سورة الزمر
مكية (1) سوى آيات، وهي خمس وسبعون آية كوفي، اثنتان بصري.
فيما فيه يختلفون غير الكوفي: (مخلصا له الدين) (2) الثاني و (مخلصا له ديني) (3) و (من هاد) (4) الثاني و (فسوف تعلمون) (5) أربعتهن كوفي.
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاه، وأعطاه ثواب الخائفين " خافوا الله (6).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الزمر أعطاه الله شرف الدنيا والآخرة، وأعزه بلا مال ولا عشيرة حتى يهابه من يراه، وحرم جسده على النار ? (7) تمام الخبر.
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم (1) إنآ أنزلنآ إليك الكتب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه ى أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كذب كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحنه هو الله الواحد القهار (4) خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفر (5)﴾
(تنزيل) مبتدأ أخبر عنه بالظرف، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب، والجار صلة (تنزيل) كما تقول: نزل من عند الله، أو غير صلة فيكون خبرا بعد خبر، أو حالا من (تنزيل) عمل فيها معنى الإشارة.
(مخلصا له الدين) من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر.
(الدين الخالص) ما لا يشوبه الرياء والسمعة، وعن قتادة: هو شهادة أن لا إله إلا الله (8)، وقيل: هو الاعتقاد الواجب من التوحيد والعدل والنبوة، والعمل بموجب الشرائع، والبراءة من كل دين سواها (9).
(والذين اتخذوا من دون الله أوليآء) قائلين: (ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله) أي: ليشفعوا لنا إليه، و (زلفى) اسم أقيم مقام المصدر، وخبر (الذين) قوله: (إن الله يحكم بينهم)، والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين، ولم يرد به الهداية إلى الإيمان كقوله: (أما ثمود فهدينهم) (10) وكذبهم قولهم: إن الملائكة بنات الله، ولذلك عقبه بقوله: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا) أي: لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح ولم يتأت ذلك لكونه محالا، إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه، ثم تنزه نفسه عن اتخاذ الولد بقوله: (سبحنه) أي: تنزيها له عن ذلك.
ثم دل بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين (11) على الآخر، وتسخير النيرين (12) وجريهما (لأجل مسمى)، وبث الناس على كثرتهم (من نفس وحدة) وخلق الأنعام على أنه واحد لا ثاني له في القدم، قهار لا يغالب.
والتكوير: اللف واللي، يقال: كار العمامة على رأسه وكورها، والمعنى: يغشي الليل النهار، يذهب هذا ويغشي مكانه هذا، فكأنه لفه عليه كما يلف اللباس على اللابس، وقيل: معناه: أن كل واحد منهما يغيب الآخر: إذا طرأ عليه، فشبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الناظر (13).
﴿خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانعم ثمنية أزواج يخلقكم في بطون أمهتكم خلقا من بعد خلق في ظلمت ثلث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6) إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7) * وإذا مس الانسن ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله ى قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحب النار (8) أمن هو قنت ءانآء الليل ساجدا وقآبما يحذر الأخرة ويرجوا رحمة ربهى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألبب (9) قل يعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله وا سعة إنما يوفى الصبرون أجرهم بغير حساب (10)﴾
أي: (خلقكم من نفس) آدم، وخلق حواء زوجه من قصيراه، وعطف ب? " ثم " للدلالة على مباينة هذه الآية - التي لم تجر العادة بمثلها - للآية الأولى التي هي إيجاد الخلق الكثير من نفس واحدة في الفضل والمزية، وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء (14) (وأنزل لكم) أي: قضى لكم وقسم، لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ: كل كائن يكون، وقيل: لأن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات، والنبات لا ينبت إلا بالماء، وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها (15) (ثمنية أزوج) ذكرا وأنثى، من الإبل ومن البقر والضأن والمعز (خلقا من بعد خلق) حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف والظلمات الثلاث: ظلمة البطن والرحم والمشيمة (ذلكم) الذي هذه أفعاله هو (الله ربكم.
فأنى تصرفون) فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره (فإن الله غنى عنكم) وعن إيمانكم، وأنتم المحتاجون إليه (ولا يرضى لعباده الكفر) به؛ رحمة لهم لأنه سبب هلاكهم (وإن تشكروا) يرض الشكر لكم لأنه سبب فوزكم وفلاحكم، وإنما كره كفركم ورضي شكركم لأجل نفعكم وصلاحكم، لا لمنفعة راجعة إليه، والهاء في (يرضه) ضمير " الشكر " الذي دل عليه (إن تشكروا).
