سورة يس

مكية (1) إلا آية، وهي ثلاث وثمانون آية كوفي، واثنتان غيرهم، (يس) كوفي.

وفي حديث أبي: " من قرأ سورة يس يريد بها وجه الله عز وجل غفر الله له، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة.

وأيما مريض قرئت عنده سورة يس نزل عليه بعدد كل حرف منها عشرة أملاك، يقومون بين يديه صفوفا، ويستغفرون له، ويشهدون قبضه، ويتبعون جنازته، ويصلون عليه، ويشهدون دفنه " إلى آخر الخبر (2).

وعن الصادق (عليه السلام): " إن لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس، فمن قرأها في نهاره كان من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم، ومن كل آفة، وإن مات في يومه أدخله الله الجنة.

" الخبر بطوله (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يس (1) والقرءان الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط مستقيم (4) تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم فهم غفلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7) إنا جعلنا في أعنقهم أغللا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشينهم فهم لا يبصرون (9) وسوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10)﴾

قرئ (ياسين) بالإمالة والتفخيم (4) في " يا "، وبإظهار النون وإخفائها (5)، وكذلك نون والقلم.

وعن ابن عباس: معناه " يا إنسان " (6)، وعن الحسن: معناه " يا رجل " (7)، وقيل: يا سيد الأولين والآخرين (8).

وعن علي (عليه السلام): هو اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (9).

(والقرآن الحكيم) ذي الحكمة، أو: لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي، أو: لأنه كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به (إنك لمن المرسلين) جواب القسم (على صراط مستقيم) خبر بعد خبر، أو صلة لـ (المرسلين) (10) أي: إنك لمن الرسل الثابتين على طريق ثابت وشريعة واضحة.

وقرئ: (تنزيل) بالرفع (11) على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على: أعني.

(لتنذر قوما) لم ينذر (ءاباؤهم) قبلهم، لأنهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى ونبينا (عليهما السلام)، ومثله: (لتنذر قوما ماءاتهم من نذير من قبلك) (12) (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) (13) فيكون (ما أنذر ءاباؤهم) في موضع نصب على الصفة.

وقد فسر (ما أنذر) على إثبات الإنذار بأن جعل " ما " مصدرية بمعنى: لتنذر قوما إنذار آبائهم، أو: موصولة منصوبة على المفعول الثاني بمعنى: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم من العذاب كقوله: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) (14).

وقوله: (فهم غافلون) على التفسير الأول يتعلق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم سبب غفلتهم، وعلى الثاني يتعلق بقوله: (إنك لمن المرسلين) لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل.

(لقد حق القول على أكثرهم) وهو قوله سبحانه: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (15) أي: ثبت عليهم هذا القول ووجب لأنهم ممن علم من حالهم أنهم يموتون على الكفر.

ثم مثل تصميمهم على الكفر بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدين.

(لا يبصرون) ما بين أيديهم وما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا استبصار (فهي إلى الأذقان) معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان، فلا تخليه يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحا، وهو الذي يرفع رأسه ويغض بصره، ويقال: قمح البعير: إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء، وأقمحتها أنا، وبعير قامح، وإبل قماح، قال الشاعر يصف سفينة: ونحن على جوانبها قعود * نغض الطرف كالإبل القماح (16) وعن ابن عباس: أن المعني بذلك ناس من قريش هموا بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يدا، وخرج إليهم وطرح التراب على رؤوسهم وهم لا يبصرونه (17).

وعلى هذا فيكون معنى " السدين " أنه جعلهم لا يبصرونه، ومعنى (فأغشيناهم): جعلنا على أبصارهم غشاوة وحلنا (18) بينهم وبينه.

﴿إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم (11) إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وءاثرهم وكل شىء أحصينه في إمام مبين (12) واضرب لهم مثلا أصحب القرية إذ جآءها المرسلون (13) إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنآ إليكم مرسلون (14) قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمن من شىء إن أنتم إلا تكذبون (15) قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون (16) وما علينآ إلا البلغ المبين (17) قالوا إنا تطيرنا بكم لبن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم (18) قالوا طائركم معكم أبن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (19) وجآء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يقوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من لا يسلكم أجرا وهم مهتدون (21)﴾

أي: (إنما) ينتفع بإنذارك (من اتبع) القرآن (وخشى) الله متلبسا (بالغيب) يعني في حال غيبته عن الناس (فبشر) من هذه صفته (بمغفرة) من الله لذنوبه (وأجر كريم) ثواب عظيم خالص من الشوب.

(نحى الموتى) نبعثهم يوم القيامة للجزاء، وعن الحسن: إحياؤهم أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان (19).

(ونكتب) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها (وءاثرهم) أي: وأعمالهم التي صارت سنة من بعدهم يقتدى فيها بهم حسنة كانت أم قبيحة، ومن الآثار الحسنة: علم علم أو كتاب في الدين صنف أو صدقة أجريت أو وقف وقف أو مسجد لله بني.

