سورة الدخان
مكية (1)، وهي تسع وخمسون آية، سبع بصري، (حم) و (إن هؤلاء ليقولون) (2) كوفي.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة غفر الله له " (3).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأها في فرائضه ونوافله بعثه الله من الآمنين يوم القيامة، وأظله تحت ظل عرشه، وحاسبه حسابا يسيرا، وأعطي كتابه بيمينه " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿حم (1) وا لكتب المبين (2) إنآ أنزلنه في ليلة مبركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) رب السموات والارض وما بينهمآ إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحىى ويميت ربكم ورب ءابآبكم الاولين (8) بل هم في شك يلعبون (8)﴾
.
(إنا أنزلنه) جواب القسم (في ليلة مبركة) هي ليلة القدر وهو الصحيح، وقيل: ليلة النصف من شعبان (5).
ومعنى إنزال الله القرآن في ليلة القدر أنه أنزله جملة واحدة إلى السماء الدنيا فيها، فكان جبرئيل ينزله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما، وقيل: كان ينزل ما يحتاجون إليه في كل سنة: في هذه الليلة، ثم كان ينزله شيئا فشيئا وقت الحاجة (6).
وسميت مباركة لأن فيها يقسم الله نعمه على عباده فتدوم بركاتها، والبركة: نماء الخير، والمباركة: الكثيرة الخير والبركة، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة.
(فيها يفرق) أي: يفصل ويكتب (كل أمر حكيم) كل شأن ذي حكمة، أي: مفعول على ما تقتضيه الحكمة من أرزاق العباد وآجالهم وغير ذلك من أمور السنة إلى الليلة الأخرى القابلة، ووصف الأمر بالحكيم مجاز؛ لأن " الحكيم " صفة صاحب الأمر على الحقيقة.
وقوله: (إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم) جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار، وأنزلناه في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم.
(أمرا من عندنا) نصب على الاختصاص، أي: أعني أمرا حاصلا من عندنا على ما اقتضته حكمتنا وتدبيرنا، ويجوز أن يراد به الأمر ضد النهي فوضع موضع مصدر (يفرق) من حيث أن الأمر والفرقان واحد، لأن من حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه، أو: جعل حالا من أحد الضميرين في (أنزلنه) أي: أنزلناه في حال كونه أمرا بما يجب أن يفعل، أو: أنزلناه آمرين (إنا كنا مرسلين) يجوز أن يكون بدلا من: (إنا كنا منذرين)، و (رحمة من ربك) مفعول له والمعنى: إنا أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، وأن يكون تعليلا لـ (يفرق)، أو: لقوله: (أمرا من عندنا) و (رحمة) مفعولا به، أي: يفرق في هذه الليلة كل أمر، أو: تصدر الأوامر من عندنا، لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا، وفصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عز وجل؛ لأن الغرض من تكليف العباد تعريضهم للمنافع، والأصل: إنا كنا مرسلين رحمة منا، فوضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين (إنه هو السمع العليم) وما بعده تحقيق لربوبيته وأنها لا تحق إلا لمن هذه أوصافه.
وقرئ: " رب السموات " و " ربكم ورب آبائكم " بالجر (7) بدلا من (ربك)، (إن كنتم موقنين) أي: إن كان إقراركم بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا عن معرفة وإيقان.
ثم رد كونهم موقنين بقوله: (بل هم في شك يلعبون) أي: إقرارهم لا يصدر عن علم وحقيقة بل هو قول مخلوط بلعب وهزء.
﴿فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12) أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عآئدون (15) يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16) ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجآءهم رسول كريم (17) أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين (18) وأن لا تعلوا على الله إنى ءاتيكم بسلطن مبين (19) وإنى عذت بربى وربكم أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون (21)﴾
(يوم تأتى) مفعول به (فارتقب) يقال: رقبته وارتقبته.
واختلف في " الدخان " فقيل: إنه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ (8)، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص (9)، ويمتد ذلك أربعين يوما، روي ذلك عن علي (عليه السلام) وابن عباس والحسن (10) وقيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا على قومه لما كذبوه فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز (11)، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه بالله والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم، روي ذلك عن ابن مسعود (12).
(يغشى الناس) أي: يشملهم ويلبسهم، وهو في محل الجر صفة لـ (دخان) أي: يقولون: (هذا عذاب أليم) إلى قوله: (مؤمنون)، و " يقولون " المحذوف نصب على الحال أي: قائلين ذلك.
و (إنا مؤمنون) موعدة بالإيمان إن كشف العذاب عنهم (أنى لهم الذكرى) كيف يذكرون ويتعظون ويفون بوعدهم (وقد جآءهم) ما هو أعظم من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات القاهرة، فلم يذكروا و (تولوا عنه) وبهتوه، بأن غلاما أعجميا اسمه عداس هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون.
