سورة فاطر أو سورة الملائكة

سورة فاطر أو سورة الملائكة (1)

مكية (2) إلا آيتين، وهي خمس وأربعون آية، (لهم عذاب شديد) (3)، و (أن تزولا) (4)، و (تبديلا) (5) ثلاثهن بصري جديد، و (البصير) (6) و (النور) (7) غيرهم (8).

في حديث أبي: " من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب من أبواب الجنة: أن أدخل من أي الأبواب شئت " (9).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملئكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلث وربع يزيد في الخلق ما يشآء إن الله على كل شىء قدير (1) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ى وهو العزيز الحكيم (2) يأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خلق غير الله يرزقكم من السمآء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور (4) يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيواة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5)﴾

(فاطر السموات) إن جعلت الإضافة لفظية - بأن تكون في تقدير الانفصال - فهو بدل، وإن جعلتها معنوية فهو صفة (مثنى وثلث وربع) صفة لـ (أجنحة) عدلت عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ومعنى العدل: أنك أردت بمثنى ما أردت باثنين اثنين، والأصل أن تريد بالكلمة معناها دون كلمة أخرى، والعدل: أن تلفظ بكلمة وأنت تريد كلمة أخرى، والمعنى: أنه جعل من الملائكة خلقا أجنحتهم اثنان اثنان، أي: لكل واحد جناحان، وخلقا أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة (يزيد في) خلق الأجنحة وفي غير ذلك (ما يشآء) مما تقتضيه حكمته ومشيئته.

والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من: طول قامة، واعتدال صورة، وقوة في البطش، وحصافة في العقل.

إلى غير ذلك، وقيل: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن (10).

(ما يفتح الله) يعني: أي شيء يطلق الله (من رحمة) أي: من نعمة رزق أو مطر أو عافية أو صحة أو غير ذلك من أصناف نعمه (فلا) أحد يقدر على إمساكها، وأي شيء (يمسك) الله فلا أحد يقدر على إطلاقه، والفتح مستعار للإطلاق والإرسال بدلالة قوله: (فلا مرسل له) مكان " لا فاتح له "، وإنما نكر " الرحمة " لإرادة الشياع، كأنه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، وأنث الضمير أولا وذكره ثانيا وهو يرجع في الحالين معا إلى ما حملا على اللفظ والمعنى، ولأن الأول فسر بالرحمة فتبع الضمير التفسير، والثاني لم يفسر فترك على أصل التذكير، ولأن تفسير الثاني يحتمل أن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته.

وإنما فسر الأول دون الثاني ليدل على أن رحمته سبقت غضبه.

و (اذكروا نعمت الله عليكم) بالقلب واللسان، واحفظوها عن الغمط والكفران، واشكروها بالاعتراف بها وطاعة موليها! (هل من خلق غير الله) قرئ: (غير) بالرفع والجر (11) على الوصف لفظا ومحلا، و (يرزقكم) يجوز أن يكون في محل جر بأن يكون صفة لـ (خلق)، وأن لا يكون له محل بأن يكون محل (من خلق) رفعا بإضمار " يرزقكم "، ويفسره هذا الظاهر، أو يكون كلاما مستأنفا بعد قوله: (هل من خلق غير الله)، وعلى هذا الوجه الثالث يكون فيه دلالة على أن الخالق لا يطلق على غير الله عز وجل، وأما على الوجهين المتقدمين من الوصف والتفسير فلا دليل فيه على اختصاص الاسم بالله عز وجل؛ لأنه تقيد بالرزق من السماء والأرض (12) وخرج من الإطلاق، والرزق من السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات (لا إله إلا هو) جملة مفصولة لا محل لها (فأنى تؤفكون) فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك، وعن الحق إلى الباطل؟وقيل: كيف تصرفون عن هذه الدلالة التي أقيمت (13) لكم على التوحيد مع وضوحها؟ الأصل: (وإن يكذبوك) فتأس بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع (فقد كذبت رسل من قبلك) موضع " فتأس به " استغناء بالسبب عن المسبب، أعني: بالتكذيب عن التأسي، ونكر (رسل) لأن تقديره: رسل ذوو عدد كثير وأولو آيات ومعجزات، ونحو ذلك.

(إن وعد الله) الذي هو البعث والنشور والجنة والنار والجزاء والحساب (حق فلا) تخدعنكم (الحيوة الدنيا) فتغتروا بملاذها، فإنها عن قليل تنفد وتبيد، و (الغرور): الشيطان، أو الدنيا وزينتها.

﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحب السعير (6) الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم مغفرة وأجر كبير (7) أفمن زين له سوء عمله ى فرءاه حسنا فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشآء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (8) والله الذي أرسل الريح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9) من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصلح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10)﴾

لما ذكر الكافرين والمؤمنين قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفمن زين له سوء عمله) من هذين الفريقين كمن لم يزين له؟فكأن النبي (عليه السلام) قال: لا، فقال: (فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي على صفة لا يجدي عليه اللطف فيستوجب أن يخليه الله وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال فيرى القبيح حسنا والحسن قبيحا، وإذا خذله الله فمن حق الرسول صلوات الله عليه أن لا يهتم بأمره ولا يتحسر.

وعن الزجاج: أن المعنى: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة؟فحذف لدلالة (فلا تذهب نفسك) عليه، أو: أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله؟فحذف لدلالة (فإن الله يضل من يشآء ويهدى من يشآء) عليه (14).

و (حسرت) مفعول له، أي: ولا تهلك نفسك للحسرات، و (عليهم) صلة (تذهب) كما تقول: هلك عليه حبا، ويجوز أن يكون حالا، كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر.

(فتثير سحابا) أي: تهيجه، وجاء على لفظ المضارع دون ما قبله وما بعده لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة الربانية، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها لما كان من الدلائل على القدرة، قال: (فسقناه.

فأحيينا) معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص، والكاف في (كذلك) في محل الرفع، أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات.

تقديره: من يريد العزة فليطلبها عند الله، فوضع قوله: (فلله العزة جميعا) موضعه استغناء به عنه؛ لدلالته عليه، فإن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه، ومعناه: العزة كلها مختصة بالله: عزة الدنيا وعزة الآخرة، فمن أراد العزة فليتعزز بطاعة الله.

ويدل عليه ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز " (15).

ثم عرف سبحانه أن ما يطلب به العزة عنده هو الإيمان والعمل الصالح بقوله: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصلح يرفعه) والكلم: جمع كلمة، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء جاز فيه التذكير والتأنيث، يقول: هذا كلم وهذه كلم، ومعنى الصعود هنا هو القبول، وكل ما يتقبله الله تعالى من الطاعات يوصف بالرفع والصعود، لأن الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ويرفعونها إلى حيث يشاء الله تعالى، كما في قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين) (16)، و (الكلم الطيب): تمجيده وتقديسه وتحميده، وأطيب الكلم: لا إله إلا الله (والعمل الصلح يرفعه) أي: يرفع الكلم الطيب إلى الله، فالهاء ضمير (الكلم)، وقيل: معناه: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب (17)، أي: لا ينفع العمل إلا إذا صدر عن التوحيد، وقيل: معناه: والعمل الصالح يرفعه الله لصاحبه (18).

فعلى الوجهين الأخيرين يكون الهاء ضمير (العمل).

(والذين يمكرون) المكرات (السيئات) أو أصناف المكر السيئات، فهي صفة للمصدر أو لما في حكمه، وقيل: عنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى المكرات الثلاث: إما إثبات رسول الله، وإما قتله، وإما إخراجه، كما حكى الله عنهم في قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الآية (19)، (20) (ومكر أولئك) الذين مكروا تلك المكرات (هو) خاصة (يبور) أي: يكسد ويفسد دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع الله عليهم مكراتهم.

﴿والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره ى إلا في كتب إن ذلك على الله يسير (11) وما يستوي البحران هذا عذب فرات سآبغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ى ولعلكم تشكرون (12) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ى ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيمة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14) يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغنى الحميد (15) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (16) وما ذلك على الله بعزيز (17)﴾

(أزوجا) أي: أصنافا وضروبا، أو: ذكرانا وإناثا، ولا (تحمل) من الإناث حاملة ولدها في بطنها (ولا تضع إلا بعلمه) إلا وهو عالم بذلك (وما يعمر من معمر) معناه: وما يعمر من أحد، وإنما سماه معمرا بما هو صائر إليه (ولا ينقص من عمره) بأن يذهب بعضه بمضي الليل والنهار (إلا وهو في كتب) محفوظ أثبته الله قبل كونه، وقيل: معناه: لا يطول عمر ولا يقصر إلا في كتاب الله، وهو أن يكتب في اللوح المحفوظ: لو أطاع الله فلان بقي إلى وقت كذا، وإذا عصى نقص من عمره الذي وقت له (21).

