سورة الحجرات

مدنية (1) وهي ثمان عشرة آية.

في حديث أبي: " من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه " (2).

وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في كل يوم أو في كل ليلة كان من زوار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدى الله ورسوله ى واتقوا الله إن الله سميع عليم (1) يأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعملكم وأنتم لا تشعرون (2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3) إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5)﴾

(لا تقدموا) يجوز أن يكون من: قدم بمعنى: " تقدم "، مثل: وجه وبين بمعنى: " توجه " و " تبين "، ويعضده قراءة من قرأ: " لا تقدموا " (4)، أي: لا تتقدموا فحذف أحد التاءين، ويجوز أن يكون متعديا، يقال: قدمه وأقدمه، فحذف المفعول ليتناول كل ما يقدم، والمعنى: لا تقطعوا أمرا دون أن يأذن الله ورسوله فيه، وعن ابن عباس: لا تتكلموا قبل أن يتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا سئل عن مسألة فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب أولا (5).

وعن الحسن: نزل في قوم ذبحوا الأضحية قبل صلاة العيد فأمرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإعادة (6).

وعلى الجملة فالمراد: كونوا تبعا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله، ولا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروه (واتقوا الله) فإنكم إن اتقيتموه لم تسبقوا رسوله بقول ولا فعل حتى يأمركم به (إن الله سميع) لأقوالكم (عليم) بأعمالكم.

ثم أعاد سبحانه النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد: (لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي) يعني: إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه صوته (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) أي: لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض، وهذا يدل على أنهم نهوا عن جهر موصوف بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو أن يكون خاليا من مراعاة حشمة النبوة وجلالة مقدارها، وقيل: معناه: ولا تقولوا: يا محمد يا أحمد، كما يخاطب بعضكم بعضا، بل خاطبوه بالتعظيم وقولوا: يا رسول الله (7).

وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا كلمه رفع صوته وربما تأذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصوته (8).

وعن أنس: لما نزلت الآية فقد ثابت، فتفقده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبر بشأنه، فدعاه فسأله، فقال: يا رسول الله، لقد أنزلت هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة " (9).

(أن تحبط أعملكم) مفعول له، ومعناه: انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي: لخشية حبوطها، فحذف المضاف (وأنتم لا تشعرون) أن أعمالكم حبطت.

(إن الذين يغضون أصوتهم) أي: يخفضونها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إجلالا له (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم) أي: اختبرها فأخلصها (للتقوى) من قولهم: امتحن فلان لأمر كذا وجرب فهو مضطلع به غير مقصر فيه، أو: وضع الامتحان موضع المعرفة؛ لأن الشيء إنما يتحقق بالاختبار، فكأنه قال: عرف الله قلوبهم للتقوى، ويكون اللام متعلقة بمحذوف كما في قولك: أنت لهذا الأمر، أي: كائن له ومختص به، قال: أعداء من لليعملات على الوجى (10) وهي مع معمولها في موضع الحال.

(إن الذين ينادونك من ورآء الحجرت) من خلفها وقدامها، و " من " لابتداء الغاية، وإن النداء إنشاء من ذلك المكان، والحجرة: البقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وهي فعلة بمعنى مفعولة كالغرفة والقبضة.

والمراد حجرات نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وروي: أن وفد بني تميم أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقت الظهيرة وهو راقد فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا! فاستيقظ فخرج، فنزلت (11).

(أكثرهم لا يعقلون) سجل عليهم بالسفه والجهل لما أقدموا عليه.

(ولو أنهم صبروا) في محل رفع على الفاعلية، لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم، والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، وقولهم: " صبروا عن كذا " حذف منه المفعول وهو النفس، وهو حبس فيه شدة على المحبوس، ولذلك قيل للحبس على اليمين أو القتل: صبر، والفائدة في قوله: (إليهم) أنه لو خرج ولم يكن خروجه لأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم ولأجلهم (لكان خيرا لهم) في " كان ": إما ضمير مصدر الفعل (12) المضمر بعد " لو " وإما ضمير مصدر (صبروا) كقولهم: من كذب كان شرا له.