(منيبا إليه) راجعا إليه وحده لا يرجو سواه (ثم إذا خوله) أي: أعطاه، وأصله: جعله خائل مال وخال مال، وهو أن يكون متعهدا له حسن القيام به، أو: جعله يخول أي: يختال ويفتخر، ومنه المثل: " الغني طويل الذيل مياس ? (16) (نسي) الضر الذي (كان يدعوا) الله إلى كشفه، وقيل معناه: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه (17)، و (ما) بمعنى " من "، كما في قوله: (وما خلق الذكر والانثى) (18)، وقرئ: (ليضل) بفتح الياء (19) وضمها، يعني: أن نتيجة جعله لله أندادا ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله، والنتيجة قد يكون غرضا في الفعل وقد يكون غير غرض، (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحب النار) أمر في معنى الخبر، كقوله: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ? (20) كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه.
قرئ: (أمن هو قنت) بالتخفيف والهمزة للاستفهام (21)، وبالتشديد على إدخال " أم " على " من " والتقدير: أمن هو قانت كغيره، ف (من) مبتدأ محذوف الخبر لدلالة الكلام عليه، وهو جري ذكر الكافر قبله، وقوله بعده: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وقيل: معناه: أهذا أفضل أم من هو قانت؟أو: أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر (22)؟(آناء الليل) ساعاته (ساجدا وقآئما) يسجد تارة للصلاة ويقوم أخرى، يريد صلاة الليل والقنوت في الوتر وهو دعاء المصلي قائما، وفي الحديث: " أفضل الصلاة طول القنوت " (23).
وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الدين، كأنه جعل من لا يعمل بعلمه غير عالم، أو يريد: لا يستوي القانتون وغيرهم كما لا يستوي العالمون والجاهلون.
وعن الصادق (عليه السلام): " نحن (الذين يعلمون)، وعدونا (الذين لا يعلمون) وشيعتنا (أولوا الألبب) (24) ".
قوله: (في هذه الدنيا) يتعلق بـ (أحسنوا) لا بـ (حسنة)، والمعنى: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنة، أي: حسنة لا يحاط بكنهها، وقيل: يتعلق بـ (حسنة) أي: لهم على ذلك حسنة في هذه الدنيا وهي الثناء الحسن والمدح والصحة والعافية والرزق الواسع (25) (وأرض الله وسعة) معناه: لا عذر للمفرطين في الإحسان حتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون منه في أوطانهم قيل لهم: فأرض الله واسعة، وبلاده كثيرة، فتحولوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء وخيار المؤمنين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم (إنما يوفى الصبرون أجرهم) ثوابهم على طاعتهم وصبرهم على الشدائد (بغير حساب) لكثرته لا يمكن عده وحسابه.
وعن ابن عباس: لا يهتدي إليه حساب الحساب (26).
وعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان " وتلا هذه الآية (27).
﴿قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لان أكون أول المسلمين (12) قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له ديني (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه ى قل إن الخسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة ألا ذا لك هو الخسران المبين (15) لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به ى عباده يعباد فاتقون (16) والذين اجتنبوا الطغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألبب (18) أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19) لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهر وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20)﴾
أي: (أمرت) بإخلاص الدين لله (وأمرت) بذلك (لأن أكون أول المسلمين) أي: سابقهم ومقدمهم في الدنيا والآخرة، والمعنى: أن الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا.
وكرر في قوله: (قل الله أعبد مخلصا له ديني) لأن الأول للإخبار بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص، والثاني: للإخبار بأنه يخص الله بعبادته مخلصا له دينه، ولذلك قدم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأول، فالكلام أولا في الفعل نفسه، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: (فاعبدوا ما شئتم من دونه)، (قل إن) الكاملين في الخسران هم (الذين خسروا أنفسهم) بأن قذفوها في الجحيم (و) خسروا (أهليهم) الذين أعدوا لهم في جنة النعيم، ثم ذكر ان خسرانهم بلغ الغاية في قوله: (ألا ذلك هو الخسران المبين) بأن صدر الجملة بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ووصفه بالمبين.
(لهم من فوقهم ظلل) جمع ظلة وهي السترة العالية أي: أطباق من النار (ومن تحتهم) أطباق وهي (ظلل) للآخرين، لأن النار أدراك (ذلك) الذي وصف من العذاب (يخوف الله به عباده) ليتقوا عذابه بامتثال أوامره (يعباد فاتقون) فقد ألزمتكم الحجة.
و (الطغوت) تطلق على الشيطان والشياطين لكونها مصدرا، والمراد بها هنا الجمع، (أن يعبدوها) بدل من (الطغوت) وهو بدل الاشتمال، وأراد بعباده: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا لا غيرهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، أراد: أنهم نقاد في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها وأقواها.
