولهم: دخلت على فلان بيته (من أقطارها) أي: جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها ينهبونهم (ثم سئلوا) عند ذلك الفزع و (الفتنة) أي: الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين لأتوها أي: لجاؤوها وفعلوها، وقرئ: (لآتوها) (24) أي: لأعطوها (وما تلبثوا بها) أي: وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم (إلا يسيرا) فإن الله يهلكهم، وقيل: وما تلبثوا بها أي: ما لبثوا عطاءها وإجابتهم إليها إلا يسيرا، ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف (25).

(كانوا عاهدوا الله) ورسوله (من قبل) ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم (مسئولا) أي: مطلوبا يسألون عنه في الآخرة.

(قل لن ينفعكم الفرار) مما لا بد لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل، وإن ينفعكم الفرار - مثلا - فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانا قليلا.

(المعوقين) المثبطون عن رسول الله، وهم المنافقون يقولون (لإخوانهم) من ضعفة المسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم هؤلاء، فخلوهم و (هلم إلينا) أي: تعالوا وقربوا أنفسكم إلينا، وهي لغة الحجاز يستوون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون: هلم، هلما، هلموا، وهي صوت سمي به فعل متعد مثل: احضر وقرب (إلا قليلا) أي: إتيانا قليلا، يخرجون مع المؤمنين ولا يبارزون ولا يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، كقوله: و (ما قاتلوا إلا قليلا).

(أشحة عليكم) في وقت الحرب أضناء بكم، يترفرفون حولكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المحامي دونه عند الخوف، وقيل: معناه: أشحة بالقتال معكم ولا ينصرونكم (26)، (فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك) في تلك الحالة كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك (فإذا ذهب الخوف) وحيزت الغنائم نقلوا ذلك الشح عنكم إلى الخير وهو المال والغنيمة وقالوا: وفروا علينا قسمتنا، فإنا قد شاهدناكم وبمكاننا غلبتم أعداءكم، ونصب (أشحة) على الحال أو على الذم.

والسلق: أصله الضرب، سلقه بالكلام أسمعه المكروه، أي: آذوكم، وخاصموكم بألسنة سليطة ذربة.

(يحسبون الاحزاب) لم ينهزموا وقد انهزموا، (وإن يأت الاحزاب) كرة ثانية تمنوا لخوفهم ما تمنوا به هذه الكرة، أنهم خارجون إلى البدو، و (يسئلون عن) أخباركم (ولو كانوا) معكم و (فيكم) ووقع قتال لم يقاتلوا معكم إلا قدرا يسيرا رياء وسمعة ليوهموا أنهم من جملتكم لا لنصرتكم.

﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا (21) ولما رءا المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ومآ زادهم إلا إيمانا وتسليما (22) من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) ليجزى الله الصدقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما (24) ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25)﴾

(لمن كان يرجوا الله) بدل من (لكم) وهو مثل قولك: رجوت زيدا فضله، أي: فضل زيد، و " الأسوة " من الايتساء كالقدوة من الاقتداء، أي: كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في النصرة والصبر عند مواطن الكفاح كما فعل هو يوم أحد إذ كسرت رباعيته وشج وجهه وقتل عمه، فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلا فعلتم مثل ما فعله هو (وذكر الله كثيرا) أي: قرن الرجاء بالطاعات الكثيرة، والمؤتسى به من كان كذلك.

وعدهم عز اسمه أن يزلزلوا حتى يستغيثوه في قوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) (27)، فلما جاء الأحزاب واضطربوا (قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) وأيقنوا بالنصر، وهذا إشارة إلى البلاء (وما زادهم إلا إيمانا) بالله (وتسليما) لقضائه.

(رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) بأنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا (فمنهم من قضى نحبه) أي: قتل فوفى بنذره من الثبات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن ابن عباس: هو حمزة بن عبد المطلب ومن قتل معه، وأنس بن النضر وأصحابه (28) (ومنهم من ينتظر) النصرة والشهادة على ما مضى عليه أصحابه (وما بدلوا تبديلا) وما غيروا العهد، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة.

وعن علي (عليه السلام): فينا نزلت، وأنا والله المنتظر وما بدلت تبديلا (29).

(ليجزى الله الصدقين بصدقهم) في عهودهم (ويعذب المنفقين) بنقض العهد (إن شاء أو يتوب عليهم) يعني: إن شاء قبل توبتهم وأسقط عقابهم، وإن شاء لم يقبل توبتهم وعذبهم، والظاهر يقتضي بما يقتضيه العقل من الحكم (ورد الله الذين كفروا) يعني: الأحزاب (بغيظهم) مغيظين، كقوله: (تنبت بالدهن) (30) (لم ينالوا خيرا) غير ظافرين.

وهما حالان بتداخل أو تعاقب، ويجوز أن يكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا (وكفى الله المؤمنين القتال) بالريح والجنود.

وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: " وكفى الله المؤمنين القتال بعلي " (31).

﴿وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أرضهم وديرهم وأموا لهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شىء قديرا (27)﴾

(من صياصيهم) من حصونهم، والصيصية: ما تحصن به، يقال لقرن الظبي والبقر: صيصية، ولشوكة الديك التي في ساقه، ولشوكة الحائك أيضا، قال: كوقع الصياصي في النسيج الممدد (32) وقرئ: (الرعب) بضم العين (33) وسكونها.

وروي أن جبرائيل (عليه السلام) نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صبيحة الليلة التي انصرف عن الخندق إلى المدينة فقال: يا رسول الله، إن الملائكة لم تضع السلاح، إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم، فعزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، وتكون عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فالأنصار ذوو عقار وليس للمهاجرين عقار، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لسعد: " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة ? (34) والرفيع: اسم سماء الدنيا، فقتل مقاتلتهم وكانوا ستمائة مقاتل، وقيل: أربعمائة وخمسين، وسبي سبعمائة وخمسون (35).

(وأرضا لم تطئوها) بأقدامكم بعد، وسيفتحها الله عليكم، وهي خيبر، وقيل: مكة (36)، وقيل: فارس والروم (37)، وقيل: هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة (38) وقيل: هي كل ما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب (39).

