سورة غافر

سورة غافر (1)

مكية إلا آيتين (2)، خمس وثمانون آية كوفي، اثنتان بصري، عد الكوفي (حم تنزيل الكتب) (3)، (يسبحون) (4)، (كنتم تشركون) (5)، وعد البصري (كظمين) (6).

وعن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحواميم ديباج القرآن ? (7) وفي حديث أبي: " من قرأ حم المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا مؤمن إلا صلوا عليه واستغفروا له " (8).

وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ حم المؤمن في كل ليلة ثلاث مرات غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وألزمه كلمة التقوى، وجعل الآخرة خيرا له من الدنيا ? (9)

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿حم (1) تنزيل الكتب من الله العزيز العليم (2) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (3) ما يجدل في ءايت الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلد (4) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجدلوا بالبطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (9)﴾

قرئ بإمالة الألف من " حا " وبالتفخيم (10)، و (التوب) والتوب والأوب أخوات في معنى الرجوع، (الطول) الإنعام الذي يطول لبثه على صاحبه، وطال عليه وتطول أي: تفضل (غافر الذنب وقابل التوب) معرفتان وإضافتهما حقيقة؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين في الحال والاستقبال بل أريد ثبوت ذلك ودوامه فهما صفتان (11).

وأما (شديد العقاب) فتقديره: شديد عقابه، وقيل: إنه بدل (12)، والوجه أن يكون صفة وإنما حذف الألف واللام من (شديد) ليوافق ما قبله وما بعده لفظا، وذكر بعد (غافر الذنب) لئلا يعول المكلف على الغفران بل يكون مرجأ بين الرجاء والخوف (ذي الطول) ذي النعم السابغة على عباده دينا ودنيا.

و (ما يجادل) أي: ما يخاصم في دفع حجج الله إلا الكفار (فلا يغررك تقلبهم) بالتجارات والمكاسب (في البلاد) فإن مصير ذلك إلى الزوال والنفاد، فلا يفوتون الله على حال.

ثم ضرب سبحانه لتكذيبهم بالرسل وجدالهم بالباطل مثلا ما كان من نحو ذلك من الأمم الماضية فقال: (كذبت قبلهم قوم نوح) رسولهم (والأحزاب) الذين تحزبوا على أنبيائهم وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم (وهمت كل أمة) من هذه الأمم (برسولهم ليأخذوه) ليتمكنوا من قتله وإهلاكه أو تعذيبه، ويقال للأسير: أخيذ (فأخذتهم) أي: قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم (فكيف كان عقاب) هذا تقرير فيه معنى التعجب.

﴿وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحب النار (6) الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ى ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنت عدن التي وعدتهم ومن صلح من ءابآبهم وأزواجهم وذريتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقهم السيات ومن تق السيات يومئذ فقد رحمته وذا لك هو الفوز العظيم (9) إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمن فتكفرون (10) قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل (11) ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به ى تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير (12)﴾

(أنهم أصحب النار) في محل الرفع بدل من (كلمت ربك)، أي: ومثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار، والمعنى: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كذلك وجب إهلاكهم في الآخرة بعذاب النار، أو في محل النصب على حذف لام التعليل وإيصال الفعل، و (الذين كفروا) كفار مكة أي: كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء، لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار، وقرئ: " كلمات " على الجمع (13).

ثم ذكر سبحانه بعد ذكر حال الكفار حال المؤمنين الأبرار وأن الملائكة المقربين يمدونهم بالاستغفار فقال: (الذين يحملون العرش) على عواتقهم امتثالا لأمر الله (ومن) حول العرش من الملائكة المطيفين به وهم الكروبيون وسادة الملائكة (يسبحون بحمد ربهم) وينزهونه عما يصفه به هؤلاء المجادلون، أو: يسبحونه بالتسبيح المعهود، أي يقولون: (ربنا) وهذا المضمر (14) في محل الرفع بيانا لـ (يستغفرون) أو نصب حالا، (وسعت كل شىء رحمة وعلما) الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل: وسع كل شئ رحمتك وعلمك، فأسند الفعل إلى صاحبهما وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة، كأن ذاته سبحانه رحمة وعلم واسعان كل شيء (فاغفر للذين) علمت منهم التوبة واتباع (سبيلك) وسبيل الله: الحق الذي دعا عباده إليه، وفي هذا دلالة على أن قبول التوبة وإسقاط العقاب عندها تفضل من الله تعالى، إذ لو كان واجبا لما احتيج فيه إلى الدعاء والسؤال.