ثم قال: (إنا كاشفوا العذاب) الجوع والدخان (قليلا إنكم عآئدون) أي: ريثما يكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم، لا تلبثون غب الكشف على ما أنتم عليه من الابتهال والتضرع.
ومن جعل الدخان قبل يوم القيامة قال في قوله: (إنا كاشفوا العذاب): إنه إذا أتت السماء بالدخان تضرع المعذبون به وقالوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا منيبون مؤمنون، فيكشفه الله عنهم، فريثما يكشفه عنهم يرتدون.
ثم قال: (يوم نبطش البطشة) يريد: يوم القيامة، كقوله: (فإذا جآءت الطامة الكبرى) (13)، (إنا منتقمون) ننتقم منهم في ذلك اليوم، فانتصب (يوم نبطش) بما دل عليه (إنا منتقمون)، لأن ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبلها.
وقرئ: (نبطش) بضم الطاء (14) وكسرها.
(ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون) معنى الفتنة: أنه أمهلهم ووسع عليهم الرزق،
وكان ذلك سببا لانهماكهم في المعاصي، وابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان (وجآءهم رسول كريم) على الله، أو: كريم الأخلاق والأفعال.
(أن أدوا) هي " أن " المفسرة، لأنه لا يجيء الرسول قومه إلا مبشرا ونذيرا، فيتضمن معنى القول، وهي مخففة من الثقيلة أي: جاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إلي، و (عباد الله) مفعول به وهم بنو إسرائيل، أي: أدوهم إلي وأرسلوهم معي، أو: أدوا إلي يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان بي وقبول دعوتي، وعلل ذلك بأنه (رسول أمين) قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته.
(وأن لا تعلوا): " أن " هذه مثل الأولى، أي: لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه.
وقرئ: " عت " بالإدغام (15) ومعناه: أنه عائذ بربه، معتصم به من كيدهم، فلا يكترث بتهددهم بالقتل والرجم.
(فاعتزلون) يريد: (إن لم تؤمنوا بى) فتنحوا عني واقطعوا أسباب الوصلة بيني وبينكم، أو: فخلوني كفافا لا علي ولا لي، ولا تتعرضوا لي بشرككم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه صلاحكم وفلاحكم ذلك.
﴿فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادى ليلا إنكم متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم تركوا من جنت وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فكهين (27) كذا لك وأورثنها قوما ءاخرين (28) فما بكت عليهم السمآء والارض وما كانوا منظرين (29) ولقد نجينا بنى إسراءيل من العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31) ولقد اخترنهم على علم على العلمين (32) وءاتينهم من الأيت ما فيه بلؤا مبين (33)﴾
(فدعا ربه) قال: (إن هؤلاء قوم مجرمون) أي: مشركون لا يؤمنون.
(فأسر بعبادى) فيه وجهان: إضمار القول بعد الفاء " فقال: أسر "، وأن يكون جواب شرط محذوف نحو: إن كان الأمر كما تقول فأسر بعبادي.
(رهوا) فيه وجهان: أحدهما: أنه الساكن (16)، قال الأعشى: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة * ولا الصدور على الأعجاز تتكل (17) أي: مشيا ساكنا على هينته، أراد موسى (عليه السلام) لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمره سبحانه أن يتركه ساكنا قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ليدخله القبط فيغرقوا، وقيل: الرهوة: الفجوة الواسعة (18)، أي: تركه مفتوحا على حاله (ومقام كريم) ومجلس خطير ومنزل بهي ونعمة وتنعم وسعة في العيش.
(كذلك) الكاف منصوبة على معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، أو: في موضع الرفع، أي الأمر كذلك (وأورثنها قوما ءاخرين) ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين.
(فما بكت عليهم السماء والأرض) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يجل رزؤه ويعظم فقده فيقال فيه: بكت عليه السماء (وما كانوا منظرين) أي: ممهلين من فرعون، بدل من قوله: (من العذاب المهين) كأنه في نفسه كان عذابا مهينا لإفراطه في تعذيبهم، ويجوز أن يكون (من فرعون) حالا من (العذاب) أي: واقعا من جهة فرعون (عاليا من المسرفين) أي: كبيرا رفيع الطبقة من بينهم بليغا في إسرافه، أو: عاليا متكبرا، و (من المسرفين) خبر ثان كأنه قال: كان متكبرا مسرفا.
(على علم) في موضع الحال أي: عالمين بمكان الخيرة، وبأنهم أحقاء بالاختيار (على العلمين) عالمي زمانهم (وءاتينهم من) الدلالات والمعجزات (ما فيه بلؤا مبين) نعمة ظاهرة (19) أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون.