ونحو ذلك، ومن الآثار السيئة: وظيفة ضارة على المسلمين وظفت أو شيء صاد عن ذكر الله من الملاهي والألحان أحدث.

ونحو ذلك، ومثله قوله تعالى: (ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) (20) أي: قدم من أعماله وأخر من آثاره، وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد (21).

وقال (عليه السلام): " إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم " (22).

والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو صحائف الأعمال سماه مبينا لأنه لا يندرس أثره (23).

(واضرب لهم مثلا) مثل لهم من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال، والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل (أصحاب القرية) والمثل الثاني بيان للأول، و (إذ) بدل من (أصحب القرية)، والقرية: أنطاكية، والمرسلون: رسل عيسى (عليه السلام) إلى أهلها، بعثهم دعاة إلى الحق، وكانوا عبدة الأوثان، وإنما أضاف سبحانه إرسالهم إلى نفسه لأنه أرسلهم بأمره (فعززنا) فقويناهما وشددنا ظهورهما برسول ثالث، يقال: المطر يعزز الأرض أي: يلبدها ويشدها، وقرئ: " فعززنا بثالث " بالتخفيف (24) من: عزه يعزه إذا غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا بثالث.

وترك ذكر المفعول به لأن الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون الصفا رأس الحواريين.

(قالوا إنا إليكم مرسلون) أولا و (إنا إليكم لمرسلون) ثانيا، لأن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار، قوله: (ربنا يعلم) جار مجرى القسم في التوكيد، ومثله قولهم: شهد الله وعلم الله، وإنما حسن منهم هذا الجواب الوارد على سبيل التوكيد لأنهم حققوه بقوله: (وما علينا إلا البلاغ المبين) وهو الظاهر المكشوف بالآيات والمعجزات الشاهدة بصحته، وإلا فلو قال المدعي: والله إني لصادق فيما أدعي، ولم يحضر البينة لكان قبيحا.

(قالوا إنا تطيرنا) أي: تشأمنا (بكم) وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم (لئن لم تنتهوا) عما تدعونه من الرسالة (لنرجمنكم) بالحجارة أو لنشتمنكم، قال الرسل: (طائركم معكم) أي: سبب شؤمكم معكم، وهو إقامتكم على الكفر والشرك، فأما الدعاء إلى الإيمان والتوحيد ففيه غاية اليمن والبركة (أئن ذكرتم) أي: أتطيرون إن ذكرتم، وقرئ: " أن ذكرتم " بالفتح (25)، بمعنى: أتطيرتم لان ذكرتم، (بل أنتم قوم مسرفون) في العصيان، فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل الرسل وتذكيرهم إياكم، بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم، متمادون في غوايتكم حيث تتشأمون بمن يتبرك به.

(رجل يسعى) هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان منزله عند (أقصى) باب من أبواب المدينة، فلما بلغه أن قومه هموا بقتل الرسل (جاء) يعدو ويشتد.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام، وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون، وعلي (عليه السلام) أفضلهم " (26).

وقوله: (من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون) كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فتفوزون بخير الدنيا والآخرة.

﴿وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) ءأتخذ من دونه ى ءالهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفعتهم شيئا ولا ينقذون (23) إنى إذا لفي ضلل مبين (24) إنى ءامنت بربكم فاسمعون (25) قيل ادخل الجنة قال يليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين (27) ومآ أنزلنا على قومه ى من بعده ى من جند من السمآء وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة وا حدة فإذا هم خمدون (29) يحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به ى يستهزءون (30)﴾

أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم تلطفا لهم، فكأنه قال: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ألا ترى إلى قوله: (وإليه ترجعون) ولم يقل: وإليه أرجع، ثم ساق كلامه ذلك المساق إلى أن قال: (إني آمنت بربكم فاسمعون) يريد: فاسمعوا قولي وأطيعوني فقد نبهتكم على الحق الصريح والدين الصحيح الذي لا محيص عنه، وهو أن العبادة لا تصح إلا لمن أنشأ خلقكم (27) وأوجدكم وإليه مرجعكم، ومن أنكر الأشياء في العقل أن تؤثروا على عبادته عبادة أشياء، إن أرادكم هو (بضر) وشفع لكم هؤلاء لم ينفعكم شفاعتهم ولم يقدروا على إنقاذكم، إنكم في هذا الاختيار لواقعون (في ضلال) ظاهر بين لا يخفى على ذي حجى.

ثم إن قومه لما سمعوا منه ذلك القول وطؤوه بأرجلهم حتى مات، فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق، وذلك قوله: (قيل ادخل الجنة)، وقيل: إنهم قتلوه على أن الله سبحانه أحياه وأدخله الجنة، فلما دخلها (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربى) (28) تمنى أن يعلم قومه ما أعطاه الله تعالى من المغفرة وجزيل الثواب ليرغبوا في مثله، ويؤمنوا لينالوا ذلك.

وورد في حديث مرفوع: " أنه نصح قومه حيا وميتا " (29).