التقدير: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ) ه تخلصه من (النار) فوضع الظاهر موضع المضمر، وقيل: إن الوقف على كلمة (العذاب) أي: أفهو كمن وجبت له الجنة، ثم ابتدأ: (أفأنت تنقذ) (28).
والمراد بكلمة " العذاب " قوله: (لأملأن جهنم) الآية، ومعناه: أنك لا تقدر على إدخال الإسلام في قلوبهم قسرا.
(لهم غرف) أي: علالي، بعضها فوق بعض (وعد الله) مصدر مؤكد، لأن قوله: (لهم غرف) في معنى: وعدهم الله ذلك.
﴿ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينبيع في الأرض ثم يخرج به ى زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطما إن في ذلك لذكرى لأولي الألبب (21) أفمن شرح الله صدره للاسلم فهو على نور من ربه فويل للقسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلل مبين (22) الله نزل أحسن الحديث كتبا متشبها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذا لك هدى الله يهدى به ى من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد (23) أفمن يتقى بوجهه ى سوء العذاب يوم القيمة وقيل للظلمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25)﴾
(فسلكه) أي: فأدخل ذلك الماء (ينبيع) ينبع منها الماء (في الأرض) مثل العيون والأنهار والقنى (زرعا مختلفا ألونه) أي: صنوفه من البر والشعير والأرز ونحوها، وقيل: ألوانه من أخضر وأصفر وأبيض وأحمر (29) (ثم يهيج) أي: يجف (ثم يجعله حطما) أي: رفاتا متفتتا (إن في ذلك) لتذكيرا (لأولي) العقول السليمة في معرفة الصانع المحدث للعالم.
(أفمن) عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام وقبله كمن لا لطف به، فهو حرج الصدر قاسي القلب، ونور الله لطفه، وهو نظير (أمن هو قنت) في حذف الخبر في ذكر الله، أي: من أجل ذكر الله، أي: إذا ذكر الله وآياته عندهم اشمأزوا وازدادت قلوبهم قسوة.
(كتبا) بدل من (أحسن الحديث) أو حال منه، (متشبها) هو مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فيتناول تشابه معانيه في الصحة والإحكام ومنفعة الأنام، وتشابه ألفاظه في التناسب والتناصف في التخير والإصابة وتجارب النظم والتأليف في الإعجاز (مثاني) جمع مثنى، بمعنى المردد والمكرر لما ثني من قصصه وأحكامه ومواعظه، وقيل: لأنه مثنى في التلاوة فلا يمل (30)، كما جاء في وصفه: " لا يتفه ولا يتشان ? (31) " ولا يخلق على كثرة الرد " (32)، وإنما وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير.
ويجوز أن يكون " المثاني " منصوبا على التمييز من (متشبها) كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانية، والفائدة في التكرير والتثنية أن النفوس تنفر عن النصيحة والمواعظ، فما لم يكرر عليها عودا بعد بدء لم يرسخ فيها (تقشعر) أي: تتقبض (منه) جلودهم تقبضا شديدا، يقال: اقشعر جلده من الخوف: وقف شعره، ومعناه: أنهم إذا سمعوا القرآن وآيات الوعيد فيه أصابتهم خشية شديدة، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وسعة مغفرته لانت جلودهم، وضمن " لان " معنى فعل متعد ب? " إلى "، فكأنه قال: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله، لينة غير متقبضة، راجية غير خائفة، واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة، لأن رحمته سبقت غضبه، فأصل أمره الرحمة والرأفة، فكأنه قال: إذا ذكروا الله - ومبنى أمره على الرحمة والرأفة - استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم (ذلك) إشارة إلى الكتاب وهو (هدى الله) يوفق (من يشآء) من عباده المتقين حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، أو: ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله أي: أثر هداه وهو لطفه، فسماه: " هدى " لأنه حاصل بالهدى، يهدي بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعني: من صحب أولئك ورآهم خائفين وراجين اقتدى بسيرتهم (ومن يضلل الله) أي: من لم يؤثر فيه لطف الله لقسوة قلبه (فما له من هاد) أي: مؤثر فيه.
(أفمن يتق بوجهه سوء العذاب) كمن أمن العذاب، فحذف الخبر، يقال: اتقاه بترسه: استقبله فوقى بها نفسه إياه.
والمعنى: أن الإنسان إذا لقي مخوفا استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار مغلولا يداه إلى عنقه لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له، وقيل: المراد بالوجه الجملة (33) (من حيث لا يشعرون) من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها.