﴿يأيها الذين ءامنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهلة فتصبحوا على ما فعلتم ندمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمن وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8) وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)﴾

الفاسق هو الوليد بن عقبة (13)؛ أخو عثمان لأمه، وهو الذي ولاه عثمان الكوفة، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الصبح أربعا ثم قال: أزيدكم فإني نشيط ؟! بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدقا (14) إلى بني المصطلق، وكانت بينه وبينهم إحنة (15) فاستقبلوه فظن أنهم هموا بقتله فرجع وقال: إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم أن يغزوهم فنزلت (16).

وفي تنكير " الفاسق " و " النبأ " معنى الشياع، والمراد: أي فاسق جاءكم بأي نبأ كان (فتبينوا) صدقه من كذبه، وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق، وقرئ: " فتثبتوا ? (17) وروي ذلك عن الباقر (عليه السلام)، والتثبت والتبين متقاربان وهما التوقف وطلب الثبات والبيان (أن تصيبوا) مفعول له أي: كراهة إصابتكم (قوما بجهلة) حال بمعنى: جاهلين بحقيقة الأمر، كقوله: (ورد الله الذين كفروا) (18) بغيظهم (فتصبحوا) أي: فتصيروا (على ما فعلتم) من إصابتهم بالخطأ (ندمين) والندم ضرب من الغم، وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع.

(لو يطيعكم) هذه الجملة المصدرة ب? " لو " حال من أحد الضميرين في (فيكم) المرفوع المستكن أو المجرور الظاهر، والمعنى: إن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها، أو: أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها، وهي أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث ما تستصوبونه فعل التابع لغيره المطواع له، ولو فعل ذلك (لعنتم) أي: لوقعتم في الإثم والهلاك، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تصديق قول الوليد والإيقاع ببني المصطلق، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم يريمهم (19) التقوى عن الحسادة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان) أي: إلى بعضكم، وهم (الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى)، والمعنى في تحبيب الله وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق، وكل عاقل يعلم أن الرجل لا يكون ممدوحا بفعل غيره، وإذا حملت الآية على ظاهرها أدى ذلك إلى أن الله جل وعز أثنى عليهم بفعل نفسه، و (الكفر): تغطية نعم الله تعالى وغطيها بالجحود (والفسوق) الخروج عن قصد الإيمان ومحجته بركوب المعاصي، وقيل: هو الكذب (20) وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) (21) (والعصيان) المعصية (أولئك هم الرشدون) المهتدون إلى محاسن الأمور، المستقيمون على الحق.

(فضلا) مفعول له أو مصدر من غير فعله، والفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام.

وعن ابن عباس قال: وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار، فراث (22) الحمار فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه فقال: خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه، فقال عبد الله بن رواحة: والله لحمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب ريحا منك، ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطال الخوض بينهما حتى استبا وجاء قومهما الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي فرجع إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصلح بينهم، فنزلت، وقرأها عليهم فاصطلحوا (23).

والبغي: الاستطالة والظلم، والفيء: الرجوع، وقد يسمى به الظل والغنيمة؛ لأن الظل يرجع، والغنيمة: ما ترجع إلى المسلمين من أموال الكفار (فإن فاءت) أي: رجعت وأنابت إلى طاعة الله (فأصلحوا بينهما) بين الطائفتين بالعدل (وأقسطوا) أي: اعدلوا (إن الله يحب المقسطين) أي: العادلين.

(إنما المؤمنون إخوة) في الدين (فأصلحوا بين أخويكم) بين كل رجلين تقاتلا وتخاصما، أي: كفوا الظالم عن المظلوم وأعينوا المظلوم.

وفي الحديث: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " (24).

وقيل: المراد بالأخوين: الأوس والخزرج (25)، وقرئ: " بين إخوتكم " على الجمع (26) (واتقوا الله) فإنكم إن فعلتم ذلك حملكم التقوى على التواصل والائتلاف، فتصل عند ذلك رحمة الله إليكم، وتشمل رأفته عليكم.