و " ما " في (بما غفر لي) مصدرية أو موصولة، أي: بمغفرة ربي لي، أو: بالذي غفره ربي لي من الذنوب، ويجوز أن تكون استفهامية أي: بأي شيء غفر لي؟يريد ما كان منه معهم من المصابرة على الجهاد في إعزاز دين الله حتى قتل، إلا أنه على هذا الوجه " بم غفر لي " بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا.

(وما أنزلنا على قومه من) بعد قتله (من جند) أي: لم تنزل لإهلاكهم جندا من جنود السماء كما فعلنا يوم بدر (وما كنا) منزليهم على الأمم إذ أهلكناهم.

(إن كانت إلا صيحة وحدة) أي: لم تكن مهلكتهم عن آخرهم إلا بأيسر أمر (صيحة وحدة) أخذ جبرائيل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة فماتوا من آخرهم، لا يسمع لهم حس، كالنار إذا طفئت.

وكأنه قال عز اسمه: إن إنزال الجنود من السماء من عزائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك يا محمد، حيث أنزلوا يوم بدر والخندق وما كنا نفعله بغيرك.

وقرئ: " إلا صيحة " بالرفع (30) على " كان " التامة، أي: ما وقعت إلا صيحة، والقياس التذكير؛ لأن المعنى: ما وقع شيء إلا صيحة، ولكن جوز ذلك لأن " الصيحة " في حكم فاعل الفعل، ومثله بيت ذي الرمة: وما بقيت إلا الضلوع الجراشع (31) والقراءة بالنصب على معنى: إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة.

(يا حسرة على العباد) نوديت الحسرة كأنها قيل لها: تعال يا حسرة فهذا من أوقاتك التي حقك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون، أو: هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين، ويجوز أن يكون من جهة الله تعالى على سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه على أنفسهم، وفرط إنكاره له وتعجبه منه.

وروي عن أبي بن كعب وابن عباس وعلي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام): " يا حسرة العباد ? (32) على الإضافة إليهم لاختصاصها بهم من حيث إنها موجهة إليهم.

﴿ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32) وءاية لهم الأرض الميتة أحيينها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنت من نخيل وأعنب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره ى وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحن الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36) وءاية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجرى لمستقر لها ذا لك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرنه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)﴾

(ألم يروا) ألم يعلموا، وهو معلق عن العمل في (كم) لأن " كم " لا يعمل فيها عامل قبلها، سواء كانت للاستفهام أم للخبر؛ لأن أصلها للاستفهام، و (أنهم إليهم لا يرجعون) بدل من (كم أهلكنا) على المعنى لا على اللفظ، والتقدير: أولم يروا كثرة إهلاكنا القرون قبلهم كونهم غير راجعين إليهم، أي: لا يعودون إلى الدنيا، أفلا يعتبرون بهم؟ وقرئ: " لما " بالتخفيف (33) على أن يكون " ما " صلة للتوكيد، و (إن) مخففة من الثقيلة والتقدير: إن كلهم لمجموعون محشورون محضرون للحساب.

وقرئ: (لما) بالتشديد بمعنى " إلا " كمسألة الكتاب: نشدتك بالله لما فعلت، و (إن) نافية والتقدير: ما كل إلا مجموعون محضرون لدينا، والتنوين في (كل) عوض من المضاف إليه، والـ (جميع) فعيل بمعنى مفعول، يقال: حي جميع، وجاؤوا جميعا.

والقراءة بالميتة مخففة أشيع وأسلس على اللسان، و (أحييناها) استئناف، بيان لكون الأرض الميتة آية، ودلالة لهم على قدرة الله على البعث، وكذلك (نسلخ) ويجوز أن يكون صفتين لـ (الأرض) و (الليل) لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين، لا " أرض " ولا " ليل " بأعيانهما، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالجمل، ونحوه: ولقد أمر على اللئيم يسبني (34) أي: أحييناها بالنبات، و (أخرجنا منها) كل حب يتقوتونه مثل: الحنطة والشعير والأرز ونحوها (فمنه يأكلون) قدم الظرف للدلالة على أن الحب هو الذي يتعلق به معظم العيش ويتقوم بالإرزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء القحط.

وخص النخيل والأعناب لكثرة أنواعهما ومنافعهما (وفجرنا) في الأرض أو في الجنات من عيون الماء (ليأكلوا من ثمره) والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر، ومما (عملته أيديهم) من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال، إلى أن بلغ الثمر منتهاها وأوان أكلها.

وقرئ: (ثمره) و " ثمره " بفتحتين وضمتين (35) وضمة وسكون (36)، وأصله: " من ثمرنا " كما قال: (وجعلنا) و (فجرنا) فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات، ويجوز أن يكون الضمير ل? " النخيل " وتترك " الأعناب " غير مرجوع إليها الضمير؛ لأنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره، ويجوز أن يراد به: من ثمره المذكور وهو الحبات، كما قال رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق (37) فسئل عنه فقال: أردت كأن ذلك.