وإليه أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: " إن الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار " (22).

ثم ضرب " البحرين ": العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمة (ومن) كل واحد منهما (تأكلون لحما طريا) وهو السمك (وتستخرجون حلية) وهو اللؤلؤ والمرجان (من فضله) من فضل الله، ولم يجر له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر ذكره لم يشكل؛ لدلالة المعنى عليه، وحرف الرجاء مستعار بمعنى الإرادة؛ كأنه قيل: لتبتغوا ولتشكروا.

ويحتمل غير طريقة الاستطراد وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ويفضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع: من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه، والكافر خال من النفع.

(ذلكم) مبتدأ، و (الله ربكم له الملك) أخبار مترادفة، و القطمير: قشر النواة.

(لا يسمعوا دعاءكم) لأنهم جماد (ولو سمعوا) على سبيل الفرض والتقدير لـ (ما استجابوا لكم) لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية (ويوم القيمة يكفرون) بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم، يقولون: (ما كنتم إيانا تعبدون) (23)، (ولا ينبئك مثل خبير) ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به، يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين، والمعنى: أن ما أخبرتكم به من حال معبوديهم هو الحق، لأني عالم خبير بما أخبرتكم به.

وعرف الفقراء ليريهم سبحانه أنهم جنس الفقراء لشدة افتقارهم إليه، ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء، ولما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم ذكر (الحميد) ليدل به على أنه الغني النافع خلقه بغناء المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه، و " العزيز ": الممتنع.

﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلوة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ى وإلى الله المصير (18) وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الاحيآء ولا الأموات إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت إلا نذير (23) إنآ أرسلنك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتب المنير (25) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير (26)﴾

وزر الشيء: حمله (ولا تزر) أي: لا تحمل نفس وزارة يوم القيامة إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بوزر غيرها.

وفيه دلالة على أنه سبحانه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها (وإن تدع) نفس (مثقلة) بالآثام غيرها إلى أن تحمل شيئا من إثمها لم تجب ولم تغث ولم يحمل شيء من حملها ولو كان المدعو بعض قرابتها وأقرب الناس إليها، فكل نفس بما كسبت رهينة.

وقوله: (بالغيب) حال من الفاعل أو المفعول، أي: (يخشون ربهم) غائبين عن عذابه، أو: يخشون عذابه غائبا عنهم (ومن تزكى) ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي، (وإلى الله المصير) وعد لمن تزكى بالثواب.

(وما يستوي الأعمى والبصير) الفرق بين الواوات أن بعضها ضمت شفعا إلى شفع، وبعضها ضمت وترا إلى وتر، والواو ربما قرن بها " لا " في النفي؛ لتأكيد معنى النفي.

و (الحرور) و " السموم ": الريح الحارة، وقيل: إن الأعمى والبصير مثل للمؤمن والمشرك، و " الظلمات والنور " للشرك والإيمان، و " الظل والحرور " للجنة والنار و " الأحياء والأموات " للمؤمنين والكفار (24)، أو العلماء والجهال (25).

(إن أنت إلا نذير) أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع نفعه إنذارك، وإن كان من المصرين فلا عليك إلا التبليغ (بالحق) حال من أحد الضميرين، بمعنى: محقا أو محقين، أو صفة للمصدر أي: إرسالا مصحوبا بالحق، أو صلة (بشيرا ونذيرا) أي بشيرا بالوعد الحق، ونذيرا بالوعيد الحق، واكتفى في آخر الآية بذكر النذير عن البشير؛ لأن النذارة لما كانت مقرونة بالبشارة دلت إحداهما على الأخرى، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما.

(بالبينات) يريد: المعجزات الدالة على النبوة (وبالزبر) يريد: الصحف (وبالكتاب المنير) يريد: التوراة والإنجيل.

﴿ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ى ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدوآب والانعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلمؤا إن الله عزيز غفور (28) إن الذين يتلون كتب الله وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ى إنه غفور شكور (30)﴾

(ألوانها) أجناسها من التين والرمان والعنب وغيرها.

أو هيئاتها من الصفرة والخضرة والحمرة ونحوها، و " الجدد ": الخطط والطرائق، وجدة الحمار هي الخطة السوداء على ظهره و (غرابيب) معطوف على (بيض) أو على (جدد)، كأنه قال: (ومن الجبال) مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد: غرابيب (26).

وعن عكرمة: هي الجبال الطوال السود (27).