﴿يأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقب بئس الاسم الفسوق بعد الايمن ومن لم يتب فأولئك هم الظلمون (11) يأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12) يأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13) قالت الاعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمن في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعملكم شيا إن الله غفور رحيم (14)﴾

القوم: رجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء، وهو في الأصل جمع " قائم "، كصوم وزور في جمع " صائم " و " زائر "، قال زهير: وما أدري وسوف إخال أدري * أقوم آل حصن أم نساء (27) والمعنى (لا يسخر) بعض الرجال من بعض، ولا بعض النساء من بعض، وقوله: (عسى أن يكونوا خيرا منهم) كلام مستأنف، وقد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه، والمعنى: أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر، فينبغي أن لا يستهزئ أحد بمن يراه رث الحال أو ذا عاهة، فلعله أتقى عند الله وأخلص ضميرا ممن هو على ضد صفته، فيكون قد حقر من وقره الله.

(ولا تلمزوا أنفسكم) أي: لا يطعن بعضكم على بعض، ومثله (لا تقتلوا أنفسكم) (28) لأن المؤمنين كنفس واحدة، أي: حصنوا أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن يعتبوا (29) غيركم ممن لا يدين بدينكم.

وفي الحديث: " اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس " (30).

واللمز: الطعن والعيب في المشهد، والهمز: في الغيب، وقيل: إن اللمز ما يكون باللسان وبالعين والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان (31).

(ولا تنابزوا بالألقب) أي: لا تداعوا بها، وهو تفاعل من النبز، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون بمعنى، والتلقيب المنهي عنه هو ما يدخل على المدعو به كراهة لكونه ذما له وشينا، فأما ما يحبه وما يزينه وينوه به فلا بأس به.

وفي الحديث: " من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه " (32).

وعن ابن عباس: أن أم سلمة ربطت حقويها بسبيبة - وهي ثوب أبيض - وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذه كانت سخريتها (33).

وقيل: إنها عيرتها بالقصر وأشارت بيدها أنها قصيرة (34).

وقيل: إن صفية بنت حيي أتت رسول الله تبكي وقالت: إن عائشة تعيرني وتقول: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هلا قلت إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " فنزلت (35).

(بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) الاسم هنا بمعنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، أي: صيته وذكره، وحقيقته: ما سما من ذكره وارتفع بين الناس، كأنه قال: بئس الاسم المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسوق.

وفي قوله: (بعد الايمن) ثلاثة أوجه: أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان والفسق، كما يقال: بئس الشأن بعد الكبر الصبوة.

والثاني: أن يكون المعنى: بئس الذكر أن يذكر الرجل بالفسق بعد إيمانه، وذلك أنهم كانوا يقولون لمن أسلم من اليهود: يا يهودي يا فاسق، فنهوا عنه، وتكون الجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز، والثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.

(اجتنبوا كثيرا من الظن) وهو أن يظن بأهل الخير سوءا، يقال: جنبه الشر إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فيعدى إلى مفعولين، ومطاوعته: اجتنب الشر، فتعدى إلى مفعول واحد (إن بعض الظن إثم) أي: ذنب يستحق به العقاب (ولا تجسسوا) والتجسس - بالجيم والحاء - واحد، والجيم تفعل من الجس، كما أن التلمس بمعنى التطلب من اللمس، والحاء بمعنى التعرف من الحس، ولتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان: الحواس، بالحاء والجيم، والمراد: النهي عن تتبع عورات المسلمين ومعائبهم (ولا يغتب بعضكم بعضا) يقال: غابه واغتابه كغاله واغتاله، والغيبة من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال، وهي ذكر السوء في الغيبة.

وسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الغيبة فقال: " أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته " (36).

(أيحب أحدكم) تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه.

وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي (37).

و (ميتا) نصب على الحال من (لحم أخيه) أو من " الأخ "، ولما قرر سبحانه بأن أحدا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله: (فكرهتموه) أي: فتحققت بوجوب الإقرار عليكم كراهتكم له ونفور طباعكم منه، فاكرهوا ما هو نظيره من الغيبة.