﴿فأذاقهم الله الخزي في الحيواة الدنيا ولعذاب الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26) ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28) ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29) إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيمة عند ربكم تختصمون (31)﴾
(قرءانا عربيا) حال مؤكدة كما يقال: جاءني زيد رجلا صالحا، أو ينتصب على المدح (غير ذي عوج) أي: مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف، والعوج مخصوص بالمعاني دون الأعيان أي: رجلا مملوكا قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع، كل واحد منهم يدعي أنه عبده فيتعاورونه في خدمتهم (ورجلا) آخر قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد: أي هذين العبدين أحسن حالا وأصلح أمرا.
والمراد بذلك تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعي كل واحد منهم عبوديته ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، ويبقى هو متحيرا ضائعا لا يدري أيهم يعبد وعلى أيهم يعتمد، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وأسخطه، و (فيه) تعلق بـ (شركآء)، كأنه قال: اشتركوا فيه، والتشاكس والتشاخس: الاختلاف، يقال: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه، والسالم: الخالص، وقرئ: (سلما) و " سلما ? (34) وهما مصدران، يقال: سلم سلما وسلما وسلامة، والمعنى: ذا سلامة لرجل، أي: ذا خلوص له من الشركة من قولهم: سلمت له الضيعة.
(هل يستويان مثلا) أي: صفة منصوب على التمييز، والمعنى: هل يستوي صفتاهما وحالاهما (الحمد لله) أي: يجب أن يكون الحمد موجها إلى الله الذي لا شريك له وحده دون كل معبود سواه (بل أكثرهم لا يعلمون) فيشركون به غيره.
أي: إنك وإياهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأن ما هو كائن فكأن قد كان.
(ثم إنكم) أي: إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب (تختصمون) فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت فكذبوا.
وعن عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من الدهر ونحن نرى أن هذه الآية فينا وفي أهل الكتاب، وقلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها فينا نزلت (35).
﴿فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه أليس في جهنم مثوى للكفرين (32) والذي جآء بالصدق وصدق به ى أولئك هم المتقون (33) لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35) أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ى ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كشفت ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكت رحمته ى قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38) قل يقوم اعملوا على مكانتكم إنى عمل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40)﴾
(كذب على الله) بزعمه أن له ولدا وشريكا (وكذب بالصدق) و (36) بالقرآن والتوحيد، ثم هدد من هذه صفته بأن في جهنم مثواه، والاستفهام للتقرير.
(والذي جآء بالصدق) وصدق به هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء بالحق وامن به وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه ومن تبعه في قوله: (ولقد ءاتينا موسى الكتب لعلهم يهتدون) (37) ولذلك قال: (أولئك هم المتقون)، إلا أن هذا في الصفة وذاك في الاسم ويجوز أن يريد الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهم الرسول والذين صدقوا به من المؤمنين.
و (أسوأ الذي عملوا) هو الشرك والمعاصي التي عملوها قبل إيمانهم، و (أحسن الذي كانوا يعملون) هو المفروض والمندوب إليه من أعمالهم، فإن المباح يوصف بالحسن أيضا.
(أليس الله بكاف عبده) وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقرئ: " عباده ? (38) وهم الأنبياء.
وقرئ: (كشفت ضره) و (ممسكت رحمته) بالتنوين (39) على الأصل، وبالإضافة على التخفيف، وأنثهن بعد التذكير في قوله: (ويخوفونك بالذين من دونه) ليضعفهن ويعجزهن، زيادة تضعيف وتعجيز عم طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة، لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كما أن الذكورة من باب الشدة والصلابة، فكأنه قال: الإناث اللاتي هن اللات والعزى ومناة أضعف مما تدعونه لهن وأعجز.
(اعملوا على مكانتكم) على حالتكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها، والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار: " هنا " و " حيث " للزمان وهما للمكان، وحق الكلام: فإني عامل على مكانتي، فحذف للاختصار.
و (يخزيه) صفة لـ (عذاب) أي: عذاب مخز له، وهو يوم بدر (ويحل عليه عذاب مقيم) دائم يوم القيامة.
﴿إنآ أنزلنا عليك الكتب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ى ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل (41) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لأيت لقوم يتفكرون (42) أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيا ولا يعقلون (43) قل لله الشفعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالأخرة وإذا ذكر الذين من دونه ى إذا هم يستبشرون (45)﴾
(الكتب) القرآن (للناس) لجميع الناس ولأجل حاجتهم إليه.
(الله يتوفى الأنفس حين موتها) بأن يسلبها ما هي به حية حساسة دراكة من صحة أجزائها وسلامتها (و) يتوفى الأنفس (التي لم تمت في منامها) أي: يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك (فيمسك) الأنفس (التي قضى عليها الموت) الحقيقي، أي: لا يردها في وقتها حية (ويرسل الأخرى) النائمة (إلى أجل مسمى) إلى وقت ضربه وسماه لموتها.