ويجوز أن يكون (ما) في (ما عملته) نافية، أي: ولم يعمل تلك الثمار أيديهم ولا يقدرون عليه، وقرئ على الوجه الأول: " وما عملت أيديهم " من غير هاء (38).

و (الأزوج): الأشكال والأصناف والأجناس من الأشياء (ومما لا يعلمون) أي: ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها، ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق الله من الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقا إلى العلم به في بطون الأرض وقعر البحار.

سلخ الشاة: كشط جلدها عنها، فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله (فإذا هم مظلمون) أي: داخلون في ظلام الليل لا ضياء لهم فيه.

(والشمس تجرى لمستقر لها) أي: لحد لها موقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو: منتهى لها من المشارق والمغارب حتى تبلغ أقصاها فذلك مستقرها لأنها لا تعدوه، أو: لحد لها من مسيرها كل يوم في مرائي عيوننا وهو المغرب، وقرأ ابن مسعود: " لا مستقر لها ? (39) وهو قراءة أهل البيت (عليهم السلام) (40) ومعناه: أنها لا تزال تجري لا تستقر ذلك الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي يكل الفطن عن استخراجه، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم.

وقرئ: (والقمر) بالرفع (41) على الابتداء أو عطفا على (الليل) أي: ومن آياته القمر، وبالنصب بفعل مضمر يفسره (قدرنه).

والمعنى: قدرنا مسيره (منازل) وهي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطؤه ولا يتقاصر عنه، على تقدير مستو (حتى عاد كالعرجون القديم) وهو عود العذق الذي تقادم عهده حتى يبس وتقوس، وقيل: إنه يصير كذلك في كل ستة أشهر (42)، قال الزجاج: هو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف (43) والقديم يدق وينحني ويصفر، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.

(لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر) في سرعة سيره فإنها تقطع منازلها في سنة والقمر يقطعها في شهر، ولأن الله سبحانه باين بين فلكيهما ومجاريهما، فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر (ولا الليل سابق النهار) أي: ولم يسبق الليل النهار (وكل) التنوين فيه عوض من المضاف إليه، وكلهم: الشمس والقمر والنجوم (في فلك يسبحون) أي: يسيرون فيه بانبساط، وإنما قيل بالواو والنون لما أضيف إليها ما هو من فعل العقلاء.

وعن ابن عباس: معناه: يجري كل واحد منهما في فلكه كما يدور المغزل في الفلكة (44).

﴿وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ى ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتعا إلى حين (44) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من ءاية من ءايت ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه و إن أنتم إلا في ضلل مبين (47) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صدقين (48) ما ينظرون إلا صيحة وا حدة تأخذهم وهم يخصمون (49) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50)﴾

قرئ: (ذريتهم) على التوحيد و " ذرياتهم " على الجمع (45)، وهم أولادهم ومن يهمهم حمله، وقيل: إن اسم الذرية يقع على النساء لأنهن مزارعها (46).

وفي الحديث: " أنه نهى عن قتل الذراري، وخصهم بالحمل لضعفهم، ولأنه لا قوة لهم على السفر كقوة الرجال " (47).

(وخلقنا لهم من) مثل الفلك (ما يركبون) يعني الإبل، وهي سفن البر، وقيل: (الفلك المشحون) سفينة نوح (48)، و (من مثله) أي: مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق.

(فلا صريخ لهم) أي: لا مغيث لهم، أو: لا إغاثة، يقال: أتاهم الصريخ.

(إلا رحمة منا) أي: لرحمة منا ولتمتع بالحياة إلى أجل يموتون فيه لابد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق.

وجواب (إذا) محذوف يدل عليه قوله: (إلا كانوا عنها معرضين)، كأنه قال: (وإذا قيل لهم اتقوا) أعرضوا، ثم قال: وعادتهم الإعراض عند كل آية وموعظة.

وعن الصادق (عليه السلام): " معناه: اتقوا (ما بين أيديكم) من الذنوب (وما خلفكم) من العقوبة " (إن أنتم إلا في ضلال مبين) قول الله سبحانه، أو حكاية قول المؤمنين لهم، أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين.

وقرئ: (وهم يخصمون) بإدغام التاء من " يختصمون " في الصاد مع فتح الخاء (49)، وكسرها وإتباع الياء الخاء في الكسر، و " يخصمون ? (50) من خصمه يخصمه.

أي: يختصمون في أمورهم ويتبايعون في أسواقهم، يعني: أن القيامة تأتيهم بغتة فلا يقدرون على الإيصاء بشيء، ولا يرجعون إلى منازلهم من الأسواق.

﴿ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52) إن كانت إلا صيحة وا حدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54) إن أصحب الجنة اليوم في شغل فكهون (55) هم وأزواجهم في ظلل على الأرآئك متكون (56) لهم فيها فكهة ولهم ما يدعون (57) سلم قولا من رب رحيم (58) وامتزوا اليوم أيها المجرمون (59) ألم أعهد إليكم يبنى ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)﴾

(الأجداث) القبور (ينسلون) يعدون، وهي النفخة الثانية.