والوجه في قوله: (وغرابيب سود) مع أن " الغرابيب " يكون تأكيد الأسود، أن يضمر المؤكد قبله ويكون (سود) الظاهر تفسيرا للمضمر، كقول النابغة: والمؤمن العائذات الطير يمسحها * ركبان مكة بين الغيل والسند (28) وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعا، ولابد من تقدير حذف المضاف في قوله: (ومن الجبال جدد بيض) أي: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود غرابيب، حتى يؤول إلى قوله: (ومن الجبال.

مختلف ألوانها) كما قال: (ثمرات مختلفا ألوانها).

(ومن الناس والدوآب والانعام مختلف ألوانه) يعني: ومنهم بعض مختلف ألوانه كذلك، أي: كاختلاف الثمرات والجبال، وتم الكلام ثم قال: (إنما يخشى الله من عباده العلمؤا) والمعنى: أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، إذ عرفوه حق معرفته، وعلموه حق علمه.

وعن الصادق (عليه السلام): " يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم " (29).

(إن الذين يتلون كتب الله) أي: يداومون على تلاوته، وهي شأنهم وديدنهم، وعن مطرف: هي آية القراء (30).

و (يرجون) خبر (إن)، (لن تبور) لن تكسد ولن تفسد، وتعلق به (ليوفيهم) أي: تجارة تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده (أجورهم) وهي ما استحقوه من الثواب (ويزيدهم) على قدر (31) استحقاقهم (من فضله)، وإن شئت جعلت (يرجون) في موضع الحال، بمعنى: فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق راجين تجارة مربحة ليوفيهم، وخبر (إن) قوله: (إنه غفور شكور) أي: غفور لهم وشكور لأعمالهم.

﴿والذي أوحينا إليك من الكتب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده ى لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ى ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنت عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذيأحلنا دار المقامة من فضله ى لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب (35)﴾

(من الكتب) يعني: القرآن، و (من) للتبيين، أو يريد الجنس و (من) للتبعيض، (مصدقا) حال مؤكدة؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق (لما بين يديه) أي: لما تقدمه من الكتب، إنه (بعباده لخبير بصير) يعني: إنه خبرك وأبصر شمائلك فرآك أهلا لما أوحاه إليك من الكتاب المعجز.

(ثم أورثنا الكتب) المعنى: إنا أوحينا إليك القرآن مصدقا لما قبله من الكتب موافقا لما بشرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به، ثم أورثناه الذين اصطفينا من عبادنا بعدك وهم علماء الأمة، لما ورد في الحديث: " أن العلماء ورثة الأنبياء " (32)، والمروي عن الباقر والصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: " هي لنا خاصة، وإيانا عنى " (33).

وهذا هو الصحيح؛ لأن الوصف بالاصطفاء أليق بهم، إذ هم ورثة الأنبياء، وقدوة العلماء، المستحفظون للكتاب، العارفون بحقائقه.

(فمنهم ظالم لنفسه) وعن ابن عباس والحسن: أن الضمير للعباد (34)، واختاره المرتضى قدس روحه قال: علل تعليقه سبحانه وراثة الكتاب بالمصطفين من عباده بأن فيهم من هو ظالم لنفسه ومن هو (مقتصد) ومن هو (سابق بالخيرت) (35).

وقيل: إن الضمير للذين اصطفاهم الله (36).

وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الظالم لنفسه منا: من لا يعرف حق الإمام، والمقتصد منا: العارف بحق الإمام، والسابق بالخيرات: هو الإمام " (37).

وكلهم مغفور لهم، وذلك لاصطفاء وإيراث الكتاب، أو: ذلك السبق بالخيرات هو (الفضل الكبير).

(جنت عدن) بدل من (الفضل الكبير) الذي هو السبق بالخيرات، لأنه لما كان السبب في نيل الثواب نزله منزلة المسبب، كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه (جنت عدن) وقرئ: " يدخلونها " على البناء للمفعول (38)، (من أساور): " من " للتبعيض، أي: (يحلون) بعض أساور، كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسورون به غيرهم.

وفي ذكر " الشكور " دلالة على كثرة حسناتهم و (المقامة) بمعنى الإقامة (من فضله) من عطائه وأفضاله.

و النصب: العناء والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له، واللغوب: الإعياء والفتور الذي يلحق بسبب النصب، فاللغوب نتيجة النصب.