﴿يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحيوة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الأخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29) ينسآء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (30) ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صلحا نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما (31) ينسآء النبي لستن كأحد من النسآء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجهلية الأولى وأقمن الصلوة وءاتين الزكوة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من ءايت الله وا لحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34)﴾

قالوا: إن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة وتغايرن، فآذى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآلى منهن، وصعد إلى غرفة فمكث فيها شهرا، فنزلت آية التخيير (40) (فتعالين) أي: أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني، وذهب يكلمني.

(أمتعكن) أعطكن متعة الطلاق (وأسرحكن) أطلقكن (سراحا جميلا) طلاقا بالسنة من غير ضرار.

(للمحسنات) المريدات الإحسان المطيعات لله منكن.

واختلف في حكم التخيير، والمروي عن أئمة الهدى (عليهم السلام) أن ذلك كان خاصا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو اخترن أنفسهن لبن منه من غير طلاق، وليس لغيره ذلك (41).

والفاحشة: السيئة البليغة في القبح، وهي الكبيرة، والمبينة: الظاهر فحشها.

والمراد: كل ما اقترفن من الكبائر.

قرئ: " يضعف " (42)، و (يضاعف) بالياء على بناء الفعل للمفعول، و (نضعف) بالنون والبناء للفاعل (43)، وإنما ضوعف عذابهن لزيادة نعمة الله عليهن بنزول الوحي في بيوتهن وبمكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهن، وزيادة قبح المعصية تتبع زيادة النعمة على المعاصي من المعصي، ومتى ازداد الفعل قبحا ازداد عقابه شدة، ولذلك تكون المعصية من العالم أقبح، وذم العقلاء له أكثر (وكان ذلك على الله يسيرا) إيذان بأن كونهن نساء النبي لا يغني عنهن شيئا.

وقرئ: (من يأت) (ومن يقنت) " ويعمل " بالياء والتاء (44) و (نؤتها) بالياء (45) والنون، أي: نعطها ثوابها مثلي ثواب غيرها، كما يكون عذابها ضعف عذاب غيرها، والقنوت: الطاعة.

و " أحد " في الأصل: وحد، بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام فيستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، ومعنى قوله: (لستن كأحد من النساء) لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والسابقة (إن اتقيتن) أي: إن كنتن متقيات وأردتن التقوى (فلا تخضعن بالقول) لا ترققن الكلام للرجال مثل كلام المريبات والمومسات (فيطمع الذي في قلبه مرض) أي: نفاق وفجور (وقلن قولا معروفا) بعيدا من التهمة مستقيما بجد وخشونة من غير تخنث، أو: قولا حسنا مع كونه خشنا.

(وقرن) قرئ بكسر القاف (46) وفتحها، فالكسرة من: وقر يقر وقارا، أو من: قر يقر قرارا، حذفت الراء الأولى من " أقررن " ونقلت كسرتها إلى القاف كما يقال: ظلن في " ظللن "، والفتح أصله: " أقررن " حذفت الراء ونقلت الحركة إلى القاف مثل: " ظلن "، (ولا تبرجن تبرج الجهلية الأولى) وهي القديمة التي يقال لها: الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم (عليه السلام)، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين آدم ونوح (47)، وقيل: هي جاهلية الكفر قبل الإسلام (48).

(أهل البيت) نصب على النداء أو على المدح، و (الرجس) مستعار للذنوب، و " الطهر " للتقوى، لأن عرض المقترف للقبيح يتدنس به كما يتلوث جسده بالأرجاس.

واتفقت الأمة على أن المراد أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) (49).

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " نزلت في خمسة: في وفي علي والحسن والحسين وفاطمة " (50).

وعن أم سلمة قالت: جاءت فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل حريرة لها، قال: ادعي زوجك وابنيك، فجاءت بهم فطعموا، ثم ألقى عليهم كساء خيبريا وقال: هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقلت: يا رسول الله، وأنا معهم؟قال: أنت على خير (51).

(واذكرن) ولا تنسين (ما يتلى في بيوتكن) من القرآن الذي هو آيات الله البينات والحكمة التي هي العلوم والشرائع، واعملن بموجبهما (إن الله كان لطيفا خبيرا) حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم.

﴿إن المسلمين والمسلمت والمؤمنين والمؤمنت والقنتين والقنتت والصدقين والصدقت والصبرين والصبرات والخشعين والخشعت والمتصدقين والمتصدقت والصائمين والصائمات والحفظين فروجهم والحفظت والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضللا مبينا (36) وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجنكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)﴾

قيل: إن أم سلمة قالت: يا رسول الله، ذكر الله الرجال في القرآن بخير، أفما فينا خير فنذكر به؟فنزلت الآية (52).

وقيل: إن القائلة أسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب (53).

المسلم: الداخل في السلم، المنقاد غير المعاند، وقيل: المستسلم لأوامر الله، والمفوض أمره إلى الله (54).

والمؤمن: المصدق بالله وبرسوله وبما يجب أن يصدق به، و القانت: القائم بالطاعة الدائم عليها، والصادق: الذي يصدق في قوله وعمله ونيته، والصابر: الذي يصبر على الطاعة وعن المعصية، والخاشع: المتواضع لله بقلبه وجوارحه، والمتصدق: الذي يزكي ماله، والذاكر الله كثيرا: من لا يخلو من ذكر الله بقلبه أو بلسانه أو بهما.

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضآ وصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (55).

وعن الصادق (عليه السلام): " من بات على تسبيح فاطمة (عليها السلام) كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ".

والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف لأن الظاهر يدل عليه، وعطف الإناث في الآية على الذكور من نحو قوله: (ثيبات وأبكارا) (56) في أنهما جنسان مختلفان إذا اشتركا في حكم فلابد من أن يتوسط حرف العطف بينهما.

وأما عطف الزوجين على الزوجين فإنه من عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة.

خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش الأسدية على زيد بن حارثة مولاه وكانت بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش، فنزل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى) الآية (57)، أي: وما صح لرجل ولا امرأة من أهل الإيمان إذا قضى الله ورسوله أمرا من الأمور أن يكون لهم الاختيار من أمرهم على اختيار الله لهم، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، والخيرة ما يتخير، فلما نزلت قالا: رضينا يا رسول الله، فأنكحها زيدا وساق عنه إليها مهرها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.