(من بعثنا من مرقدنا) من حشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما؟لأن إحياءهم كالإنباه من الرقاد، وقيل: إنهم عدوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى أهوال القيامة رقادا (51).

وروي عن علي (عليه السلام) أنه قرأ: " من بعثنا ? (52) على " من " الجار، والمصدر (هذا) مبتدأ و (ما وعد) خبره " وما " مصدرية أو موصولة.

ويجوز أن يكون (هذا) صفة لـ (مرقدنا) و (ما وعد) خبر مبتدأ محذوف أي: هذا وعد الرحمن.

وعن قتادة: أول الآية قول الكافر، وآخر الآية (هذا ما وعد الرحمن) قول المسلم (53)، وقيل: هو كلام الكافرين أيضا يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو يجيب بعضهم بعضا (54).

وإذا جعلت " ما " موصولة فتقديره: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون، أي: صدقوا فيه، من قولهم: صدقوهم القتال، والمثل: " صدقني سن بكره " (55)، أي: هو الذي وعده الله في كتبه المنزلة على ألسنة رسله الصادقين، وليس ببعث النائم من مرقده بل هو البعث الأكبر، أي: لم تكن تلك المدة إلا مدة صيحة واحدة، فإذا الأولون والآخرون مجموعون (لدينا) في عرصات القيامة، محصلون في موقف الحساب (فاليوم لا تظلم نفس شيئا).

(إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم، وفي مثل هذه الحكاية تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب في الحرص على العمل بما يثمره ويؤدي إليه (في شغل) وقرئ: " في شغل " بسكون الغين (56) وهما لغتان، أي: في أي شغل لا يحاط بوصفه، وهو النعيم الذي شملهم وشغلهم عما فيه أهل النار فلا يذكرونهم وإن كانوا أقاربهم، وقيل: شغلوا بافتضاض العذارى وباستماع الألحان (57).

وقرئ: (فاكهون) و " فكهون ? (58) والمعنى واحد، أي: متنعمون متلذذون، ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذذ به، وقيل: فرحون طيبو النفوس معجبون بما هم فيه من الفكاهة وهي المزاح والأحاديث الطيبة (59).

(هم) يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون تأكيدا للضمير في (شغل) وفي (فاكهون) على أن (أزوجهم) تشاركهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء (على الأرآئك) تحت الظلال، وقرئ: " في ظلل ? (60) وهو جمع ظلة، والأريكة: السرير في الحجلة، وقيل: كل ما اتكئ عليه فهو أريكة (61) (ولهم ما يدعون) أي: يتمنون ويشتهون، من قولهم: ادع علي ما شئت، يعني: تمنه علي، وقيل: هو يفتعلون من الدعاء، أي: يدعون به لأنفسهم (62)، كقوله: اشتوى إذا شوى لنفسه.

(سلم) بدل من (ما يدعون) كأنه قال لهم: سلام، يقال لهم (قولا) من جهة (رب رحيم)، والمعنى: أن الله سبحانه يسلم عليهم بواسطة الملك أو بغير واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم، ولهم ذلك ما يمنعونه، وقيل: (ما يدعون) مبتدأ، وخبره (سلم) بمعنى: ولهم ما يدعون سلام خالص لا شوب فيه، ف? (قولا) مصدر مؤكد لقوله: (ولهم ما يدعون سلم)، أي: عدة من رب رحيم (63).

(وامتزوا) أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة، يقال: مزته فامتاز وانماز، وعن قتادة: اعتزلوا عن كل خير (64) وعن الضحاك: لكل كافر بيت في النار يدخله فيردم بابه لا يرى ولا يرى (65).

هذا إشارة إلى ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان وطاعة الرحمن (هذا صرط مستقيم) بليغ في استقامته، حقيق بأن يوصف بالكمال في بابه.

﴿ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62) هذه ى جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون (66) ولو نشآء لمسخنهم على مكانتهم فما استطعوا مضيا ولا يرجعون (67) ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68) ومآ علمنه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكفرين (70)﴾

(جبلا) قرئ بضمتين (66) وبضمة وسكون (67) وبضمتين وتشديدة (68) وبكسرتين وتشديدة، ومعناهن جميعا: الخلق الكثير الذي جبلوا على خليقته أضلهم الشيطان بأن دعاهم إلى الضلال (69) وأغواهم.

(اصلوها اليوم) أي: الزموها وصيروا صلاها، أي: وقودها بسبب كفركم وتكذيبكم الأنبياء.

(فاستبقوا الصرط) أي: إلى الصراط، فحذف الجار وأوصل الفعل، أو ضمن " استبقوا " معنى: " ابتدروا "، أو: نصب (الصرط) على الظرف، والمعنى: ولو نشاء لمسخنا أعينهم، فلو حاولوا أن يستبقوا إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه إلى مقاصدهم كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم لم يقدروا، فكيف (يبصرون) ويعلمون جهة السلوك وقد أعميناهم؟والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام.