﴿إن هؤلاء ليقولون (34) إن هى إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35) فأتوا بابآبنآ إن كنتم صدقين (36) أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكنهم إنهم كانوا مجرمين (37) وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لعبين (38) ما خلقنهمآ إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون (39) إن يوم الفصل ميقتهم أجمعين (40) يوم لا يغنى مولى عن مولى شيا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42) إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلى في البطون (45) كغلى الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه ى من عذاب الحميم (48) ذق إنك أنت العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به ى تمترون (50)﴾
ثم رجع سبحانه إلى ذكر من ذكرهم في أول السورة من كفار قريش، فقال: (إن هؤلاء ليقولون إن هى) أي: ما الموتة (إلا موتتنا الأولى) نموتها في الدنيا ثم لا بعث بعدها (وما نحن بمنشرين) بمبعوثين ولا معادين.
(فأتوا بآبائنا) الذين ماتوا قبلنا وأعيدوهم (إن كنتم صدقين) في أن الله يعيد الأموات، وقائله أبو جهل قال: إن كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب!! وهذا جهل من أبي جهل؛ لأن النشأة الثانية إنما وجبت للجزاء لا للتكليف، وليست هذه الدار بدار جزاء بل دار تكليف، فكأنه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف!! فلذلك عدل عن مقابلته إلى الوعيد والوعظ بما هو أعود عليه فقيل: (أهم خير أم قوم تبع) أي: أهم أكثر عددا وعدة ونعمة وقوة ؟! كقوله: (أكفاركم خير من أولئكم) (20) بعد ذكر آل فرعون، وهو تبع الحميري، كان مؤمنا وقومه كافرين، وهو الذي سار بالجيوش حتى حير الحيرة، ثم أتى سمرقند فهدمها ثم بناها، وكان إذا كتب كتب: " باسم الله الذي ملك برا وبحرا وضحا وريحا " ذم الله قومه ولم يذمه.
وعن الصادق (عليه السلام): أن تبع قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي، أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه (21).
(وما بينهما) يريد: وما بين الجنسين.
(إن يوم الفصل) ميقات حسابهم وجزائهم (أجمعين).
(يوم لا يغنى مولى) أي مولى كان من قرابة وغيرها (عن) أي (مولى) كان شيئا من إغناء (ولا هم ينصرون) الضمير للموالي؛ لأنهم في المعنى كثير لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى.
(من رحم الله) في محل الرفع على البدل من الواو في (ينصرون)، أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله: إما بأن يسقط عقابهم ابتداء، أو يأذن بالشفاعة فيهم لمن علت درجته عنده فيسقط عقاب المشفوع له بشفاعته (إنه هو العزيز) في انتقامه من أعدائه (الرحيم) بالمؤمنين، ويجوز أن يكون (من رحم الله) منصوبا على الاستثناء.
و (الأثيم): الآثم، وقيل: هو أبو جهل (22)، وروي أنه أتى بتمر وزبد فجمع بينهما وأكل وقال: هذا هو الزقوم الذي يخوفنا محمد به ونحن نتزقمه أي: نملأ أفواهنا به (23).
(كالمهل) وهو المذاب من النحاس، وقيل: هو دردي الزيت (24)، وقرئ: (يغلى) بالياء والتاء (25)، فمن قرأ بالتاء فعلى " الشجرة "، ومن قرأ بالياء حمله على " الطعام "، لأن الطعام هو الشجرة في المعنى، ولا يحمل على " المهل " بل على المشبه بالمهل، والكاف في محل الرفع خبر بعد خبر، وكذلك يغلي.
يقال للزبانية: (خذوه فاعتلوه) فقودوه بعنف، وهو أن يؤخذ بتلابيب (26) الرجل فيجر إلى قتل أو حبس، ومنه: " العتل "، وقرئ بكسر التاء وضمها (27) (إلى سوآء الجحيم) إلى وسطها ومعظمها، وسمي وسط الشيء سواء لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به.
ويجوز أن يكون " الصب " على طريق الاستعارة كقول الشاعر: صبت عليه صروف الدهر من صبب (28) وكقوله: (أفرغ علينا صبرا) (29) يقال: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) على سبيل الهزء والتهكم لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.
وروي أن أبا جهل قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني " (30).
وقرئ: " أنك " بالفتح (31) أي: لأنك.
(إن هذا) العذاب، أو: إن هذا الأمر هو (ما كنتم به تمترون) أي: تشكون فيه، أو: تتمارون وتتلاجون بسببه.
﴿إن المتقين في مقام أمين (51) في جنت وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقبلين (53) كذا لك وزوجنهم بحور عين (54) يدعون فيها بكل فكهة ءامنين (55) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذا لك هو الفوز العظيم (57) فإنما يسرنه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59)﴾
قرئ (مقام) بالفتح (32) وهو موضع القيام، وبالضم (33) - مقام - وهو موضع الإقامة، و " الأمين " في وصف المكان مستعار، لأن المكان المخيف كأنما يخوف صاحبه مما يلقى فيه من المكاره.