وقرئ: (يكون) بالتاء والياء (58).

(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) بتوفيقك لعتقه ومحبته (وأنعمت عليه) بما وفقك الله فيه من اختصاصه وتبنيه وهو زيد بن حارثة (أمسك عليك زوجك) يعني زينب بنت جحش، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى منزل زينب ذات يوم، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها، فدفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الباب فوقع بصره عليها فقال: سبحان الله خالق النور، تبارك الله أحسن الخالقين، ورجع، فجاء زيد فأخبرته زينب بما كان، فقال لها: لعلك وقعت في قلب رسول الله، فهل لك أن أطلقك؟فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء زيد وقال: يا رسول الله، أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: مالك؟أرابك منها شيء؟قال: لا، والله ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك (واتق الله) ثم طلقها بعد فلما اعتدت قال رسول الله: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، أخطب علي زينب، قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها، فلما رأيتها عظمت في نفسي حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب أبشري، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطبك، ففرحت بذلك، وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن (زوجنكها) فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار.

وقوله: (واتق الله) يريد: لا تطلقها، وهو نهي تنزيه لا نهي تحريم؛ لأن الأولى أن لا يطلق، وقيل: أراد اتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الأذى والكبر (59).

وقوله: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس) قيل: أخفى في نفسه أنه إن طلقها زيد تزوجها، وخشى لائمة الناس أن يقولوا: أمره بطلاقها ثم تزوجها (60) وقيل: إن الذي أخفاه هو الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها (61) فأبدى سبحانه ما أخفاه في نفسه بقوله: (زوجنكها)، ولم يرد سبحانه بقوله: (والله أحق أن تخشه) خشية التقوى؛ لأنه صلوات الله عليه كان يتقي الله حق تقاته ويخشاه فيما يجب أن يخشاه فيه.

ولكن المراد خشيته الاستحياء، لأن الحياء من الشيمة الكريمة، وقد يستحي الإنسان ويتحفظ من شيء هو في نفسه مباح حلال عند الله، لئلا يطلق الجهال الذين لا يعرفون حقائق الأمور ألسنتهم فيه، ألا ترى أنهم إذا طعموا في بيوته كانوا يستأنسون بالحديث ولا يريمون (62)، فكان يؤذيه قعودهم، ويصده الحياء أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت: (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم) (63) فأخبر الله سبحانه الناس بما كان يضمره الرسول صلوات الله عليه وآله وعاتبه عليه، وكأنه سبحانه أراد منه أن يقول لزيد: أنت أعلم بشأنك، أو يصمت عند قوله: أريد مفارقتها ليكون ظاهره مطابقا لباطنه.

كما جاء في حديث إرادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقد كان أهدر دمه قبل ذلك، واعترض عثمان له بالشفاعة: أن عباد بن بشير قال له: يا رسول الله، كان عيني إلى عينك انتظار أن تومئ إلي فأقتله، فقال (عليه السلام): " إن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين " فلم يستجز الإشارة بقتل كافر وإن كان مباحا.

والواو في (وتخفى في نفسك)، (وتخشى الناس)، (والله أحق أن تخشه): واو الحال، أي: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشئا مقالة الناس، وتخشى الناس حقيقا في ذلك بأن تخشى الله.

أو: واو العطف كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك: " أمسك " وإخفاء خلافه وخشية الناس.

(فلما قضى زيد منها وطرا) أي: فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وطاب عنها نفسه وطلقها وانقضت عدتها (زوجنكها)، وقراءة أهل البيت (عليهم السلام) " زوجتكها "، وعن الصادق (عليه السلام): " ما قرأتها على أبي إلا كذلك، إلى أن قال: وما قرأ علي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا كذلك " (64).

ثم بين سبحانه الغرض والمصلحة العامة في تزويجه إياها بقوله: (لكي لا يكون على المؤمنين حرج) أي: ضيق وإثم (في) أن يتزوجوا (أزواج أدعيآئهم) وهم الذين تبنوهم (إذا قضوا) من نسائهم (وطرا) أي: بلغوا منهن حاجتهم وفارقوهن، فلا يجرونهم في تحريم النساء (65) مجرى الابن من النسب والرضاع (وكان أمر الله مفعولا) جملة اعتراضية، أي: كان أمر الله الذي يريد أن يكونه مكونا لا محالة.

وروي أن زينب كانت تقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأدل عليك بثلاث ليس من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وزوجنيك الله، والسفير جبرائيل (عليه السلام) (66).

﴿ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38) الذين يبلغون رسلت الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39) ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شىء عليما (40)﴾

(فرض الله له) أي: قسم الله وأوجب من التزوج بامرأة المتبنى، ليبطل حكم الجاهلية في الأدعياء، ومنه فرض لفلان في الديوان كذا (سنة الله) اسم وضع موضع المصدر المؤكد لقوله تعالى: (ما كان على النبي من حرج) كأنه قيل: سن الله ذلك سنة في الذين خلوا من الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم فيما أباح لهم الإقدام عليه من النكاح وغيره، وقد كان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية.

(الذين يبلغون) يحتمل الوجوه الثلاثة من الإعراب: الجر على الوصف للأنبياء، والرفع والنصب على المدح، أي: هم الذين يبلغون، أو: أعني الذين يبلغون.

وقرئ: " رسالة الله " (67).

(وكان أمر الله) المنزل على أنبيائه (قدرا مقدورا) حكما مبتوتا وقضاء مقضيا (68).

(ولا يخشون أحدا إلا الله) فيما يتعلق بالتبليغ والأداء (69).

(وكفى بالله حسيبا) كافيا للمخاوف، وقيل: حافظا لأعمال خلقه محاسبا مجازيا عليها (70).

(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) أي: لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح (ولكن) كان (رسول الله) وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، وكان حكمه حكمهم (وخاتم النبيين) آخرهم، ختمت النبوة به، فشريعته باقية إلى آخر الدهر.

وكان صلوات الله عليه أبا للحسن والحسين لقوله: " ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا ? (71) وهما من رجاله لا من رجالهم.

وقرئ: (خاتم النبيين) بفتح التاء (72) بمعنى الطابع.