(وقهم السيئات) أي: العقوبات، سماها سيئات اتساعا، أو: جزاء السيئات فحذف المضاف.

(إن الذين كفروا ينادون) يوم القيامة فيقال لهم: (لمقت الله أكبر من مقتكم) والتقدير: لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم، فاستغنى بذكرها مرة، و (إذ تدعون) منصوب بالمقت الأول، والمعنى: أنه يقال لهم يوم القيامة: كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون وتختارون عليه الكفر، أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار، إذا أوقعتكم فيها باتباعكم هواهن، وقيل: معناه: لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، و (إذ تدعون) تعليل (15)، والمقت أشد البغض، فوضع في موضع أشد الإنكار.

(اثنتين) أي: إماتتين وإحياءتين، أو: موتين وحياتين أراد بالإماتتين: خلقهم أمواتا أولا وإماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءتين: الإحياءة الأولى وإحياءة البعث، وقيل: الإماتتان هما: التي في الدنيا بعد الحياة والتي في القبر قبل البعث، والإحياءتان هما: التي في القبر للمساءلة والتي في البعث (16) (فاعترفنا بذنوبنا) التي اقترفناها في الدنيا (فهل إلى خروج) أي: إلى نوع من الخروج (من سبيل) قط، أو: اليأس حاصل دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه.

(ذلكم) أي: ذلكم الذي أنتم فيه وأن لا سبيل لكم إلى الخروج بوجه من الوجوه بسبب أنكم كفرتم بالتوحيد وآمنتم بالإشراك (فالحكم لله) حيث حكم عليكم بعذاب الأبد.

﴿هو الذي يريكم ءايته ى وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (13) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكفرون (14) رفيع الدرجت ذو العرش يلقى الروح من أمره ى على من يشآء من عباده ى لينذر يوم التلاق (15) يوم هم برزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16) اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17) وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كظمين ما للظلمين من حميم ولا شفيع يطاع (18) يعلم خآئنة الأعين وما تخفي الصدور (19) والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه ى لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير (20)﴾

(آياته) أي: مصنوعاته الدالة على كمال قدرته وتوحيده (وما يتذكر) وما يتفكر في حقيقتها ولا يتعظ بها (إلا من ينيب) أي: يرجع إلى الله ويقبل إلى طاعته، فإن المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه.

ثم قال لمن ينيب: (فادعوا الله) أي: اعبدوه (مخلصين له الدين) من الشرك (ولو كره) ذلك أعداؤكم الكفار.

(رفيع الدرجت ذو العرش يلقى الروح) ثلاثة أخبار لقوله: (هو) مترتبة على قوله: (الذي يريكم)، أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا.

و (رفيع الدرجت) مثل قوله: (ذي المعارج) (17) وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل على عزته وملكوته، وعن سعيد بن جبير: سماء فوق سماء والعرش فوقهن (18)، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أنبياءه وأولياءه في الجنة (19)، وقيل: هو عبارة عن رفعة شأنه وعلو سلطانه، كما أن ذات العرش عبارة عن ملكه (20) (يلقى الروح) الذي هو سبب الحياة للقلب (من أمره) يريد الوحي الذي هو أمر بالخير، وقيل: إن الروح جبرائيل (21) (لينذر) الله أو الملقي عليه وهو الرسول أو الروح، وقرئ: " لتنذر " بالتاء (22) لأن الروح مؤنث، أو: على خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (يوم التلاق) يوم القيامة لأن الخلائق تلتقي فيه، أو: يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والأولون والآخرون.

والمعنى: أنهم كانوا يظنون إذا استتروا أن الله لا يراهم فهم اليوم صائرون من البروز إلى حال لا يتوهمون ذلك (لمن الملك اليوم لله الوحد القهار) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به، أي: ينادي مناد: لمن الملك اليوم؟فيجيبه أهل الحشر: لله الواحد القهار، أو يكون المنادي هو المجيب.

ولما قروا أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك، وهي: أن (كل نفس) تجزى (بما كسبت) وأن (لا ظلم) من أحد على أحد، ولا ينقص من ثواب أحد، ولا يزاد في عقاب أحد، وأن الحساب لا يبطئ لأنه سبحانه لا يشغله حساب عن حساب.