(أم) منقطعة، أي: بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار (من دون الله) من دون إذنه حيث قالوا: (هؤلاء شفعؤنا عند الله) (40) ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه (أولو كانوا) معناه: أيشفعون ولو كانوا (لا يملكون شيئا) ولا عقل لهم ؟! (قل لله الشفعة جميعا) فلا يملكها أحد إلا بتمليكه.
(وإذا ذكر الله وحده) يدور المعنى على " وحده " والمعنى: إذا أفرد الله عز اسمه بالذكر ووحد اشمأزوا، أي: نفروا وتقبضوا، وإذا ذكر معه آلهتهم استبشروا، فقابل الاشمئزاز وهو أن يمتلئ القلب غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في الوجه بالاستبشار وهو أن يمتلئ القلب سرورا حتى تنبسط له بشرة الوجه، والعامل في (إذا ذكر) المفاجأة، وتقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار.
﴿قل اللهم فاطر السموات والأرض علم الغيب والشهدة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46) ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ى من سوء العذاب يوم القيمة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به ى يستهزءون (48) فإذا مس الانسن ضر دعانا ثم إذا خولنه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51)﴾
أمر الله سبحانه نبيه (عليه السلام) أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقونه، فقال له: ادع بهذا الدعاء، أي: أنت تقدر على الحكم بيني وبينهم، وفيه بشارة له بالنصر والظفر، لأنه إنما أمره به للإجابة لا محال.
وعن سعيد بن المسيب: إني لأعرف موضع آية لم يقرأها أحد قط فسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه وقرأ الآية (41).
(وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وعيد لا يحاط بكنهه، ونظيره في الوعد قوله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (42).
وعن محمد بن المنكدر أنه جزع عند موته، فقيل له في ذلك فقال: أخشى آية من كتاب الله وتلاها، ثم قال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسب.
وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء (43).
(وبدا لهم سيئات) أعمالهم التي كسبوها، أو: سيئات كسبهم حين تعرض صحائفهم وكانت خافية عليهم كقوله: (أحصه الله ونسوه) (44)، أو: جزاء سيئاتهم من أنواع العذاب سماها سيئات كما قال: (جزآء سيئة سيئة مثلها) (45)، (وحاق بهم) أحاط بهم ونزل بهم جزاء استهزائهم، يقال: خوله شيئا إذا أعطاه على غير جزاء.
قال: (إنمآ أوتيته على علم) أي: على علم مني بأني أعطيته لما في من الفضل والاستحقاق، أو: على علم من الله باستحقاقي فلذلك آتاني ما آتاني، أو: على علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون: (على علم عندي) (46) وذكر الضمير العائد إلى (نعمة) في (أوتيته) لأنه أراد شيئا من النعمة أو قسما منها، ويمكن أن يكون " ما " في (إنمآ) موصولة لا كافة، فيرجع الضمير إليه (بل هي فتنة) إنكار لذلك القول، أي: ليس كما تقول بل هي فتنة أي: ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر؛ ذكر الضمير أولا على المعنى، وأنث هنا على اللفظ، أو: لأن الخبر مؤنث.
والضمير في (قالها) راجع إلى قوله: (إنمآ أوتيته على علم) لأنها كلمة أو جملة من القول، و (الذين من قبلهم) هم قارون وقومه حيث قال: أوتيته على علم عندي وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها ويجوز أن يكون فيمن مضى من الأمم قوم قائلون مثلها فصارت وبالا عليهم وأصابهم جزاء سيئاتهم.
﴿أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن في ذا لك لأيت لقوم يؤمنون (52) قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس يحسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن السخرين (56) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (58) بلى قد جآءتك ءايتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكفرين (59) ويوم القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60)﴾
.
(يغفر الذنوب جميعا) للتائب، فإن مات الموحد من غير توبة فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله كما قال: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (47).
(وأنيبوا إلى ربكم) ارجعوا إليه من الشرك والمعاصي (وأسلموا له) أي: انقادوا له بالطاعة، وقيل: اجعلوا أنفسكم خالصة له (48).
(أحسن مآ أنزل إليكم) هو أن يأتي المأمور به ويترك المنهي عنه.
(أن تقول نفس) أي: كراهة أن تقول نفس، وإنما نكرت لأن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر أو نفس متميزة من الأنفس.