﴿والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور (36) وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صلحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظلمين من نصير (37) إن الله علم غيب السموات والارض إنه عليم بذات الصدور (38) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكفرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكفرين كفرهم إلا خسارا (39) قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم ءاتينهم كتبا فهم على بينت منه بل إن يعد الظلمون بعضهم بعضا إلا غرورا (40)﴾

(فيموتوا) جواب النفي (كذلك) أي: مثل ذلك الجزاء (نجزى) وقرئ: " يجزى " (39).

(وهم يصطرخون) أي: يتصارخون (فيها) يفتعلون من الصراخ وهو الصياح باستغاثة وجهد وشدة.

والفائدة في قولهم: (غير الذي كنا نعمل) من غير اكتفاء بقولهم: (صلحا) أنه للتحسر على ما عملوا من غير الصالح مع الاعتراف به، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة فقالوا: (أخرجنا نعمل صلحا غير الذي كنا) نحسبه صالحا فنعمله: (أولم نعمركم) توبيخ من الله، فيقول لهم وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، وإن كان التوبيخ في المتطاول أعظم، وقد قيل: إنه ستون سنة (40)، وقيل: أربعون (41)، وقيل: ثماني عشرة سنة (42) (وجآءكم النذير) عطف على معنى (أولم نعمركم) كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القرآن، وقيل: النذير: الشيب (43)، وقيل: موت الأهل والأقارب (44) (فذوقوا) العذاب.

(إنه عليم بذات الصدور) كالتعليل، لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم كل غيب في العالم، وذات الصدور: مضمراتها وهي تأنيث " ذو "، وذو موضوع بمعنى الصحبة، فالمضمرات تصحب الصدور.

والخلائف: جمع خليفة وهو المستخلف (فعليه كفره) أي: ضرر كفره وعقاب كفره، والمقت: أشد البغض، وقيل لمن نكح امرأة أبيه: مقتي لكونه ممقوتا في كل قلب.

(أروني) بدل من (أرأيتم) لأن معنى " أرأيتم ": أخبروني، فكأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به العبادة، أروني أي جزء (من) أجزاء (الأرض) خلقوه بأنفسهم (أم لهم) مع الله شركة في خلق (السموت) والأرض أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاء (فهم على) حجة من ذلك الكتاب؟أو يكون الضمير للمشركين كقوله: (أم ءاتينهم كتبا) من قبل أم أنزلنا عليهم سلطانا (بل إن يعد) أي: ما يعد (الظلمون بعضهم) وهم الرؤساء (بعضا) وهم الأتباع (إلا غرورا) وهو قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

﴿إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده ى إنه كان حليما غفورا (41) وأقسموا بالله جهد أيمنهم لبن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42) استكبارا في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ى فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شىء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44) ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده ى بصيرا (45)﴾

(أن تزولا) كراهة أن تزولا، أو: يمنعهما من أن تزولا، لأن الإمساك منع (إنه كان حليما غفورا) غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما، وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا لعظم كلمة الشرك كما يقال: (تكاد السموت يتفطرن منه وتنشق الأرض) (45)، و (إن أمسكهما) جواب القسم سد مسد جواب الشرط في (ولئن زالتا)، و (من) الأولى مزيدة والثانية للابتداء: " من بعد إمساكه ".

أي: أقسموا بأيمان غليظة (لئن جآءهم نذير) من جهة الله (ليكونن أهدى) إلى قبول قوله (من إحدى الأمم) الماضية، يعنون اليهود والنصارى.

(ما زادهم) إسناد مجازي لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم (نفورا) من الحق.

(استكبارا) بدل من (نفورا)، أو مفعول له بمعنى: إلا أن نفروا لاستكبارهم ومكرهم، أو حال يعني: مستكبرين وماكرين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين.

ويجوز أن يكون (ومكر السييء) معطوفا على (نفورا) وأصله: وإن مكروا السيء أي: المكر السيء ثم ومكر السيء، ويدل عليه: (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).

وعن كعب الأحبار أنه قال لابن عباس: قرأت في التوراة أنه من حفر مغواة وقع فيها، قال: إني وجدت ذلك في كتاب الله، وقرأ الآية (46).

وفي أمثال العرب: " من حفر جبا وقع فيه منكبا " (47).

وقرأ حمزة: " ومكر السيء " بسكون الهمزة (48)، وذلك لاستثقاله الحركات مع الياء والهمزة، ولعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة (فهل ينظرون إلا) عادة الله في (الأولين) المكذبين للرسل، وهو إنزال العذاب بهم وإهلاكهم؟جعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم، والتبديل: تصيير الشيء مكان غيره، والتحويل: تصيير الشيء في غير المكان الذي كان فيه.