و (الآزفة): الدانية وهي القيامة، لأن كل ما هو آت قريب دان، و (كظمين) نصب على الحال من أصحاب القلوب، لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، ويجوز أن يكون حالا من (القلوب) وأن القلوب كاظمة على كرب وغم فيها مع بلوغها الحناجر، ولما وصفها بالكظم الذي هو من أوصاف العقلاء جمع " كاظم " جمع سلامة، و (يطاع) مجاز في الشفيع، لأن الطاعة لا تكون إلا لمن فوقك.

والخائنة: مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، أو: صفة للنظرة، والمراد: استراق النظر إلى ما لا يحل، وقوله: (يعلم خآئنة الأعين) خبر من أخبار (هو) في قوله: (هو الذي يريكم) مثل: (يلقى الروح) ولكن قد علل سبحانه (يلقى الروح) بقوله: (لينذر يوم التلاق) ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: (ولا شفيع يطاع) فبعد لذلك عن أخواته.

(والله يقضى بالحق) لاستغنائه عن الظلم (والذين يدعون) قرئ بالتاء (23) والياء يعني آلهتهم (لا يقضون بشىء) وهذا تهكم بهم، لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي.

﴿أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) ذا لك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينت فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب (22) ولقد أرسلنا موسى بايتنا وسلطن مبين (23) إلى فرعون وهمن وقرون فقالوا سحر كذاب (24) فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين ءامنوا معه واستحيوا نسآءهم وما كيد الكفرين إلا في ضلل (25) وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد (26) وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (27)﴾

(هم) في (كانوا هم) فصل، والفصل لا يقع إلا بين معرفتين، فالوجه هنا أن (أشد منهم) ضارع المعرفة في أنه لا يدخله الألف واللام فأجري مجراه، وقرئ: " أشد منكم قوة " (24)، والمراد بالآثار: حصونهم وقلاعهم وعدودهم مما يوصف بالشدة.

(فقالوا) هذا (سحر كذاب) فسموا السلطان المبين سحرا وكذبا.

(بالحق) أي: بالدين الحق، أو بالنبوة (قالوا اقتلوا) عن ابن عباس: أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا (25) يريد أن هذا قتل غير القتل الأول (في ضلل) أي: ضياع وذهاب لم يجد عليهم.

(وليدع ربه) فيه دلالة على خوف فرعون من موسى (عليه السلام) ومن دعوته ربه، وأن قوله: (ذرونى أقتل موسى) تمويه منه على قومه، وإيهام أنهم كانوا هم المشيرين عليه بأن لا يقتله، وما كان يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من الفزع، وقرئ: " وأن يظهر " بالواو وفتح الياء " الفساد " بالرفع (26)، والمعنى: إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معا.

﴿وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمنه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جآءكم بالبينت من ربكم وإن يك كذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب (28) يقوم لكم الملك اليوم ظهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد (29) وقال الذي ءامن يقوم إنى أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب (30) مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد (31) ويقوم إنى أخاف عليكم يوم التناد (32) يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد (33) ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينت فما زلتم في شك مما جآءكم به ى حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده ى رسولا كذا لك يضل الله من هو مسرف مرتاب (34)﴾

(من ءال فرعون) صفة لـ (رجل) أو صلة لـ (يكتم) أي: (يكتم إيمانه) من آل فرعون، واسمه حبيب أو خربيل (27) أو خزبيل (أن يقول) لان يقول، أي: أترتكبون قتل رجل بأن يقول الكلمة الصادقة التي نطق بها وهي قوله: (ربى الله) مع أنه أحضر لتصحيح قوله بينات عدة من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده ؟! استدرجهم إلى الاعتراف به، ثم احتج عليهم على طريقة التقسيم بأن قال: لا يخلو من أن يكون صادقا أو كاذبا (فإن يك كذبا فعليه كذبه) أي: يعود عليه ضرر كذبه (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) وفي ذلك البعض هلاككم.

وهذا كلام من ينصف في مقاله ليسمع منه، لأنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه (يصبكم بعض الذي يعدكم) ليهضمه بعض حقه في الظاهر، وليريهم أنه ليس بكلام من يتعصب له.

(ظهرين في الأرض) أي: عالين في أرض مصر على بني إسرائيل (قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى) أي: ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله، يعني: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب (ومآ أهديكم) بهذا الرأي (إلا سبيل الرشاد) والصواب (28) عندي.

(مثل يوم الاحزاب) أي: مثل أيامهم، لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسر الأحزاب بقوم نوح وعاد وثمود ولم يلتبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار، اقتصر على الواحد عن الجمع؛ لأن المضاف إليه أغنى عن ذلك، كقوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا (29).