وقرئ (على مكانتهم) و " مكاناتهم ? (70) على التوحيد والجمع، أي: لمسخناهم مسخا يجمدهم على مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه، بمضي ولا رجوع بأن يجعلهم حجارة، وقيل: لمسخناهم قردة وخنازير في منازلهم فلا يستطيعون (مضيا) عن العذاب ولا رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ (71).

(ومن نعمره ننكسه) (72) أي: نقلبه في الخلق فنخلقه على عكس ما خلقناه قبل، إذ كان يتزايد في القوة والعقل والعلم إلى أن استكمل قوته وبلغ أشده، وإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد وقلة العقل والعلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، كما قال: (ثم رددناه أسفل سافلين) (73) ثم (يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) (74) وقرئ: " ننكسه " من التنكيس.

(وما علمناه) بتعليم القرآن (الشعر) ومعناه: أن القرآن ليس بشعر، ولا مناسبة بينه وبين الشعر، لأن الشعر كلام موزون مقفى، وليس القرآن منه في شيء (وما ينبغى له) أي: وما يصح له، وما ينطلب لو طلب، فلو أراد أن يقول الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، حتى لو تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا، كما روي أنه كان يتمثل بهذا البيت: كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا فقال أبو بكر: إنما قال الشاعر: " كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا " أشهد أنك رسول الله (75).

وأما قوله (عليه السلام): أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب (76) وما روي من نحوه فإن ذلك كلام من جنس كلامه الذي كان يرمى به على السليقة من غير صفة فيه، إلا أنه اتفق أن جاء موزونا من غير قصد منه كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ومحاوراتهم أشياء موزونة ولا يسميها أحد شعرا، ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنه شعر، على أن الخليل لم يكن يعد المشطور من الرجز شعرا (77).

ولما نفى سبحانه أن يكون القرآن شعرا قال: (إن هو إلا ذكر) أي: ما هو إلا ذكر من الله يوعظ به الإنس والجن كما قال: (إن هو إلا ذكر للعلمين) (78) وما هو إلا قرآن يقرأ في المحاريب، وينال بقراءته والعمل بما فيه فوز الدارين.

(لينذر) القرآن أو الرسول (من كان حيا) أي: عاقلا متأملا؛ لأن غير العاقل كالميت، أو من المعلوم من حاله أن يؤمن فيحيا بالإيمان (ويحق القول) أي: ويجب الوعيد (على الكفرين) بكفرهم.

﴿أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعما فهم لها ملكون (71) وذللنها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منفع ومشارب أفلا يشكرون (73) واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75) فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون (76)﴾

(مما عملت أيدينا) أي: ما تولينا خلقه وإنشاءه ولم يقدر على توليه غيرنا (فهم لها ملكون) أي: خلقنا (أنعاما) لأجلهم فملكناهم إياها (فهم) متصرفون فيها تصرف الملاك، أو: فهم لها ضابطون قاهرون، لم نخلقها وحشية نافرة منهم لا يقدرون على ضبطها، فهي مسخرة لهم، وهو قوله: (وذللنها لهم)، والركوب والركوبة: ما يركب، كما أن الحلوب والحلوبة: ما يحلب، أي: فمنها ما ينتفعون بركوبه ومنها ما ينتفعون بذبحه وأكله (ولهم فيها منفع ومشارب) منها لبس أصوافها وأوبارها وأشعارها، وشرب ألبانها إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع بها، والمشارب: جمع المشرب وهو موضع الشراب والشرب.

(اتخذوا ءالهة) يعبدونها طمعا في أن ينصروهم، ويدفعوا عنهم، ويشفعوا لهم عند الله، والأمر على عكس ما قدروا فإنهم يوم القيامة (جند محضرون) لعذابهم لأنهم يجعلون وقود النار، أو: اتخذوهم طمعا في أن يتقووا بهم، والأمر بالضد مما توهموه، إذ هم جند لآلهتهم يخدمونهم ويذبون عنهم، والآلهة ليس لهم قدرة على نصرهم، فلا يهمنك قولهم في تكذيبك وأذاهم إياك، فإنا عالمون بما (يسرون) من عداوتهم (وما يعلنون) وإنا نجازيهم على ذلك.

﴿أولم ير الانسان أنا خلقنه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحى العظم وهى رميم (78) قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذ آ أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السموات والأرض بقدر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلق العليم (81) إنمآ أمره إذ آ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحن الذي بيده ى ملكوت كل شىء وإليه ترجعون (83)﴾

روي: أن أبي بن خلف والعاص بن وائل جاءا بعظم بال متفتت، وقالا: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا ؟! فقال: نعم، فنزلت (79).