﴿يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42) هو الذي يصلى عليكم وملئكته ليخرجكم من الظلمت إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم يلقونه سلم وأعد لهم أجرا كريما (44) يأيها النبي إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه ى وسراجا منيرا (46) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنفقين ودع أذلهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48)﴾

(اذكروا الله) أثنوا عليه بضروب الثناء من التحميد والتهليل والتمجيد والتسبيح والتكبير، وأكثروا ذلك.

وعن الصادق (عليه السلام): " من سبح تسبيح فاطمة (عليها السلام) فقد ذكر الله ذكرا كثيرا " (73).

وعنهم (عليهم السلام): " من قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثلاثين مرة فقد ذكر الله ذكرا كثيرا " (74).

(وسبحوه) التسبيح من جملة الذكر، واختصه من بين أنواعه اختصاص جبرئيل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه: تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات، فإن كل طاعة من جملة الذكر.

ثم خص من ذلك التسبيح (بكرة وأصيلا) وهو الصلاة في جميع أوقاتها؛ لفضل الصلاة على غيرها، أو: صلاة الفجر والعشاءين لأن أداءها أشق، ومراعاتها أشد.

ولما كان من شأن المصلي أن ينعطف وينحني في ركوعه وسجوده استعير لمن انعطف على غيره حنوا عليه، واستعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم: " صلى الله عليه وآله وسلم " أي: ترحم عليه وترأف.

وأما صلاة الملائكة فهي قولهم: " اللهم صل على المؤمنين " جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة.

ونظيره قولهم: " حياك الله " أي: أحياك وأبقاك، و " حييته " أي: دعوت له بأن يحييه الله ويبقيه، لأنه لاتكاله على إجابة دعوته كأنه يبقيه على الحقيقة، وعليه قوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه) (75) أي: ادعوا الله بأن يصلي عليه.

والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف حيث يأمركم بإكثار الخير والتوفر على الطاعة ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وفي قوله: (وكان بالمؤمنين رحيما) دلالة على أن المراد بالصلاة الرحمة.

(تحيتهم) هو من باب إضافة المصدر إلى المفعول، أي: يحيون يوم لقائه: بـ (سلم)، وعن البراء بن عازب: لا يقبض ملك الموت روح مؤمن إلا سلم عليه (76).

وقيل: هو سلام الملائكة عند الخروج من القبور (77)، وقيل: عند دخول الجنة (78)، كما قال: (والملئكة يدخلون عليهم من كل باب سلم عليكم) (79)، والأجر الكريم: الجنة.

(إنآ أرسلنك شهدا) على أمتك فيما يفعلونه، مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل، وهو حال مقدرة كمسألة الكتاب: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: مقدرا به الصيد غدا (بإذنه) مستعار للتسهيل والتيسير، وفيه إيذان بأن دعاء أهل الشرك إلى التوحيد والشرائع أمر صعب لا يتسهل إلا بتيسير الله (وسراجا منيرا) يهتدى بك في الدين كما يهتدى بالسراج في ظلام الليل، أو: يمد بنور نبوتك نور البصائر كما يمد بنور السراج نور الأبصار.

والفضل الكبير: الزيادة على ما يستحقونه من الثواب، ويجوز أن يكون المراد أن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم.

(ولا تطع الكافرين) معناه: الدوام على ما كان عليه أو التهيج.

(ودع أذلهم) أي: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله، ويكون المصدر مضافا إلى المفعول.

قيل: وذلك قبل أن يؤمر بالقتال (80)، وقيل: معناه: ودع ما يؤذونك به، فيكون مضافا إلى الفاعل (81)، (وتوكل على الله) فإنه يكفيكهم (وكفى بالله وكيلا) كافيا مفوضا إليه.

﴿يأيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنت ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49) يأيها النبي إنآ أحللنا لك أزواجك التي ءاتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك وبنات عمك وبنات عمتك وبنات خالك وبنات خللتك التي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمنهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما (50)﴾

(تعتدونها) تستوفون عددها من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، وكلت الشيء فاكتاله.

وفيه دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء (فمتعوهن) إذا لم تفترضوا لهن صداقا (وسرحوهن سراحا جميلا) من غير ضرار ولا منع واجب.

(أجورهن) أي: مهورهن، لأن المهر أجر على البضع، وإيتاؤها: إعطاؤها عاجلا وفرضها وتسميتها في العقد.

وقد اختار الله عز وجل لرسوله الأفضل والأولى وهو تسمية المهر في العقد وسوق المهر إليها عاجلا، فإنه أفضل من أن يسميه ويؤجله، ولذلك كان التعجيل ديدنهم وسنتهم.

وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها ومما غنمه الله من دار الحرب كانت أحل وأطيب مما يشترى، وذلك قوله: (مما أفآء الله عليك)، وكذلك النساء (التي هاجرن) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه، وأحللنا لك (امرأة) مصدقة بتوحيد الله (إن وهبت نفسها) لك بغير صداق إن آثر النبي نكاحها ورغب فيها (خالصة لك) أي: خاصة لك (من دون المؤمنين) أي: لا يحل لغيرك وهو لك حلال.

شرط سبحانه في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أن يطلب نكاحها ويرغب فيه، فكأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها، لأن إرادته هي قبول الهبة، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأنه مما خص به، ومجيئه على لفظ " النبي " للدلالة على أن هذا الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة، وتكريره تقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته.

(خالصة) مصدر مؤكد، مثل: وعد الله، وصبغة الله، أي: خلص لك إحلال ما أحللناك خالصة، بمعنى خلوصا (قد علمنا) ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم وإمائهم وعلى أي حد وصفة يجب أن يفرض عليهم، وآثرناك بالاختصاص بما خصصناك به (لكيلا يكون عليك حرج) أي: ضيق في دينك ودنياك (وكان الله غفورا) لذنوب عباده (رحيما) بالتوسعة عليهم.

﴿ترجى من تشآء منهن وتئوى إليك من تشآء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بمآ ءاتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51) لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شىء رقيبا (52) يأيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير نظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبي فيستحىى منكم والله لا يستحىى من الحق وإذا سألتموهن متعا فسألوهن من ورآء حجاب ذا لكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده ى أبدا إن ذا لكم كان عند الله عظيما (53) إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شىء عليما (54)﴾

(ترجى) بهمز وغير همز.