ودأبهم: دؤوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب والمعاصي، وكون ذلك دائبا دائما منهم لا يفترون عنه، ولابد من حذف مضاف أي: " مثل جزاء دأبهم " وإنما انتصب (مثل) الثاني بأنه عطف بيان مثل الأول، لأن آخر ما تناولته الإضافة " قوم نوح "، ولو قلت: " أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود " لم يكن إلا عطف بيان لإضافة " قوم " إلى أعلام، فسري ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة (وما الله يريد ظلما للعباد) فتدميرهم كان عدلا منه إذ استوجبوه بأعمالهم.

والتنادي: ما حكاه الله في سورة الأعراف من قوله: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) (30) (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) (31).

وقيل: ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور (32)، وقيل: ينادى فيه كل أناس بإمامهم (33).

(يوم تولون) أي: يوم تعرضون عن النار (مدبرين) فارين مقدرين أن الفرار ينفعكم.

(يوسف) هو يوسف بن يعقوب، قيل: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمر إلى زمنه (34)، وقيل: هو فرعون آخر (35) (كذلك) أي: مثل ذلك الضلال (يضل الله من هو مسرف) على نفسه كافر (مرتاب) شاك في التوحيد ونبوة الأنبياء.

﴿الذين يجدلون في ءايت الله بغير سلطن أتلهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار (35) وقال فرعون يهمن ابن لي صرحا لعلى أبلغ الاسبب (36) أسبب السموات فأطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه كذبا وكذا لك زين لفرعون سوء عمله ى وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (37) وقال الذي ءامن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38) يقوم إنما هذه ى الحيواة الدنيا متع وإن الأخرة هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40)﴾

(الذين يجدلون) بدل من قوله: (من هو مسرف) لأنه في معنى: كل مسرف، وفاعل (كبر) ضمير (من هو مسرف) على اللفظ، ويجوز أن يكون (الذين يجدلون) مبتدأ ويكون قوله: (كبر مقتا عند الله) على حد قولك: نعم رجلا زيد، والمخصوص بالذم محذوف وهو جدالهم، وتكون الجملة خبر المبتدأ، ولا يكون " جدالهم " فاعلا لـ (كبر) فيمتنع حذفه على ما ذكره جار الله (36)، وقرئ: " قلب " بالتنوين (37)، وجاز وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه موضعهما ومنبعهما، كما قال سبحانه: (فإنه آثم قلبه) (38)، والإثم هو الجملة، أو يكون على حذف المضاف أي: على كل ذي قلب (متكبر)، ومن قرأ على الإضافة فالمعنى: يطبع الله على القلوب إذا كانت قلبا من كل متكبر، وحذف " كل " لتقدم ذكره كما جاء في المثل: " ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة ? (39) فحذف " كل " لتقدم ذكره.

والصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، من صرح الشيء إذا ظهر، وهامان: وزير فرعون وصاحب أمره، وأسباب السماوات: طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أوصلك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه.

وفائدة التكرير أنه لما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها (فأطلع) قرئ بالرفع (40) والنصب، للعطف على (أبلغ)، والنصب على جواب الترجي تشبيها للترجي بالتمني (وكذلك) أي: ومثل ذلك التزيين وذلك الصد (زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل)، وقرئ: " صد " على البناء للفاعل (41) بمعنى: أنه صد نفسه أو صد غيره (وما كيد فرعون) في إبطال آيات موسى (عليه السلام) (إلا في تباب) أي: خسار لا ينفعه.

ثم عاد إلى ذكر نصيحة مؤمن آل فرعون فأجمل لهم بأن قال: (أهدكم سبيل الرشاد)، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتحقير شأنها، لأن الركون إليها أصل لكل شر وإثم، وجالب لسخط الله وعقابه، ثم ثنى بتعظيم الآخرة فإنها (دار القرار) والإقامة، ثم ذكر الأعمال السيئة والحسنة وما يستحق على كل واحدة منهما.

وقوله: (بغير حساب) في مقابل (إلا مثلها)، معناه: أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، فلا يزيد على المستحق، وأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل هو زائد على المستحق بما شئت من الزيادة والكثرة.

﴿ويقوم مالى أدعوكم إلى النجوة وتدعوننى إلى النار (41) تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ى ما ليس لي به ى علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفر (42) لا جرم أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الأخرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحب النار (43) فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد (44) فوقاه الله سيات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء العذاب (45) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب (46)﴾

يقال: دعاه إلى الشيء وللشيء، كما قيل: هداه إلى الطريق وللطريق.