قالوا: السندس: ما رق من الديباج، والاستبرق: ما غلظ منه (34)، وهو معرب " استبر "، وإنما ساغ وقوع اللفظ الأعجمي في القرآن لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه، وإجرائه على وجوه الإعراب (35).
(كذلك) الكاف مرفوعة، أي: الأمر كذلك، أو: منصوبة أي: مثل ذلك آتيناهم (وزوجنهم) وعن الأخفش: هو التزويج المعروف (36)، وعن غيره: لا يكون في الجنة تزويج، والمعنى: وقرناهم (بحور عين) (37).
(يدعون) أي: يستدعون فيها أي ثمرة شاؤوها واشتهوها (ءامنين) من نفادها ومضرتها، غير خائفين فوتها.
أي: (لا يذوقون فيها الموت) ألبتة، فوضع قوله: (إلا الموتة الأولى) موضع ذلك، لأن الموتة الماضية لا يمكن ذوقها في المستقبل، وهو من باب التعليق بالمحال، فكأنه قال: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها.
(فضلا من ربك) أي: تفضلا منه وعطاء وثوابا.
يعني: كل ما أعطي المتقين من نعيم الجنة والنجاة من النار (فإنما يسرنه) معناه: ذكرهم بالكتاب المبين فإنما سهلناه (بلسانك) بلغتك، حيث أنزلناه عربيا ليسهل عليك وعلى قومك تفهمه والتذكر به.
(فارتقب) فانتظر ما يحل بهم (إنهم مرتقبون) ما يحل بك ومتربصون بكم (38) الدوائر، وقيل: انتظر نصرك عليهم فإنهم ينتظرون خلافه بزعمهم (39).1- تفسير الطبري: ج 11 ص 227، التبيان: ج 9 ص 226.
2- العلهز: طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة. (الصحاح).
3- رواه عنه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 225.
4- النازعات: 34.
5- وهي قراءة الحسن وأبي جعفر المدني. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 138.
6- قرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع برواية إسماعيل بن جعفر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 570.
7- وهو قول الكلبي والأخفش وقطرب. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 250.
8- كذا نسبه تبعا للزمخشري، والمشهور للقطامي الضبعي من أبيات يصف إبلا يمشين مشيا على هينة وسكينة. أنظر الصحاح: مادة " رها ".
9- قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 250.
10- في التبيان: ج 9 ص 235: قال الفراء: البلاء قد يكون بالعذاب وقد يكون بالنعمة، وهو ما فعل الله بهم من إهلاك فرعون وقومه وتخليصهم منه وإظهار نعمه عليهم شيئا بعد شيء.
11- القمر: 43.
12- رواه الصدوق في كمال الدين: ج 1 ص 170 ح 26.
13- قاله ابن زيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 243.
14- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 281 عن ابن الزبعرى.
15- قاله ابن عباس وابن عمر وسعيد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 243 - 245.
16- وبالتاء قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 592.
17- لببت الرجل تلبيبا: إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحوه في الخصومة ثم جررته. (الصحاح: مادة لبب).
18- بالضم قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.
19- وصدره: كم امرئ كان في خفض وفي دعة. لم نعثر على قائله، قد ذكره صاحب الكشاف، ومعناه واضح.
20- البقرة: 250.
21- رواه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 246 عن قتادة.
22- وهي قراءة الكسائي وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 593.
23- أي فتح الميم الأولى.
24- وهي قراءة نافع وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 593.
25- وهو قول عكرمة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 258.
26- وهو قول الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 282.
27- معاني القرآن للأخفش: ج 2 ص 691.
28- وهو ما قاله يونس كما في تفسير الرازي: ج 27 ص 253.
29- في نسخة: " بك ".
30- قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 251.
31- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 244: مكية في قول قتادة ومجاهد، وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست في البصري والمدنيين. وفي تفسير الماوردي ج 5 ص 260: مكية كلها في قول الحسن وجابر وعطاء وعكرمة، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي (قل للذين ءامنوا يغفروا). وفي الكشاف: ج 4 ص 284: مكية إلا آية (14) فمدنية، وآياتها (37) وقيل: (36) آية، نزلت بعد الدخان.
32- الآية: 14.
33- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 294 مرسلا.
34- ثواب الأعمال للصدوق: ص 141، وفيه بعد " أبدا ": " ولا يسمع زفير جهنم ولا شهيقها ".
35- قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 594.
36- انظر معاني القرآن: ج 1 ص 332 - 333.
37- أنظر كتاب سيبويه: ج 1 ص 65 - 66.
38- لأبي داود الإيادي. والبيت واضح المعنى. راجع ديوان أبي داود: ص 353، والكامل للمبرد: ج 1 ص 376 وفيهما بدل " تأجج ": " توقد ".
39- كتاب سيبويه: ج 1 ص 66.