وقرئ: " يا حسرتاي ? (49) على الجمع بين العوض والمعوض عنه، والجنب: الجانب، قالوا: فرطت في جنبه وفي جانبه أي: في حقه، قال: أما تتقين الله في جنب وامق * له كبد حرى عليك تقطع (50) وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل فقد أثبته فيه، قالوا: لمكانك فعلت كذا، أو: من جهتك فعلت، أي: لأجلك، فالتقدير: فرطت في ذات الله، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، سواء قيل: " في جنب الله " أو " في الله " فإن المعنى: فرطت في طاعة الله وعبادة الله ونحوهما، و " ما " في (ما فرطت) مصدرية، (وإن كنت لمن السخرين) " إن " مخففة من الثقيلة، قال قتادة: لم يكفه أن ضيع في طاعة الله حتى سخر من أهلها (51) والجملة في موضع الحال، فكأنه قال: فرطت وأنا ساخر، أي: فرطت في حال سخريتي.
(أو تقول لو أن الله هدنى) إنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدي عليه، كما حكى الله تعالى عنهم تعللهم بإغواء الرؤساء والشياطين، وقوله: (بلى قد جآءتك ءايتى) رد عليه من الله عز اسمه، والمعنى: بلى قد هديت بالقرآن فكذبت به واستكبرت عن قبوله وكفرت به، وإنما صح وقوع " بلى " جوابا عن غير المنفي لأن معنى قوله: (لو أن الله هدنى) ما هديت.
(كذبوا على الله) وصفوه بما لا يجوز عليه، فأضافوا إليه الولد والشريك وقالوا: (هؤلآء شفعؤنا عند الله) (52) و (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) (53) والله أمرنا بهذا، ولا يبعد عنهم من ينسب فعل القبائح إلى الله ويثبت معه قدماء.
وعن الباقر (عليه السلام): كل إمام انتحل إمامة ليست له من الله فهو من أهل هذه الآية، قيل: وإن كان علويا فاطميا؟قال: وإن كان (54).
وعن الصادق (عليه السلام): من حدث عنا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما، فإن صدق علينا فإنما يصدق على الله وعلى رسوله، وإن كذب علينا فإنما يكذب على الله وعلى رسوله، لأنا إذا حدثنا لا نقول: قال فلان وقال فلان، وإنما نقول: قال الله وقال رسوله ثم تلا هذه الآية (55).
(وجوههم مسودة) في موضع الحال إن كان (ترى) من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب.
﴿وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61) الله خلق كل شىء وهو على كل شىء وكيل (62) له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بايت الله أولئك هم الخسرون (63) قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجهلون (64) ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لبن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشكرين (66) وما قدروا الله حق قدره ى والارض جميعا قبضته يوم القيمة والسموات مطويت بيمينه ى سبحنه وتعلى عما يشركون (67)﴾
وقرئ: " بمفازاتهم " على الجمع (56)، والمفازة والفوز واحد، ومن جمع فلأن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها.
وقرئ: " ينجي ? (57) و (ينجى)، وتفسير المفازة قوله: (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون)، أو: أراد بسبب منجاتهم وهو العمل الصالح، فقوله: (لا يمسهم) على التفسير الأول لا محل له لأنه كلام مستأنف، وعلى الثاني محله نصب على الحال.
(له مقاليد السموت والأرض) أي: هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن هو الذي يملك مقاليدها، والمقاليد: المفاتيح لا واحد لها من لفظها (والذين كفروا) متصل بقوله: (وينجي الله الذين اتقوا)، واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء والمهيمن عليها، فلا يخفى عليه ما يستحق على الأعمال من الجزاء، (والذين) جحدوا أن يكون الأمر كذلك (أولئك هم الخسرون).
(أفغير الله) منصوب بـ (أعبد)، و (تأمرونى) اعتراض، فالمعنى: أفغير الله أعبد بأمركم؟وذلك حين قال له المشركون: استسلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك، أو: منصوب بما يدل عليه جملة قوله: (تأمرونى أعبد) لأنه في معنى " تعبدونني وتقولون لي: اعبد " فكذلك: أفغير الله تأمرونني أن أعبد، وقرئ: (تأمرونى) بالتشديد للإدغام، وجاز الإدغام لأن قبل النون المدغمة حرف لين وهو الواو، و " تأمرونني " بنونين (58) على الأصل، و " تأمروني " بحذف النون الثانية (59) لأن الأولى علامة الرفع، وفتح الياء وإسكانها معا سائغ.
(ولقد أوحى إليك) لئن أشركت (وإلى الذين من قبلك) مثله، أو: أوحي إليك وإلى كل واحد منهم (لئن أشركت) كقوله: وكسانا حلة أي: كل واحد منا، واللام الأولى لتوطئة القسم، والثانية لام الجواب، وهذا الكلام إنما أتى على سبيل الفرض، والتقدير: فإن رسل الله منزهون عن الشرك، والمحال يصح فرضه لغرض فكيف ما هو دونه؟(بل الله فاعبد) رد لما أمروه به من استسلام بعض آلهتهم كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت قد تثبت فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا عنه.
لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه، قال سبحانه: (وما قدروا الله حق قدره) بمعنى: وما عظموه كنه تعظيمه اذ عبدوا غيره وأمروا نبيه بعبادة غيره، ثم نبههم على عظمته على طريق التخييل فقال: (والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسموت مطويت بيمينه) وهو تصوير لجلالته وعظمة شأنه لا غير، من غير أن تصور قبضته بهن، ويمين لا حقيقة ولا مجازا وأكد " الأرض " بقوله: (جميعا) قبل مجيء الخبر، ليعلم أن الخبر لا يقع عن أرض واحدة، والمعنى: والأرضون جميعا ذوات قبضة يقبضهن قبضة واحدة، أي: أنها بأجمعها مع عظمها لا تبلغ إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة.
قوله: (مطويت) من الطي الذي هو ضد النشر، كما قال: (يوم نطوى السمآء كطى السجل للكتب) (60) والعادة أن يطوى السجل باليمين، وقيل: قبضته: ملكه بلا منازع، وبيمينه: بقدرته (61)، وقيل: مطويات بيمينه: مفنيات بقسمه (62) وهذا قول مرغوب عنه.
﴿ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتب وجاىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70) وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوا بها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايت ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكفرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خلدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوا بها وقال لهم خزنتها سلم عليكم طبتم فادخلوها خلدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العملين (74) وترى الملئكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العلمين (75)﴾
(صعق): مات بحال هائلة (إلا من شآء الله) هم الملائكة الأربعة، وقيل: هم الشهداء (63) (أخرى) أي: نفخة أخرى، ويحتمل النصب على قراءة من قرأ: " نفخة واحدة "، وحذفت " نفخة " لدلالة " أخرى " عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان.
(ينظرون) يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا عراه خطب، وقيل: ينتظرون ما يفعل بهم (64).
ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم.
قد استعار سبحانه النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من كتابه، وهذا من ذلك، والمعنى: (وأشرقت الأرض) بما يقيمه فيها من الحق والعدل، و (الكتب): صحائف الأعمال، وهو اسم الجنس.
(زمرا) أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض (قالوا بلى) أتانا الرسل وتلوا علينا الآيات والحجج، ولكن وجبت علينا (كلمة) ربنا: (لأملأن جهنم) (65) بسوء أعمالنا.
(مثوى المتكبرين) فاعل (بئس) واللام للجنس، والمخصوص بالذم محذوف وهو " جهنم ".
(حتى) هي التي يحكى بعدها الجمل، والجملة المحكية التي بعدها هي الشرطية، إلا أن جزاءها محذوف، وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وموضعه بعد قوله: (خلدين)، وقيل: (حتى إذا جآءوها وفتحت أبوبها) أي: مع فتح أبوابها (66)، والمراد بسوق أهل النار طردهم إليها بعنف وإهانة، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم وحثها سراعا بهم إلى منزل الكرامة والرضوان، وقيل: إن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فيقدم فتحها بدليل قوله: (مفتحة لهم الأبوب) فلذلك جيء بالواو، كأنه قيل: وقد فتحت أبوابها (67).
(سلم عليكم) دعاء لهم بالسلامة والخلود (طبتم) بالعمل الصالح في الدنيا، وطابت أعمالكم وزكت (فادخلوها) جعل دخولهم الجنة مسببا عن الطيب والزكاة، لأنها دار الطيبين، طهرها الله من كل دنس، فإنما يدخلها من اتصف بصفتها، وما أبعد أحوالنا عن اكتساب هذه الصفة إلا أن يتغمدنا الله بفضله ورحمته (خلدين) مقدرين الخلود.
والأرض عبارة عن المكان الذي اتخذوه مقرا ومبوءا، وأورثناها: ملكناها، وجعلنا ملوكها وأطلق لنا التصرف فيها؛ تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يشاء مما يرثه.
(حآفين) أي: طائفين (من حول العرش) محدقين بها يذكرون الله بصفاته العلى (وقضى) بين الخلائق بالعدل، وقيل: بين الأنبياء والأمم (68)، وقيل: بين أهل الجنة والنار (69) (وقيل الحمد لله) على قضائه بيننا بالحق، وقيل: إنه من كلام الله عز اسمه (70)، وقد قال من (71) ابتداء الخلق: (الحمد لله الذي خلق السموت والأرض) (72) تعليما لخلقه في ابتداء كل أمر بالحمد وختمه بالحمد.1- الآية: 39.
2- ليس في نسخة: " خافوا الله ".