(ليس لي به) أي: بربوبيته (علم) والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنه قال: وأشرك به ما ليس بإله و " ما ليس " كيف يصح أن يعلم إلها ؟! (لا جرم) سياقه على مذهب البصريين أن يجعل " لا " ردا لما دعاه إليه قومه، و " جرم " فعل بمعنى " حق "، و " أن " مع ما في حيزه فاعله، أي: حق ووجب بطلان دعوته (42)، أو: بمعنى " كسب " أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى: أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته (43)، وقيل: " لا جرم " نظير " لابد " فعل من الجرم وهو القطع (44)، كما أن " بدا " فعل من التبديد وهو التفريق، فكما أن معنى " لابد أنك تفعل كذا " بمعنى " لا بد لك من فعله " فكذلك (لا جرم أن لهم النار) (45) بمعنى " لا قطع لذلك " أي: يستحقون النار أبدا، لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي: لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقا، ومعناه: (أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة) إلى نفسه قط، ولا يدعي إلهية، وقيل: ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة أو دعوة مستجابة (46)، جعل الدعوة التي لا منفعة لها كلادعوة، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة كما سمي الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قولهم: " كما تدين تدان " (47).

(فستذكرون) عند نزول العذاب بكم، أو يوم القيامة صحة (مآ أقول لكم) من النصح، وأسلم (أمرى إلى الله) وأتوكل عليه.

(النار) بدل من (سوء العذاب)، أو: خبر مبتدأ محذوف أي: هو النار، أو: مبتدأ خبره (يعرضون عليها غدوا وعشيا) أي: يعذبون بها في هذين الوقتين، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم، فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم، فإذا قامت القيامة قيل لهم: " ادخلوا (48) يا آل فرعون أشد عذاب جهنم " وقرئ: (أدخلوا) أي: يقال لخزنة جهنم: أدخلوهم.

وفي هذه الآية دلالة على صحة عذاب القبر.

﴿وإذ يتحآجون في النار فيقول الضعفؤا للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (47) قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد (48) وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (49) قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينت قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعؤا الكفرين إلا في ضلل (50)﴾

واذكر وقت تحاجهم في النار (تبعا) أي: أتباعا، جمع " تابع " ومثله " خدم " جمع " خادم "، أو: ذوي تبع أي: أتباع، أو: هو وصف بالمصدر و (كل) معرفة، والتنوين فيه عوض من المضاف إليه، أي: كلنا فيها لخزنة جهنم، ولم يقل: " لخزنتها " لأن في ذكر جهنم تهويلا، ويحتمل أن تكون جهنم هي أبعد النار قعرا، من قولهم: بئر جهنام: بعيدة القعر.

(أولم تك تأتيكم) إلزام للحجة وتوبيخ (قالوا فادعوا) أنتم فإنا لا ندعو إلا بإذن الله ولم يؤذن لنا فيه.

﴿إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحيواة الدنيا ويوم يقوم الاشهد (51) يوم لا ينفع الظلمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52) ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسراءيل الكتب (53) هدى وذكرى لأولي الألبب (54) فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكر (55) إن الذين يجدلون في ءايت الله بغير سلطن أتلهم إن في صدورهم إلا كبر ماهم ببلغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56) لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون (57) وما يستوي الأعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصلحت ولا المسىء قليلا ما تتذكرون (58) إن الساعة لأتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (59) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)﴾

أي: نغلب (رسلنا) في الدارين بالظفر على مخالفيهم وبالحجة، ولو غلبوا في بعض الأحايين فالعاقبة لهم، و " اليوم " الثاني بدل من الأول، و الأشهاد: جمع شاهد وهم الملائكة والأنبياء والأولياء، وقرئ: (لا ينفع) بالتاء (49) والياء.

والمراد بـ (الهدى): ما آتاه الله في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع (وأورثنا) وتركنا على (بني إسرائيل) من بعده (الكتب) أي: التوراة (هدى وذكرى) أي: إرشادا وتذكرة، وهما مفعول لهما أو حالان.

(فاصبر إن وعد الله حق) في ضمان نصرة رسله، واستشهد بحال موسى ونصرته على فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل، فإن الله ينصرك كما نصره (واستغفر لذنبك) تعبده سبحانه بالدعاء والاستغفار ليزيد في درجاته، ويصير سنة لأمته.