تؤخر (وتئوى) تضم، يعني: تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو: لا تقسم لأيتهن شئت، وتقسم لمن شئت، وكان (عليه السلام) يقسم بين أزواجه فأبيح له ترك ذلك، أو: تترك تزوج من شئت من نساء أمتك، وتتزوج من شئت، وكان (عليه السلام) إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يدعها، وروي أن عائشة قالت: إني أرى ربك يسارع في هواك! (82).

(ومن ابتغيت) أن تضمها إليك (ممن) عزلتهن (فلا جناح عليك) في ابتغائها (ذلك) التفويض إلى اختيارك ومشيئتك (أدنى) إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضائهن جميعا، لأنه إذا سوى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخرى، وعلمن أن هذا التفويض من عند الله سكنت نفوسهن، وذهب التنافس، وحصل التراضي (كلهن) تأكيد لنون (يرضين)، (والله يعلم ما في قلوبكم) فيه وعيد لمن لم يرض منهن بما فوض الله إلى مشيئة رسوله، وبعث على طلب رضاه (عليه السلام) (وكان الله عليما) بمصالح عباده (حليما) لا يعاجلهم بالعقوبة.

وقرئ: (لا يحل) بالتاء (83) والياء، أي: لا تحل لك (النسآء من بعد) النساء اللواتي أحللناهن لك من الأجناس: من اللواتي أعطيت مهورهن، ومن المهاجرات من القرائب، ومن الإماء المسبية (84)، ومن وهبت نفسها له بجميع ما شاء من العدد، (ولآ أن تبدل بهن) أي: بالمسلمات الكتابيات، لأ نه لا ينبغي أن يكن أمهات المسلمين (إلا ما ملكت يمينك) من الكتابيات، وقيل: إن التبدل المحرم هو ما كان يفعل في الجاهلية، يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك أبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه (85).

ويحكى أن عيينة بن حصين دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا عيينة، أين الاستئذان "؟قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل قط منذ أدركت، ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟فقال (عليه السلام): " هذه عائشة بنت أبي بكر "، قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟قال (عليه السلام): " قد حرم ذلك "، فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟فقال: " أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه " (86).

وقيل: معناه: لا يحل لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله وهن التسع، ولا أن تستبدل بهن أزواجا أخر (87) (ولو أعجبك حسنهن) واستثنى ممن حرم عليه الإماء.

(أن يؤذن لكم) في معنى الظرف، تقديره: إلا وقت أن يؤذن لكم (غير نظرين) حال من (لا تدخلوا) وقع الاستثناء على الوقت والحال معا، كأنه قال: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين.

وهؤلاء قوم كانوا يتحينون أي: يتعرضون طعام رسول الله فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، والمعنى: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا أن يؤذن لكم إلى طعام.

وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن يؤذن له إذنا خاصا إلى طعام فحسب.

و (إناه) إدراكه ونضجه، يقال: أنى الطعام إنى، وقيل: إناه: وقته (88)، أي: غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.

وروي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولم على زينب بتمر وسويق وذبح شاة فأمر أنسا أن يدعو أصحابه، فترادفوا أفواجا، يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج، إلى أن قال: يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقى ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليخرجوا، فطاف بالحجرات ورجع فإذا الثلاثة جلوس مكانهم، وكان صلوات الله عليه شديد الحياء فتولى، فلما رأوه متوليا خرجوا، فرجع ونزلت الآية (89).

(مستأنسين) مجرور عطف على: (نظرين)، أو منصوب على: ولا تدخلوها (مستأنسين) أي: يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدثه به، أو: مستأنسين حديث أهل البيت، واستئناسه: تسمعه وتوجسه.

ولا بد في قوله: (فيستحىى منكم) من تقدير مضاف، أي: من إخراجكم، بدليل قوله: (والله لا يستحىى من الحق) ومعناه: أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيي منه، ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال قيل: والله لا يستحيي من الحق، بمعنى: لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، وهذا أدب أدب الله به الثقلاء.

وعن عائشة قالت: حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال: (فإذا طعمتم فانتشروا) (90).

والضمير في (سألتموهن) لنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يذكرن لأن الحال ينطق بذكرهن (فاسألوهن) المتاع.

وقيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، فنزلت آية الحجاب (91).

وروي أن بعضهم قال: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء الحجاب ؟! لئن مات محمد، لأتزوجن عائشة (92) وعن مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله فنزلت: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (93)؛ أي: وما صح لكم إيذاء رسول الله ولا نكاح (أزواجه من بعده) وسمي نكاح أزواجه بعده (عظيما) تعظيما لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإيجابا لحرمته حيا وميتا عليه أفضل الصلاة والسلام.

(إن تبدوا شيئا) من نكاحهن على ألسنتكم (أو تخفوه) في صدوركم فإن الله يعلم ذلك.

﴿لا جناح عليهن في ءابآبهن ولا أبنآبهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخوا تهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمنهن واتقين الله إن الله كان على كل شىء شهيدا (55) إن الله وملئكته يصلون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56) إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنت بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتنا وإثما مبينا (58)﴾

لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أو نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟فنزلت (94).

أي: لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن عن هؤلاء، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين، وقد سمى الله العم أبا في قوله: (وإله ءابآئك إبراهيم وإسمعيل وإسحق) (95) وإسماعيل عم يعقوب، وقيل: كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانهن لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم (96) (واتقين الله) في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب دلالة على فضل تشديد فيما أمرن به من الاحتجاب والاستتار، أي: واسلكن طريق التقوى فيما أمرتن به واحتطن فيه، وكان الله (على كل شىء) من السر والعلن، وظاهر الحجاب وباطنه (شهيدا) لا تتفاوت الأحوال في علمه.

صلاة الله على النبي (عليه السلام) هي ما يفعله به من إعلاء درجاته ورفع منازله وتعظيم شأنه وغير ذلك من أنواع كراماته، وصلاة الملائكة عليه مسألتهم الله عز اسمه أن يفعل به مثل ذلك (صلوا عليه) أي: قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم (وسلموا) له في الأمور (تسليما) أي: انقادوا لأمره وأطيعوه، أو: سلموا عليه بأن تقولوا: السلام عليك يا رسول الله.