قبح الله سبحانه إنكارهم البعث تقبيحا عجيبا، حيث قرره بأن خلقهم من النطفة التي هي أخس شيء، ثم عجب من حالهم بأن يتصدوا مع مهانة مبدئهم لمخاصمة الجبار ويقولوا: من يقدر على إحياء الميت بعدما رمت عظامه؟ثم يكون خصامه في ألزم وصف له، وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر الإنشاء من الموات!! فهذه مكابرة لا مطمح وراءها، وقيل: معناه: (فإذا هو) بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر على هذا الخصام، معرب عما في نفسه فصيح (80).

وسمي قوله: (من يحى العظم وهى رميم) مثلا لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، أو: لما فيه من التشبيه؛ لأن ما أنكر من قبيل ما يوصف الله بالقدرة عليه بدليل النشأة الأولى.

فإذا قيل: من يحيي العظام وهي رميم على طريق (81) الإنكار لأن يكون ذلك مما يوصف سبحانه بالقدرة عليه، كان تعجيزا لله وتشبيها له بخلقه في أنهم غير موصوفين بالقدرة عليه.

والرميم: ما بلي من العظام، ومثله: " الرمة " و " الرفات "، وهو اسم غير صفة فلذلك لم يؤنث.

ويريد بـ (الشجر الأخضر) المرخ والعفار، وهما شجرتان تتخذ الأعراب زنودها (82) منهما، فبين سبحانه أن من قدر على أن يجعل في الشجر الذي هو في غاية الرطوبة نارا حتى إذا حك بعضه ببعض خرجت منه النار، قدر أيضا على الإعادة.

وقرئ: " يقدر ? (83) أيضا هنا وفي الأحقاف (84)، واحتمل قوله: (أن يخلق مثلهم) معنيين: أن يخلق مثلهم في القمأة والصغر بالإضافة إلى السماوات والأرض، أو: أن يعيدهم لأن الإعادة مثل الابتداء وليس به إنما شأنه (إذا أراد) تكوين شيء (أن يقول له كن) معناه أن يكونه من غير توقف (فيكون) فيحدث، أي: فهو كائن لا محالة.

وحقيقته: أنه لا يمتنع عليه شيء من المكونات؛ لأنها بمنزلة المأمور المطيع، إذا ورد عليه أمر من الأمر المطاع، و (يكون) خبر مبتدأ محذوف تقديره: فهو يكون، فهي جملة معطوفة على جملة هي: أمره أن يقول له كن.

ومن قرأ بالنصب (85) فللعطف على (يقول) والمعنى: أنه لا يجوز عليه شيء مما يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئا من الأفعال مما تقدر عليه من المباشرة بمحال القدرة واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من التعب واللغوب (إنما أمره) وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل فيتكون الفعل، فكيف يعجز عز اسمه عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة؟(بيده ملكوت كل شىء) أي: هو مالك كل شيء، والمتصرف فيه بموجب مشيئته وقضايا حكمته، أي: فتنزيها له عن نفي القدرة على الإعادة وعن كل ما لا يليق بصفاته.

وعن ابن عباس: كنت لا أعلم كيف خصت سورة يس بالفضائل التي رويت في قراءتها، فإذا إنه لهذه الآية (86).

1- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 440: في قول مجاهد وقتادة والحسن: ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقال ابن عباس: آية منها مدنية وهي قوله: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله). وفي الكشاف: ج 4 ص 3: مكية إلا آية 45 فمدنية، وآياتها 83، نزلت بعد الجن.

2- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 32 مرسلا.

3- ثواب الأعمال للصدوق: ص 138.

4- قرأ الكسائي ويحيى عن أبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بإمالة الياء، وقرأها إسماعيل عن نافع وحمزة بين اللفظين وهما إلى الفتح أقرب، وفتحها بالتفخيم الباقون. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 629.

5- قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص والأعشى ونافع بإظهار النون في " ياسين " وفي (والقرآن)، وأدغمها الباقون. راجع المصدر السابق.

6- تفسير ابن عباس: ص 369.

7- تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 228.

8- قاله بكر الوراق. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 5.

9- رواه الكليني في الكافي: ج 6 ص 20 ح 13، والصدوق في الأمالي: ص 381 ح 1.

10- ليس في نسختين: " أو صلة للمرسلين ".

11- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 539.

12- القصص: 46.

13- سبأ: 44.

14- النبأ: 40.

15- هود: 119.

16- البيت منسوب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي. راجع مجاز القرآن: ج 2 ص 175.

17- حكاه عنه ابن مردويه كما في الدر المنثور: ج 7 ص 44.

18- في نسخة: " وجعلناه ".

19- تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 228.

20- القيامة: 13.

21- قاله مجاهد. راجع التبيان: ج 8 ص 447.

22- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 4 ص 63 و ج 10 ص 78.

23- حكاه الثعالبي في تفسيره: ج 3 ص 31 ونسبه إلى فرقة.

24- قرأه أبو بكر والمفضل عن عاصم. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 629.

25- وهي قراءة الماجشون. راجع تفسير القرطبي: ج 15 ص 17.

26- أخرجه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 10، وفي الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف: ص 140 ما لفظه: أخرجه الثعلبي والعقيلي والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

27- في بعض النسخ: " أنشأكم ".