(إن في صدورهم إلا كبر) أي: تكبر، وهو إرادة التقدم والرئاسة، وأن لا يكون أحد فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا معجزاتك، وذلك أن النبوة تحتها كل ملك ورئاسة، أو: إرادة أن تكون لهم النبوة دونك (ما هم ببلغيه) أي: ببالغي موجب الكبر ومقتضيه، وهو متعلق إرادتهم من الرئاسة أو النبوة (فاستعذ بالله) من شرهم (إنه هو السميع) لأقوالهم (البصير) بأحوالهم، وفيه تهديد.

ولما كان جدالهم وحجاجهم في آيات الله مشتملا على إنكار البعث، حجوا بخلق السماوات والأرض، لأنهم كانوا يقرون بأنه سبحانه خالقهما، وخلق الناس بالقياس إليهما أهون.

ثم ضرب (الأعمى والبصير) مثلا للمحسن والمسيء، وقرئ: (تتذكرون) بالتاء والياء (50).

(لا ريب فيها) لابد من مجيئها، وليس بمرتاب فيها لأنه لا بد من الجزاء.

(ادعوني أستجب لكم) إذا اقتضت المصلحة إجابتكم، وقيل: معناه: ادعوني أثبكم (51).

وفي الحديث: " الدعاء هو العبادة " وقرأ هذه الآية (52).

وعن الباقر (عليه السلام): " هو الدعاء، وأفضل العبادة الدعاء " (53).

﴿الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (61) ذا لكم الله ربكم خلق كل شىء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذا لك يؤفك الذين كانوا بايت الله يجحدون (63) الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسمآء بنآء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبت ذا لكم الله ربكم فتبارك الله رب العلمين (64) هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العلمين (65) قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءنى البينت من ربى وأمرت أن أسلم لرب العلمين (66) هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67) هو الذي يحىى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68)﴾

(مبصرا) من الإسناد المجازي، ومعناه: لتبصروا فيه (إن الله لذو فضل) لا يوازنه فضل، وكرر ذكر " الناس " تخصيصا لكفران النعم بهم، وأنهم هم الذين لا يشكرونه.

(ذلكم) المعلوم المختص بهذه الأفعال هو (الله ربكم خلق كل شىء لا إله إلا هو) هي أخبار مترادفة، أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وإنشاء الأشياء والوحدانية (فأنى تؤفكون) فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأصنام ؟! ثم ذكر أن كل من جحد (بآيت الله) أفك كما أفكوا.

ثم وصف نفسه بأفعال أخر خاصة به، وهي أنه (جعل.

الأرض) مستقرا (والسمآء بنآء) أي: قبة، ومضارب العرب: أبنيتهم؛ لأن السماء في منظر العين كالقبة المضروبة على الأرض.

(فادعوه مخلصين له) الطاعة من الشرك في دعائه وعبادته، قائلين: (الحمد لله رب العلمين).

(أن أسلم) أي: استسلم لأمر (رب العلمين).

(لتبلغوا أشدكم) متعلق بفعل محذوف، والتقدير: ثم يبقيكم لتبلغوا، وكذلك (لتكونوا شيوخا)، ويفعل ذلك (لتبلغوا أجلا مسمى) وهو وقت الموت، أو يوم القيامة، وقوله: (من قبل) يريد: من قبل الشيخوخة، أو: من قبل هذه الأحوال (ولعلكم تعقلون) هذه الأغراض المذكورة، وتتفكرون في العبر والحجج (فإذا قضى أمرا فإنما) يكونه من غير كلفة، جعل هذا نتيجة من قدرته على الإحياء والإماتة وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة على أنه لا يمتنع عليه شيء من المقدورات، فكأنه قال: فلذلك الاقتدار (إذا قضى أمرا) تيسر له ولم يمتنع عليه، وكان أهون شيء وأسرعه.

﴿ألم تر إلى الذين يجدلون في ءايت الله أنى يصرفون (69) الذين كذبوا بالكتب وبمآ أرسلنا به ى رسلنا فسوف يعلمون (70) إذ الأغلل في أعنقهم والسلسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون (72) ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيا كذلك يضل الله الكفرين (74) ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75) ادخلوا أبواب جهنم خلدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76)﴾

(أنى يصرفون) أي: من أي جهة يقلبون عن الحق إلى الضلال.