(يؤذون الله ورسوله) أذى الله تعالى عبارة عن أذى رسوله وأوليائه، وإنما أضافه إلى نفسه مبالغة في تعظيم المعصية.

وعن علي (عليه السلام): حدثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخذ بشعره فقال: " من آذى شعرة منك فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فعليه لعنة الله " (97).

وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات بعد أن أطلق إيذاء الله ورسوله، لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق أبدا.

ومعنى (بغير ما اكتسبوا) بغير جناية واستحقاق للأذى (بهتانا) أي: كذبا، أي: فعلوا ما هو في الإثم مثل البهتان؛ يعني بذلك أذية اللسان.

﴿يأيها النبي قل لازواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلبيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما (59) لبن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا (60) ملعونين أينمآ ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)﴾

.

الجلباب: ثوب واسع، أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها.

وعن ابن عباس: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل (98)، وقيل: الجلباب: الملحفة وكل ما يتستر به من كساء أو غيره (99).

قال الشاعر: مجلبب من سواد الليل جلبابا (100) ومعنى (يدنين عليهن من جلبيبهن): يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك.

وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية مبتذلات يبرزن في درع وخمار، لا فرق بين الحرة والأمة، وكان أهل الشطارة والريبة يتعرضون للإماء، فربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة.

فأمرن أن يخالفن بزيهن من زي الإماء لئلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أي: أقرب إلى أن لا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن.

و (من) في: (جلبيبهن) للتبعيض، بمعنى: تجلببن ببعض جلابيبهن أو يرخين بعض جلبابهن على الوجه (وكان الله غفورا رحيما) لما سلف منهن في ذلك.

(والذين في قلوبهم مرض) أي: ضعف في الإيمان، وقيل: هم الزناة وأهل الفجور (101)، من قوله: (فيطمع الذي في قلبه مرض) (102)، (والمرجفون في المدينة) بالأخبار المضعفة لقلوب المسلمين عن سرايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقولون: هزموا وقتلوا، وأصله من الرجفة، وهي الزلزلة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت، والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عدواتهم وكيدهم، والفسقة عن إيذاء النساء، والمرجفون عما يؤلفونه (103) من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم ما يسوؤهم وينوؤهم ويضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، ثم لا يساكنونك في المدينة إلا زمانا قليلا، فسمى ذلك عن إغراء وهو التحريش (104) على سبيل المجاز.

(ملعونين) نصب على " الشتم " أو الحال، أي: (لا يجاورونك) إلا ملعونين.

دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مر ذكره في قوله: (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير نظرين إناه) (105) وقيل: إن (قليلا) منصوب على الحال أيضا، أي: أقلاء أذلة (106)، و (لا يجاورونك) عطف على (لنغزينك)، فهو جواب آخر للقسم.

(سنة الله) مصدر مؤكد، أي: سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا أينما ثقفوا.

﴿يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66) وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأظلونا السبيلا (67) ربنآ ءاتهم ضعفين من ا لعذاب وا لعنهم لعنا كبيرا (68) يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)﴾

كان المشركون يسألون (عن الساعة) ووقت قيامها استعجالا على سبيل الإنكار والهزء، واليهود يسألون ذلك امتحانا، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم قال: لعلها (تكون قريبا) مجيئها، أو: شيئا قريبا، أو: في زمان قريب.

و " السعير ": النار المسعورة.

وتقليب الوجوه معناه: تصريفها في الجهات، كما أن البضعة من اللحم تدور في القدر من جهة إلى جهة إذا استجمعت غليا، أو تغييرها عن أحوالها، أو طرحها في النار منكوبين مغلوبين (107)، وخص الوجوه بالذكر لأن الوجه أكرم الأعضاء، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.

وانتصب (يوم) بـ (يقولون)، أو بـ (اذكر) و (يقولون) حال.

وقرئ: " ساداتنا ? (108) وهم رؤساء الكفار الذين أضلوهم، وزيادة الألف لإطلاق الصوت، جعل فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف.

وقرئ (كبيرا) بالباء والثاء (109)، والكثرة أشبه بالموضع لأنهم يلعنون مرة بعد مرة، والكبير بمعنى: الشديد العظيم، أي: (ءاتهم ضعفين من العذاب) ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلالهم.

(لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى) (عليه السلام): قيل: نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من مقالة بعض الناس (110).

وقيل: في أذى موسى (عليه السلام): هو حديث المومسة التي حملها قارون على قذفه بنفسها (111).

وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون، وقد كانا صعدا الجبل فمات هارون، فحملته الملائكة ومروا به على بني إسرائيل ميتا، حتى عرفوا أنه قد مات ولم يقتل (112).

وقيل: قذفوه بعيب في جسده، من برص أو أدرة (113)، فأطلعهم الله على أنه بريء منه (114).

(وجيها) ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم، ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم (115)، كما يفعل الملوك بمن له عندهم وجاهة، والمعنى: (فبرأه الله) من قولهم أو من مقولهم، فيكون " ما " مصدرية أو موصولة.

والمراد بالقول أو المقول مضمونه ومؤداه، وهو الأمر المعيب، كما سموا السبة (116) بالقالة، والقالة بمعنى القول.

﴿يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعملكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71) إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبآل فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنفقين والمنفقت والمشركين والمشركت ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنت وكان الله غفورا رحيما (73)﴾

(قولا سديدا) أي: قاصدا إلى الحق، والسداد: القصد إلى الحق والقول بالعدل (117)، يقال: سدد السهم نحو الرمية، كما قالوا: سهم قاصد.

وقيل: إن المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير عدل في القول (118)، وهو البعث على أن يسد قولهم في كل باب، لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله.

والمعنى: احفظوا ألسنتكم وسددوا قولكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك أعطاكم الله غاية مطلوبكم من تزكية أعمالكم، وتقبل حسناتكم، ومغفرة سيئاتكم.

ولما علق سبحانه طاعته وطاعة رسوله بالفوز العظيم أتبعه قوله: (إنا عرضنا الأمانة) وهو يريد بالأمانة: الطاعة، فعظم أمرها، والمعنى: أن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله فلم تمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على أشكال متنوعة وصفات مختلفة، وأما الإنسان فلم يكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها من الانقياد وعدم الامتناع.