3- ثواب الأعمال للصدوق: ص 139، وزاد: " ويبنى له في الجنة ألف مدينة، في كل مدينة ألف قصر، في كل قصر مائة حوراء وله مع هذا عينان تجريان، وعينان نضاختان وعينان مدهامتان وحور مقصورات في الخيام وذواتا افنان ومن كل فاكهة زوجان ".
4- حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 10 ص 611.
5- حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 5 |
6- فصلت: 17.
7- الملوان: الليل والنهار، والواحد: ملى، مقصور. (الصحاح: مادة ملى).
8- النيران: الشمس والقمر.
9- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 113.
10- حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 7.
11- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 114.
12- أي صاحب المال والغنى لا يستطيع أن يكتم غناه عن الآخرين لأنه يظهر في جميع أفعاله وخصوصا في مشيته. والمياس: المتبختر المختال في مشيته. راجع مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 36.
13- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 116.
14- الليل: 3.
15- قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع العنوان في القراءات لابن خلف: ص 165.
16- أخرجه البغدادي في تاريخه: ج 12 ص 136، وابن كثير في البداية والنهاية: ج 12 ص 54.
17- قرأه ابن كثير ونافع وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 561.
18- حكاه الزجاج في معانيه: ج 4 ص 347.
19- أخرجه مسلم في صحيحه: ج 1 ص 520 ح 756.
20- رواه في الكافي: ج 8 ص 735 ضمن ح 6 باسناده عن أبي بصير.
21- قاله السدي ومقاتل. راجع تفسير الطبري: ج 10 ص 622.
22- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 118.
23- رواه العياشي في تفسيره كما في مجمع البيان: ج 8 ص 492.
24- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 349 - 350.
25- قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 75.
26- قاله ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 123.
27- وهو من حديث ابن مسعود في وصف القرآن. راجع النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 192 مادة " تفه " أي: لا يصير حقيرا ولا ييبس فيغدو عديم الفائدة.
28- وهو من حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف كتاب الله المروي في النهج: ص 219 خطبة (156) ضبط صبحي الصالح.
29- حكاه الزمخشري: في الكشاف: ج 4 ص 125.
30- وهي قراءة ابن كثير والبصريان (أبي عمرو ويعقوب) راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 647.
31- رواه الحاكم في المستدرك: ج 4 ص 572.
32- ليس في نسخة: الواو.
33- المؤمنون: 49.
34- قرأه حمزة والكسائي. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 648.
35- قرأه أبو عمرو وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 562.
36- يونس: 18.
37- حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 130.
38- السجدة: 17.
39- أنظر الكشاف: ج 4 ص 133.
40- المجادلة: 6.
41- الشورى: 40.
42- القصص: 78.
43- النساء: 48 و 116.
44- قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 85.
45- وهي قراءة أبي جعفر. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 131.
46- لجميل بثينة. من قصيدة يستعطف بها صاحبته. راجع ديوان جميل: ص 52.
47- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 138.
48- يونس: 18.
49- الزخرف: 20.
50- رواه الصدوق في ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: ص 254 ح 1، والكليني في الكافي: ج 1 ص 372 ح 1 عن سورة بن كليب.
51- رواه العياشي في تفسيره كما في البرهان: ج 4 ص 82.
52- قرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 563.
53- وهي قراءة يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 648.
54- قرأه ابن عامر. راجع التذكرة في القراءات: ج 2 ص 649.
55- وهي قراءة نافع وحده. راجع المصدر السابق.
|
56- الأنبياء: 104.
57- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 144.
58- قاله سعيد بن جبير. راجع التبيان: ج 9 ص 46.
59- قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 87.
60- الأعراف: 18، هود: 119.
61- حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 364.
62- قاله النحاس في إعراب القرآن: ج 4 ص 23، والآية من سورة ص: 50.
63- قاله الكلبي. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 139.
64- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 364.
65- قاله مقاتل. راجع تفسير السمرقندي: ج 3 ص 159.
66- في نسخة: " في " بدل " من ".
67- الأنعام: 1.
68- في بعض النسخ: سورة المؤمن.
69- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 52: مكية في قول مجاهد وقتادة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقال الحسن: هي مكية إلا آية واحدة وهي قوله: (وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) يعني بذلك صلاة الفجر والمغرب وقد ثبت أن فرض الصلاة كان بالمدينة. وهي خمس وثمانون آية في الكوفي وأربع في المدنيين واثنتان في البصري. وفي الكشاف: ج 4 ص 148: وهي خمس وثمانون آية، وقيل: ثنتان وثمانون، نزلت بعد الزمر.
70- الآية: 1 و 2.
71- الآية: 7.
72- الآية: 73.