(إذ الأغلل في أعنقهم) المعنى على: إذ إن أخباره سبحانه لما كانت متيقنة عبر عن الأمور المستقبلة فيها بلفظ ما قد كان ووجد، و (يسحبون) حال (في حميم) في الماء الذي انتهت حرارته (ثم في النار يسجرون) ويقذفون فيها وتوقد بهم.

(بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) أي: تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا (كذلك) أي: مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم الله عن آلهتهم حتى لو طلبوها أو طلبتهم لم يتصادفوا.

(ذلكم) الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح (في الأرض) والمرح (بغير الحق) وهو الشرك وعبادة الأوثان.

(فبئس مثوى المتكبرين) مثواكم أي: جهنم.

﴿فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى باية إلا بإذن الله فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون (78) الله الذي جعل لكم الأنعم لتركبوا منها ومنها تأكلون (79) ولكم فيها منفع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون (80) ويريكم ءايته ى فأى ءايت الله تنكرون (81)﴾

الأصل: " فإن نرينك "، و " ما " مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل، لا يقال: إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك، وقوله: (فإلينا يرجعون) يتعلق بـ (نتوفينك)، وجزاء (نرينك) محذوف وتقديره: (فإما نرينك بعض الذي نعدهم) من العذاب في حياتك وهو القتل يوم بدر فذاك (أو نتوفينك) قبل أن يحل بهم ذلك (فإلينا يرجعون) يوم القيامة نفعل بهم ما يستحقونه، ولا يفوتنا منهم.

(من قصصنا عليك) ذكرهم وأخبارهم (ومنهم من لم نقصص عليك) ذكرهم.

(لتركبوا منها) إلى الحج والغزو والهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم، وهذه أغراض دينية تتعلق بها إرادة الحكيم، فأما الأكل فمن جنس المنافع المباحة التي لا تتعلق بها إرادته، وعلى الأنعام (وعلى الفلك) في البر والبحر (تحملون ويريكم ءايته) أي حججه وبيناته (فأى ءايت الله تنكرون) توبيخ لهم على الجحد.

﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا في الأرض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) فلما جآءتهم رسلهم بالبينت فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به ى يستهزءون (83) فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به ى مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمنهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده ى وخسر هنالك الكفرون (85)﴾

آثارهم: أبنيتهم العظيمة التي بنوها، وقصورهم ومصانعهم، وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم (54) (فما أغنى): " ما " نافية أو استفهامية في محل نصب و " ما " الثانية مصدرية أو موصولة في محل رفع معناه: أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.

(فرحوا بما عندهم من العلم) قيل فيه وجوه: أحدها: أنه ورد على طريق التهكم، كما في قوله: (بل ادارك علمهم في الآخرة) (55) وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون: لا نبعث، وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علم الأنبياء (56).

والآخر: أن المراد علم الفلاسفة كانوا يصغرون علم الأنبياء إلى علمهم (57).

وعن سقراط أنه قيل: ائت موسى (عليه السلام) وكان في زمانه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهدينا (58).

وقيل: إن الفرح للرسل (59) والمعنى: أن الرسل لما رأوا استهزاءهم بالحق وجهلهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه (وحاق) بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وقيل: إن المراد علمهم بأمور الدنيا (60) كما قالوا: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) (61) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات لم يلتفتوا إليها، إذ كانت باعثة على رفض الشهوات وترك الدنيا، واعتقدوا أن لا علم أنفع من علمهم ففرحوا به.

(فلم يك ينفعهم إيمنهم) أي: لم يصح أن ينفعهم إيمانهم (لما رأوا) بأس الله (سنت الله) بمنزلة " وعد الله " ونحو ذلك من المصادر المؤكدة، و (هنالك) مكان مستعار للزمان، أي: وخسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله: (وخسر هنالك المبطلون) بعد قوله: (فإذا جآء أمر الله قضى بالحق) أي: خسروا وقت مجيء أمر الله، أو: وقت القضاء بالحق.

1- الآية: 18.

2- أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 7 ص 269 وعزاه إلى أبي الشيخ وأبي نعيم والديلمي. والحاكم في مستدركه: ج 2 ص 437.

3- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 183 مرسلا.

4- ثواب الأعمال للصدوق: ص 140، وليس فيه: " ثلاث مرات ".

5- قرأ أهل الكوفة إلا حفصا وابن ذكوان بالإمالة، والباقون بالفتح وتفخيمه من غير إمالة. راجع التبيان: ج 9 ص 53.

6- وبه قال الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 5.