والمراد بالأمانة: الطاعة؛ لأنها لازمة الأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجازا، وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل الأمانة ومحتمل لها، تريد لا يؤديها إلى صاحبها حتى يخرج من عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولم يكن هو حاملا لها.

فالمعنى: (فأبين) أن لا يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها، ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإغفاله ما يسعده مع تمكنه من ذلك بأن يؤدي الأمانة.

واللام في (ليعذب) لام التعليل على طريق المجاز، لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في قولك: ضربته للتأديب نتيجة الضرب، أي: ليعذب الله حامل الأمانة (ويتوب الله) على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر.


1- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 311: مدنية في قول مجاهد والحسن، وهي ثلاث وسبعون آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 3 ص 518: مدنية، وهي ثلاث وسبعون آية، نزلت بعد آل عمران. وروت العامة أن هذه السورة تعدل سورة البقرة، وكانت فيها آية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم "، ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب، وهذا يعني أنه سبحانه رفع من الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا!! كما وردت بالإسناد عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مائتي آية، فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن!! أنظر تفسير القرطبي: ج 14 ص 113. قال المصنف في مقدمة تفسيره الكبير: والكلام في زيادة القرآن ونقصانه مما لا يليق بالتفسير، أما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييرا ونقصانا. والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء. مجمع البيان: ص 15 الفن الخامس.

2- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 565 مرسلا.

3- ثواب الأعمال للصدوق: ص 137.

4- وهي قراءة أبي عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 615.

5- وهو ما رواه القمي في تفسيره: ج 2 ص 172 باسناده عن الصادق (عليه السلام)، والآية: 40 منها.

6- قرأه ابن كثير ونافع وأبو جعفر. راجع التبيان: ج 8 ص 312.

7- وهي قراءة ابن كثير برواية ابن فليح عن أصحابه عنه، وكذلك قرأها أبو عمرو راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 518.

8- قرأه ابن عامر. راجع التبيان: ج 8 ص 312.

9- وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو. راجع المصدر السابق.

10- حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 315.

11- أخرجه ابن ماجة في السنن: ج 1 ص 659 ح 2043 و 2045 من طرقه عن ابن عباس وأبي ذر الغفاري.

12- أنظر سنن البيهقي: ج 7 ص 69، وتفسير الآلوسي: ج 21 ص 152.

13- تفسير مجاهد: ص 546.

14- الآية: 53.

15- المائدة: 116.

16- أخرجه أحمد في المسند: ج 1 ص 228 و 324 و 341، والبخاري في الصحيح: ج 2 ص 41 و ج 4 ص 132.

17- أنظر تفسير القمي: ج 2 ص 176 - 188.

18- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 526.

19- لجرير، وعجزه: وقولي إن أصبت لقد أصابا. والبيت مطلع قصيدة طويلة يهجو بها عبيدا الراعي النميري والفرزدق. انظر خزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 69 وما بعده.

20- وهو قول السدي، راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 268.

21- قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 134.

22- قرأ حفص وحده بضم الميم والباقون بفتحها، راجع التبيان: ج 8 ص 321.

23- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 528.

24- تقدمت الإشارة إلى أن المصنف قد اعتمد في تفسيره هذا على نسخة مصحف لغير قراءة حفص عن عاصم. وممن قرأها بالقصر ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو جعفر. راجع التبيان: ج 8 ص 321.

25- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 528.

26- قاله ابن كامل كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 385.

27- البقرة: 214.

28- انظر تفسير ابن عباس: ص 352.

29- رواه الصدوق في الخصال: ص 376 ح 58 قطعة، والحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 1.

30- المؤمنون: 20.

31- انظر تفسير التبيان: ج 8 ص 331.

32- لدريد بن الصمة، وصدره: فجئت إليه والرماح تنوشه. والبيت من قصيدة حماسية طويلة يرثي بها أخاه عبد الله وقد قتلته بنو عبس. انظر ديوان دريد: ص 45.

33- قرأه ابن عامر والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 363.

34- رواه القمي في التفسير: ج 2 ص 189.

35- حكاه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 393.

36- قاله قتادة. راجع المصدر السابق.

37- قاله قتادة والحسن. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 288.

38- وهو قول عكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 393.

39- قاله عكرمة أيضا كما في تفسير البغوي: ج 4 ص 525.

40- وهو قول أبي الزبير وقتادة وابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 289 و 290.

41- أنظر الكافي: ج 6 ص 136 ح 1 - 3 من كتاب الطلاق.

42- قرأه أبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 521.

43- قرأه ابن كثير وابن عامر. راجع المصدر السابق.

44- قرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالياء، والباقون كذلك إلا (تعمل) بالتاء. راجع المصدر نفسه.

45- وهي قراءة حمزة والكسائي. راجع نفس المصدر المتقدم.

46- قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. راجع المصدر السابق نفسه: ص 522.

47- قاله الحكم والحسن، راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 294، وتفسير الماوردي: ج 4 ص 400.

48- وهو قول ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 295.

49- الخطاب في قوله تعالى: (عنكم) بالجمع المذكر يدل على أن الآية الشريفة من قوله: (إنما يريد الله) الخ، في حق غير زوجات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلا فسياق الآيات يقتضي التعبير بخطاب الجمع المؤنث، أعني: " عنكن " و " يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات، وهم الخمسة النجباء (عليهم السلام)، وباقي الأئمة أيضا مراد بإجماع الإمامية واتفاقهم. وما يقال: إن التعبير بالجمع المذكر إنما هو باعتبار " الأهل " كما تفوه به بعض النواصب فمما لا يعبأ به، فإن على ما ادعاه أيضا لابد وأن يكون في العدول إلى الخطاب بالجمع المذكر سببا ومرجحا، فإن " الأهل " يذكر ويؤنث لا أنه يذكر فقط كما صرح به العلامة الزمخشري في الكشاف في تفسير آية: (هذه القرية الظالم أهلها) في سورة النساء، فبناء على أن الأهل يؤنث أيضا كان الأولى التعبير بحسب سياق الآيات، وصدر هذه الآية نفسها هو الخطاب بالجمع المؤنث، فالعدول ليس إلا لما ذكرناه. وأضف إلى ذلك أنه إن كان المراد من " الأهل " هو " الأهل " في قوله تعالى: (أهل البيت) فهذا لا يصحح مراده، لان الأهل تابع (عنكم) والتابع لا يؤثر في المتبوع لا تذكيرا ولا تأنيثا. وإن كان المراد من " الأهل " هو " الأهل " المنتزع من النساء، فهذا يقتضي أن تكون الضمائر السابقة أيضا بالتذكير، والحال أن الضمائر كلها بالتأنيث، فما وجه العدول في ذيل الآية إلى التذكير؟مع أنك عرفت أن " الأهل " يذكر ويؤنث. ثم إنا نقول: إنه هل المراد من إذهاب الرجس عن أهل البيت هو دفع الرجس أو رفعه؟فإن كان الأول فالزوجات خارجات عن حكم الآية، فإن أكثرهن - إن لم يكن كلهن - كن في الرجس قبل الإسلام، وإن كان الثاني فلا محيص من القول بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم الآية، فإنه لم يكن فيه رجس أصلا لا قبل البعثة ولا بعدها باتفاق الأمة الإسلامية قاطبة، مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) داخل في حكم الآية قطعا بالاتفاق، فلا يمكن القول بخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكمها. فثبت الأول وانتفى الثاني وخرجت الزوجات عن حكم الآية قطعا، وهو المطلوب " ق ".