وروي: أن أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلى أسامة بن زيد - وكان خازن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رحله - فقال: ما عندي شيء، فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة، ولو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثم انطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟قالا: يا رسول الله، ما تناولنا اليوم لحما! قال: ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة، فنزلت (38).

(واتقوا الله) بترك ما أمرتم باجتنابه، والندم على ما وجد منكم منه (إن الله تواب) يقبل توبتكم.

(إنا خلقنكم من ذكر وأنثى) من آدم وحواء، وقيل: خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر (39)، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب (وجعلناكم شعوبا) جمع شعب وهو الطبقة الأولى من طبقات الست مثل مضر وربيعة (وقبائل) وهي دون الشعوب كبكر بن (40) ربيعة وتميم بن (41) مضر، ثم العمارة دون القبيلة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة (لتعارفوا) أي: لتتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا بنسبه وأبيه وقومه، لا لأن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاوت والتفاضل، ثم بين سبحانه الخصلة التي يكتسب الإنسان بها الكرم والشرف عند الله تعالى ويفضل غيره فقال: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أي: أرفعكم منزلة عند الله وأكثركم ثوابا أتقاكم لمعاصيه، وأعملكم بطاعته.

الإيمان: هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس، والإسلام: الدخول في السلم، والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله: (ولما يدخل الإيمن في قلوبكم).

وضع قوله (لم تؤمنوا) موضع " كذبتم " بدلالة قوله في صفة المخلصين: (أولئك هم الصادقون) تعريضا بأن هؤلاء هم الكاذبون، (ولكن قولوا أسلمنا) ولم يقل: " ولكن أسلمتم " ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: (ءامنا) كذلك، (لا يلتكم) أي: لا ينقصكم ولا يظلمكم (من) ثواب (أعملكم شيئا) يقال: ألته حقه يألته ألتا، ولاته يليته بمعناه، وقرئ (لا يلتكم) و " لا يألتكم ? (42) على اللغتين.

وعن ابن عباس: أن نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادة، وأغلوا أسعار المدينة، وهم يغدون ويروحون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والذراري، يريدون الصدقة ويمنون عليه، فنزلت (43).

﴿إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ى ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصدقون (15) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شىء عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلمكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمن إن كنتم صدقين (17) إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعملون (18)﴾

(ثم لم يرتابوا) ثم لم يشكوا بعد ثلج صدورهم بالإيمان بأن يعترضهم الشيطان أو بعض المضلين فيشككهم ويقذف في قلوبهم ما يثلم اليقين (وجهدوا) العدو المحارب أو الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء (أولئك هم) الذين صدقوا في قولهم: آمنا، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد، وهم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق.

(قل أتعلمون الله بدينكم) أي: أتخبرون الله بدينكم، والمعنى: أنه عالم بذلك، ومحيط بضمائركم، ولا يحتاج إلى إخباركم به؛ لأنه (يعلم) جميع المعلومات لذاته، فلا يحتاج إلى علم يعلم به ولا إلى من يعلمه.

يقال: من عليه بيد أسداها إليه: إذا اعتدها عليه إنعاما، أي: لا تعتدوا على بما ليس جديرا بالاعتداد به من حديثكم الذي حق تسميته أن يقال له: إسلام لا إيمان (بل الله) يعتد (عليكم) بأن أمدكم بتوفيقه حين (هداكم للايمن) على ما زعمتم وادعيتم: أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له، إن صح زعمكم وصدقت دعواكم، لا أنكم تزعمون: ما الله عالم بخلافه! وفي إضافة " الإسلام " إليهم وإيراد " الإيمان " غير مضاف ما لا يخفى على متأمله، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فلله المنة عليكم.

وقرئ: (بما تعملون) بالتاء والياء (44) وفيه إشارة إلى كونهم غير صادقين في دعواهم، أي: لا يخفى عليه شيء من أسراركم فكيف لا يظهر على صدقكم وكذبكم؟

1- المصدق: الذي يأخذ صدقات الغنم. (الصحاح).