7- وهو قول الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 366.

8- قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 567.

9- في نسخة: " الضمير ".

10- حكاه ابن عيسى كما في تفسير الماوردي: ج 5 ص 145.

11- قاله السدي. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 45.

12- المعارج: 3.

13- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 156.

14- قاله يحيى بن سلام. راجع تفسير القرطبي: ج 15 ص 299.

15- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 156.

16- قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 148.

17- قرأه رويس. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 651.

18- قرأه نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 568.

19- قرأه ابن عامر وحده. راجع المصدر السابق.

20- تفسير ابن عباس: ص 395.

21- وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 568.

22- ليس في نسخة: " خربيل ".

23- في نسخة: " والثواب ".

24- وعجزه: فإن زمانكم زمن خميص. لم يعلم قائله، يقول: اقتصروا على بعض ما يشبعكم، ولا تملئوا بطونكم من الطعام فينفد طعامكم، فإذا نفد احتجتم إلى أن تسألوا الناس أن يطعموكم شيئا، لأن زمانكم زمن القحط والجوع. انظر خزانة الأدب للبغدادي: ج 7 ص 559 وما بعده.

25- الأعراف: 44 و 50.

26- قاله ابن جريج. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 154.

27- حكاه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 75.

28- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 166.

29- الكشاف: ج 4 ص 167.

30- قرأه أبو عمرو والأخفش والداجوني عن هشام وقتيبة. راجع التبيان: ج 9 ص 74.

31- البقرة: 283.

32- انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 236.

33- قرأه عاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 570.

34- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.

35- وهو قول الخليل. حكاه عنه تلميذه سيبويه في كتابه: ج 1 ص 469.

36- وهو قول الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 376.

37- قاله المفضل. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 157.

38- النحل: 62.

39- قاله السدي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 99.

40- أي: كما تجازي تجازى. انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 2 ص 100.

41- الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بضم الخاء وألف موصولة تبعا للزمخشري في الكشاف.

42- قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 572.

43- وبالياء هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. راجع المصدر السابق.

44- قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 103.

45- أخرجه أحمد في مسنده: ج 4 ص 271.

46- الكافي: ج 2 ص 466 ح 1 باسناده عن زرارة.

47- قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 81.

48- النمل: 66.

49- وهو قول مجاهد. راجع تفسير الطبري السابق: ص 82.

50- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 182.

51- في هامش النسخة المطبوعة كلام للمعلق، يقول: " نقل العلامة المصنف رحمه الله هذه القصة تبعا للعلامة الزمخشري في الكشاف، ونقلها منهما مع تبحرهما وكونهما من أهل البحث والتحقيق في غاية الغرابة: فإن سقراط توفي قبل ميلاد المسيح (عليه السلام) بأربعمائة سنة، وله ثمانون سنة أو أزيد، وكان موسى (عليه السلام) قبل سقراط بأزيد من ألف عام، فإن بين زمان موسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) الف وستمائة سنة على ما في تفسير الشيخ الثقة علي بن إبراهيم رحمه الله أو كان أزيد منها على ما في بعض كتب التواريخ، فأين سقراط - وهو الحكيم الإلهي الذي كان يدعو قومه إلى التوحيد مع جهاده ونضاله الدائم طيلة حياته مع عبدة الأوثان حتى سقوه سما - من زمان موسى (عليه السلام) ؟! وما ذكرناه غير خفي على الباحث المنقب، فلاحظ التواريخ والتفاسير وكتب الحديث حتى تجد صدق ما قلناه، ولا تغتر بجلالة المصنف وصاحب الكشاف، وترحم بما يقال قديما: (كم ترك الأول للآخر). وذكر في بعض الكتب مثل هذه القصة الواهية في حق أفلاطون الإلهي أو جالينوس مع عيسى (عليه السلام) ".

52- حكاه ابن عيسى. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 165.

53- قاله السدي. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 82.

54- الروم: 7.

55- في نسخة " سورة السجدة "، وأخرى: " سورة حم السجدة ".

56- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 103: مكية في قول قتادة ومجاهد، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وهي أربع وخمسون آية كوفي، وثلاث في المدنيين، واثنتان وخمسون في البصري والشامي. وفي الكشاف: ج 4 ص 184 ما لفظه: مكية وآياتها (54) وقيل: (53) نزلت بعد غافر.

57- الآية: 1.

58- الآية: 13.

59- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 207 مرسلا.

60- ثواب الأعمال للصدوق: ص 140.

61- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 379.