50- رواه الطبري باسناده في تفسيره: ج 10 ص 296 ح 28487، والماوردي الشافعي في تفسيره: ج 4 ص 401 وزاد أنس بن مالك وعائشة وأم سلمة.

51- أخرجه الترمذي في السنن: ج 5 ص 351 ح 3205 باختلاف يسير والطبراني في المعجم الكبير: ج 3 ص 48 و ج 9 ص 11.

52- رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 300 باسناده إلى ابن عباس ومجاهد عنها.

53- حكاه البغوي في تفسيره: ج 3 ص 529.

54- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 539.

55- أخرجه أبو داود في السنن: ج 2 ص 33 ح 1309.

56- التحريم: 5.

57- انظر تفسير الطبري: ج 10 ص 301.

58- قرأ الكوفيون وحدهم بالياء والباقون بالتاء، راجع التبيان: ج 8 ص 343.

59- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 541.

60- المصدر السابق.

61- قاله الحسن كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 406.

62- رام يريمه ريما للمكان: أي برحه. (الصحاح مادة ريم).

63- الآية: 53.

64- أنظر مختصر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 120، والكشاف: ج 3 ص 543.

65- في نسخة: " نسائهم ".

66- رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 303 ح 28526 باسناده عن الشعبي.

67- وهي قراءة أبي بن كعب. أنظر مختصر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 120.

68- كذا وجدنا هذه العبارة المتعلقة بالآية: 38 المتقدمة محشوة بين العبائر المتعلقة بتفسير الآية: 39 بلا مناسبة في جميع النسخ، الا نسخة قد أشرنا إليها في الهامش: التالي.

|

69- في نسخة العبارة هكذا: " أعني: الذين يبلغون رسالة الله فيما يتعلق بالتبليغ والأداء ".

70- وهو قول البغوي في تفسيره: ج 3 ص 533.

71- أنظر المناقب لآل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 394.

72- أشرنا سابقا بأن المصنف رحمه الله قد اعتمد في تفسيره هذا على نسخة مصحف لغير قراءة حفص عن عاصم تبعا للزمخشري. وفتح التاء هي قراءة عاصم وحده، والباقون بالكسر. أنظر التبيان: ج 8 ص 343.

73- الكافي: ج 2 ص 500 ح 4.

74- قرب الإسناد: ص 79.

75- الآية: 56.

76- حكاه عنه النحاس في إعراب القرآن: ج 3 ص 319.

77- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 546.

78- قاله الكلبي. راجع تفسير السمرقندي: ج 3 ص 54.

79- الرعد: 23 و 24.

80- وهو قول الكلبي كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 411.

81- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 547.

82- رواه الحاكم في مستدركه: ج 2 ص 419، والبغوي الشافعي في تفسيره: ج 3 ص 538، والزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 551.

83- قرأه أبو عمرو وحده. راجع التبيان: ج 8 ص 354.

84- في نسخة: " المستترات ".

85- قاله ابن زيد. راجع التبيان: ج 8 ص 356.

86- أخرجه الدار قطني في السنن: ج 3 ص 218.

87- وهو قول ابن عباس وقتادة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 316.

88- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 554.

89- رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 323 باسناده عن أنس بن مالك.

90- أورده الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 555.

91- قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 325.

92- رواه القرطبي في تفسيره: ج 14 ص 228 باسناده عن قتادة.

93- أنظر تفسير البغوي: ج 3 ص 541.

94- أنظر التبيان: ج 10 ص 358.

95- البقرة: 133.

96- قاله قتادة وعكرمة والشعبي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 420، والتبيان: ج 10 ص 358.

97- رواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 97 ح 776.

98- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 559.

99- قاله الحسن. راجع التبيان: ج 8 ص 361.

100- وصدره: أهلا بضيف أني ما استفتح البابا والبيت منسوب لأبي زبيد، وفيه مبالغة في التمدح بإكرام الضيف وقريه. أنظر شرح شواهد الكشاف للأفندي: ص 192.

101- قاله عكرمة وقتادة وأبو صالح. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 333.

102- الآية: 32.

103- في نسخة: يقولونه.

104- التحريش: الإغراء بين القوم، وكذلك بين الكلاب. (الصحاح: مادة حرش).

105- الآية: 53.

106- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 236.

107- في نسخة: " منكوسين مقلوبين ".

108- قرأه ابن عامر ويعقوب. راجع التبيان: ج 8 ص 364.

109- قرأه ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 523.

110- حكاه النقاش كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 426.

111- قاله أبو العالية. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 545.

112- رواه ابن عباس عن علي (عليه السلام) كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 427.

113- الأدرة: نفخة في الخصية، يقال: رجل آدر بين الأدرة. (الصحاح: مادة أدر).

114- ما رواه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 337 باسناده إلى أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبه قال سعيد.

115- الوصم: العيب والعار. (الصحاح: مادة وصم).

116- يقال: صار هذا الأمر سبة عليه أي: عارا. (لسان العرب: مادة سبب).

117- في نسخة: " القول العدل ".

118- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 564.