والتغيير: تصيير الشيء على خلاف ما كان (ليعجزه) أي: ليسبقه ويفوته.

(بما كسبوا) من الشرك والتكذيب.

الضمير في (ظهرها) للأرض وإن لم يجر لها ذكر لعدم الالتباس، أي: ما ترك على ظهر الأرض (من دآبة) أي: نسمة تدب عليها، يريد: بني آدم، وقيل: ما ترك بني آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم كفرهم ومعاصيهم (49) (إلى أجل مسمى) إلى يوم القيامة (كان بعباده بصيرا) وعيد بالجزاء.

1- في بعض النسخ: " سورة الملائكة ".

2- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 410: مكية في قول مجاهد وقتادة، لا ناسخ فيها ولا منسوخ وبه قال الحسن، إلا آيتين قوله: (إن الذين يتلون كتاب الله) إلى قوله: (الفضل الكبير) وهي خمس وأربعون آية عراقي وحجازي إلا إسماعيل، وست وأربعون في عدد إسماعيل والشاميين. وفي الكشاف: ج 3 ص 595: مكية وهي خمس وأربعون آية نزلت بعد الفرقان.

3- الآية: 7.

4- الآية: 41.

5- الآية: 43.

6- الآية: 19.

7- الآية: 20.

8- أي غير البصري.

9- أورده الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 619 مرسلا.

10- قاله القشيري كما في تفسير القرطبي: ج 14 ص 320، وأورده الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 596 مرويا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

11- وبالجر قرأه حمزة والكسائي. راجع التبيان: ج 8 ص 411.

12- في نسخة: " إلى الأرض ".

13- في نسخة: " الأدلة التي أقمتها لكم ".

14- معاني القرآن: ج 4 ص 264.

15- رواه البيهقي في الصفات والأسماء: ص 34.

16- المطففين: 18.

17- قاله الحسن البصري في تفسيره: ج 2 ص 224.

18- قاله قتادة والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 464.

19- الأنفال: 30.

20- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 603.

21- قاله الفراء في معاني القرآن: ج 2 ص 368.

22- رواه المنذري في الترغيب والترهيب: ج 3 ص 335.

23- يونس: 28.

24- قاله قتادة والسدي. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 469.

25- وهو قول ابن قتيبة. راجع المصدر السابق.

26- كذا في النسخ وفي الكشاف أيضا. وفي بعض حواشي الكشاف: " لعله غربيب ".

27- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 609.

28- من قصيدة يمدح بها النعمان ملك الحيرة، وهو أحسن شعره، ولهذا ألحقوها بالقصائد المعلقات. أنظر ديوان النابغة الذبياني: ص 28 وفيه: " السعد " بدل " السند ".

29- رواه الكليني في الكافي: ج 1 ص 36 ح 2 بإسناده عن الحارث بن المغيرة.

30- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 611.

31- في نسخة: " قلة ".

32- رواه الترمذي في سننه: ج 5 ص 49 ذ ح 2682، والدارمي أيضا في سننه: ج 1 ص 98 كلاهما عن أبي الدرداء.

33- المناقب لابن شهر آشوب: ج 4 ص 130.

34- تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 223، تفسير القرطبي: ج 14 ص 346.

35- رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثالثة): ص 102.

36- حكاه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 473.

37- رواه الصدوق في معاني الأخبار: 104.

38- قرأه أبو عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 534.

39- قرأه أبو عمرو. راجع التيسير في القراءات للداني: ص 182.

40- وهو قول علي (عليه السلام). راجع التبيان: ج 8 ص 434.

41- قاله ابن عباس ومسروق. راجع المصدر السابق.

42- قاله قتادة وعطاء والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 3 ص 573.

43- حكاه الفراء والطبري كما في تفسير الماوردي: ج 4 ص 476.

44- ذكره الماوردي في تفسيره.

45- مريم: 90.

46- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 619. والمغواة: بئر تحفر وتغطى للسبع أو للضبع والذئب، ويجعل فيها جدي إذا نظر السبع إليه سقط عليه يريده فيصاد.

47- أنظر جمهرة الأمثال للعسكري: ج 2 ص 289.

48- أنظر التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 628.

49- قاله ابن مسعود. راجع تفسير الماوردي: ج 4 ص 479.