28- قاله ابن مسعود ومجاهد. راجع تفسير ابن كثير: ج 3 ص 547.

29- أورده الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 11.

30- وهي قراءة أبي جعفر كما في شواذ القرآن لابن خالويه: ص 125.

31- وصدره: طوى النحز والأجراز ما في غروضها. والبيت من قصيدة طويلة يصف ناقة له. راجع ديوان ذي الرمة: ص 447.

32- انظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 125.

33- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي. انظر التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 630.

34- وعجزه: فمضيت ثمة قلت لا يعنيني. والبيت منسوب لرجل من بني سلول، وقيل: لشمر بن عمرو الحنفي. وقد تقدم شرح البيت وتخريجه في ج 1 ص 58 فراجع.

35- وبالضمتين قرأه الأخوان (حمزة والكسائي). راجع العنوان في القراءات لابن خلف: ص 159.

36- وهي قراءة الأعمش كما في تفسير القرطبي: ج 15 ص 25.

37- البيت من قصيدة مرجزة مشهورة لرؤبة بن العجاج يصف دابة. راجع خزانة الأدب للبغدادي: ج 1 ص 88 وما بعده.

38- قرأه الكوفيون إلا حفصا. راجع العنوان في القراءات: ص 159.

39- حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 127.

40- ذكرها ابن خالويه في الشواذ ونسبها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي البحر المحيط لأبي حيان: ج 7 ص 336: عن الإمام زين العابدين وولده الباقر والصادق (عليهم السلام).

41- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 540.

42- كما روي عن الإمام علي (عليه السلام) كما في إرشاد المفيد: ص 118، وعن الرضا (عليه السلام) كما في تفسير القمي: ج 2 ص 215.

43- معاني القرآن: ج 4 ص 288.

44- حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 4 ص 18.

45- وهي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 630.

46- وهو قول الإمام علي (عليه السلام) فيما رواه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 19.

47- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 18.

48- قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 444.

49- قرأه ابن كثير وأبو عمرو وورش عن نافع. راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 541.

50- وهي قراءة حمزة وحده، راجع المصدر السابق.

51- ذكره البغوي في تفسيره: ج 4 ص 15 ونسبه إلى أهل المعاني.

52- أنظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 126.

53- حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 451.

54- قاله ابن زيد. راجع المصدر السابق.

55- يضرب للرجل يكذب في الأمر يدل بعض أحواله على الصدق فيه. وأصله: أن رجلا ساوم رجلا ببعير فسأل عن سنه، فأخبره أنه بكر - والبكر: الفتي - ففر عنه فوجده هرما فقال: صدقني سن بكره وكذبني هو. راجع جمهرة الأمثال للعسكري: ج 1 ص 575.

56- قرأه الحرميان وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات: ص 631.

57- وهو قول ابن مسعود والحسن وسعيد بن جبير وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 24.

58- قرأه ابن مسعود والسلمي وأبو المتوكل وقتادة وأبو الجوزاء والنخعي وأبو جعفر المدني. راجع تفسير القرطبي: ج 15 ص 44.

59- قاله ابن عباس ومجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 25.

60- قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 631.

|

61- قاله الأزهري في تهذيب اللغة: ج 10 ص 353.

62- قاله الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 22.

63- قاله الزمخشري أيضا.

64- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 23.

65- قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 542.

66- وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.

67- قرأه روح عن يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 632.

68- في نسخة زيادة: " وحملهم عليه ".

69- وهي قراءة أبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة: ص 542.

70- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 272.

71- يظهر من العبائر التالية أن القراءة المعتمدة عند المصنف بالتخفيف وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والكسائي وعاصم برواية. راجع كتاب السبعة: ص 543.

72- التين: 5.

73- الحج: 5.

74- أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 71 وعزاه إلى ابن سعد وابن أبي حاتم والمرزباني في معجم الشعراء عن الحسن بن علي (عليهما السلام).

75- رواه ابن سعد في طبقاته: ج 1 ص 25 و ج 4 ص 51 باسناده عن البراء بن عازب أنه سمعه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول هذا البيت يوم حنين.

76- أنظر كتاب العين: مادة " رجز ".

77- يوسف: 104.

78- رواه الواحدي في أسباب النزول: ص 308 ح 758 و 759.

79- قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 477.

80- في بعض النسخ: " سبيل الإنكار ".

81- الزنود جمع الزند: وهو العود الذي يقدح به النار. (الصحاح: مادة زند).

82- وهي قراءة رويس عن يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 633.

83- الآية: 33.

84- وهي قراءة ابن عامر وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 544.

85- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 32.

86- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 8 ص 480: مكية في قول مجاهد وقتادة والحسن، وهي مائة واثنان وثمانون آية في المدنيين، وإحدى وثمانون في البصري، وليس فيها ناسخ ومنسوخ. وفي الكشاف: ج 4 ص 33: مكية وهي مائة وإحدى وثمانون آية، وقيل: اثنتان وثمانون، نزلت بعد الأنعام.