2- الإحنة: الحقد في الصدر (لسان العرب: مادة أحن).

3- أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 383 - 384 عن أم سلمة وابن عباس ومجاهد وقتادة ويزيد بن رومان.

4- قرأه ابن مسعود وحمزة والكسائي. راجع الكشاف: ج 4 ص 360، والتذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 378.

5- الأحزاب: 25.

6- الريم: البراح، يقال: رام يريم إذا برح. (لسان العرب).

7- قاله ابن عباس. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 212.

8- تفسير العياشي: ج 1 ص 96 ح 260.

9- الروث: رجيع ذي الحافر. (لسان العرب).

10- أخرجه البخاري في صحيحه: ج 5 ص 218 ح 2691 كتاب الصلح.

11- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: ج 6 ص 94.

12- قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 388.

13- وهي قراءة يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 689.

14- البيت من قصيدة طويلة يهجو فيها قوما من بني غليب، يقول: سأبحث عن حقيقة أمر هؤلاء الناس أرجال هم أم نساء! وهذا هزء بهم وتوعد لهم. راجع ديوان زهير بن أبي سلمى: ص 12.

15- النساء: 29.

16- في نسخة: " تعيبوا ".

17- أخرجه العجلوني في كشف الخفاء: ج 1 ص 114 و ج 2 ص 492، وابن حجر في الكاف الشاف: ص 157، والشهيد الثاني في كشف الريبة: ص 79.

18- قاله الطبري كما في تفسير القرطبي: ج 16 ص 327.

19- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 369.

20- تفسير ابن عباس: ص 436.

21- أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 395 عن حسان بن المخارق.

22- قاله ابن عباس. راجع أسباب النزول للواحدي: ص 334 ح 812 وأورده القمي علي بن إبراهيم في تفسيره: ج 2 ص 329.

23- أخرجه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 2001 ح 2589، وفي مجموعة ورام: ص 95 بألفاظ متقاربة، والشهيد الثاني في كشف الريبة: ص 52.

24- حكاه عنه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 396.

25- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 374 عن ابن عباس ولم يذكر اسم الرجلين إلا بلفظ " رجلين من الصحابة ".

26- قاله مجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 397.

27- في نسخة " من " بدل " بن ".

28- قرأه البصريان (أبو عمرو ويعقوب) بهمزة ساكنة، لكن أبو عمرو يقلبها ألفا إذا ترك الهمز. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 689.

29- تفسير ابن عباس: ص 437.

30- وبالياء هي قراءة ابن كثير وعاصم برواية أبان عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 606.

31- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 356: مكية بلا خلاف، وهي خمس وأربعون آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 379: مكية إلا آية (38) فمدنية، وآياتها (45) نزلت بعد المرسلات. وفي تفسير القرطبي: ج 17 ص 1: مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله تعالى: (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام) الآية.

32- في نسخة: " يقال إلا آية ".

33- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 394 مرسلا.

34- ثواب الأعمال للصدوق: ص 142 وفيه: " من أدمن " بدل " من قرأ ".

35- ص: 1.

36- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 380.

37- الملك: 3.

38- في بعض النسخ: " لرزقهم ".

39- البيت من قصيدة طويلة يذكر فيها مآثره ومواقفه ولا تخلو من حكم، ومنها هذا البيت، يقول: حدث نفسك بالظفر وبلوغ الأمل دائما لتنشطها على الإقدام والعمل راجع ديوان لبيد بن ربيعة العامري: ص 141.

40- البيت لابن أحمر، وقيل: للأزرق بن طرفة الفراصي، يقول: رماني بأمر عاد إليه قبحه لأن الذي يرمي من جول البئر يعود ما رمى به عليه. أنظر لسان العرب: مادة " جول ".

41- أخرجه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 223 عن أبي أمامة.

42- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 45.

43- المؤمنون: 20.

44- وهي قراءة أبي بكر وابن مسعود. راجع التبيان: ج 9 ص 365.