سورة ق

مكية (1) إلا آية (2)، وهي خمس وأربعون آية.

وفي حديث أبي: " من قرأ سورة ق هون الله عليه سكرات الموت " (3).

وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ في فرائضه ونوافله سورة ق وسع الله عليه في رزقه، وأعطاه الله كتابه بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا " (4).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ق والقرءان المجيد (1) بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكفرون هذا شىء عجيب (2) أءذا متنا وكنا ترابا ذا لك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جآءهم فهم في أمر مريج (5) أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنينها وزينها ومالها من فروج (6) والارض مددنها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السمآء مآء مبركا فأنبتنا به ى جنت وحب الحصيد (9) والنخل باسقت لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به ى بلدة ميتا كذا لك الخروج (11)﴾

الكلام في (ق والقرءان المجيد) مثل الكلام في (ص والقرءان ذى الذكر) (5) لأنهما في أسلوب واحد، و (المجيد): ذو المجد والشرف على غيره من الكتب الكريمة على الله.

(بل عجبوا) أي: تعجبوا مما ليس بعجب وهو (أن جآءهم رجل منهم) قد عرفوا أمانته وعدالته ينذرهم بالمخوف من البعث والجزاء (فقال الكفرون) وضع الظاهر موضع الضمير ليدل على أنهم في قولهم: (هذا شىء عجيب) مقدمون على كفر عظيم.

و (هذا) إشارة إلى الرجع، و (إذا) منصوب بمضمر، والمعنى: أحين نموت ونصير ترابا نبعث ونرجع ؟! (ذلك رجع بعيد) مستبعد مستنكر، كما تقول: هذا قول بعيد، أي: بعيد من الوهم والعادة.

و (قد علمنا) رد لاستبعادهم الرجع، أي: علمنا ما تأكل (الأرض) من لحومهم وتبليه من عظامهم، فلا يتعذر علينا رجعهم أحياء، وعن السدي: (ما تنقص الأرض منهم) ما يموت فيدفن في الأرض منهم (6).

(وعندنا كتب حفيظ) أي: محفوظ عن البلى والدروس، وهو كتاب الحفظة، أو: كتاب حافظ لما أودع وكتب فيه.

(بل كذبوا) إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب (بالحق) الذي هو النبوة المؤيدة بالمعجزات (فهم في أمر مريج) أي: مختلط مضطرب، يقال: مرج الخاتم في إصبعه وخرج، فمرة يقولون: مجنون، وتارة: ساحر، وتارة: شاعر.

(أفلم ينظروا) حين كفروا بالبعث (إلى) آثار قدرة الله في بناء (السمآء) مع عظمها وحسن انتظامها (كيف بنينها) بغير علاقة وعماد (وما لها من فروج) أي: شقوق وفتوق، كقوله: (هل ترى من فطور) (7).

(والارض مددنها) دحوناها وبسطناها، (وألقينا فيها روسى) أي: جبالا ثوابت (من كل زوج بهيج) من كل صنف تبتهج به لحسنه.

(تبصرة) ليبصر به ويذكر كل (عبد منيب) راجع إلى ربه، مفكر في بدائع خلقه.

(ماء مبركا) أي: مطرا وغيثا يكثر النفع به والبركة (فأنبتنا به جنت) أي: بساتين فيها أشجار تشتمل على الفواكه (وحب الحصيد) أي: وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما (و) أنبتنا به (النخل باسقت) طوالا في السماء (لها طلع نضيد) منضود، نضد بعضه على بعض، يريد: كثرة الطلع وتراكمه وكثرة ما فيه من الثمر.

(رزقا) مفعول له، أي: أنبتناها لنرزقهم (8)، أو: مصدر (أنبتنا) لأن الإنبات في معنى الرزق، و (كذلك الخروج) أي: كما (أحيينا به بلدة ميتا) لا تنبت شيئا فنبتت وعاشت كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم، والكاف في موضع الرفع على الابتداء.

﴿كذبت قبلهم قوم نوح وأصحب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14) أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد (15) ولقد خلقنا الانسن ونعلم ما توسوس به ى نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18) وجآءت سكرة الموت بالحق ذا لك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذا لك يوم الوعيد (20)﴾

كل من هؤلاء المذكورين كذبوا (الرسل) الذين بعثوا إليهم (فحق) أي: وجب وحل (وعيد) وهو كلمة العذاب، وفيه تسلية لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ووعيد للكفار.

(أفعيينا) الهمزة للإنكار، يقال: عيي بالأمر: إذا لم يهتد له، والمعنى: إنا لم نعجز عن الخلق (الاول) كما علموا حتى نعجز عن الثاني (بل هم في لبس من خلق جديد) يعني: أنهم لم ينكروا قدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط وشبهة من البعث بعد الموت، قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم بأن سول إليهم أن إحياء الأموات أمر خارج عن العادة.

والوسوسة: الصوت الخفي، ووسوسة النفس: ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس، والباء مثلها في قولك: صوت بكذا، ويجوز أن يكون للتعدية، والضمير لـ (الانسن) أي: ما تجعله موسوسا، و " ما " مصدرية؛ لأنهم يقولون: حدث نفسه بكذا، كما يقولون: حدثته به نفسه، قال لبيد: واكذب النفس إذا حدثتها * إن صدق النفس يزري بالأمل (9) (ونحن أقرب إليه) يريد: قرب علمه منه وتعلقه بالأحوال حتى لا يخفى عليه شيء منها، فكأن ذاته قريبة منه (وحبل الوريد) مثل في فرط القرب، كما قالوا: هو مني معقد العذار، والحبل: العرق، والوريدان: عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدمها يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه.

(إذ) منصوب بـ (أقرب) والمعنى: أنه سبحانه يعلم خطرات النفس وهو أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين (يتلقى المتلقيان) أي: المكان الحافظان يأخذان ما يتلفظ به، وهذا إيذان باستغنائه عز اسمه عن استحفاظ الملكين، إذ هو مطلع على أخفى الخفيات، وإنما ذلك لحكمة تقتضيه، وهي ما في ذلك من زيادة اللطف في انتهاء العباد عن القبائح والرغبة في العبادات، والتلقي: التلقن، والقعيد: القاعد كالجليس، وتقديره: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه، كقول الشاعر: رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريا ومن جول الطوي رماني (10) (ما يلفظ من قول إلا لديه) ملك يرقب عمله (عتيد) حاضر معه.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيئات على يساره، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " (11).

(وجآءت سكرة الموت) أي: شدته الذاهبة بالعقل، والباء في (بالحق) للتعدية، أي: وأحضرت شدة الموت حقيقة الأمر من السعادة أو الشقاوة، وقيل: بالحق الذي خلق له الإنسان (12)، ويجوز أن يكون الباء مثلها في قوله: (تنبت بالدهن) (13) أي: جاءت ملتبسة بالحق أي: بحقيقة الأمر أو بالحكمة والغرض الصحيح، وقرئ: " سكرة الحق بالموت ? (14) وروي ذلك عن أئمتنا (عليهم السلام) (15)، أضيفت " السكرة " إلى " الحق " دلالة على أنه السكرة المكتوبة على الإنسان، وأنها حكمة، والباء للتعدية؛ لأنها سبب زهوق الروح لشدتها، أو: لأن الموت يعقبها، فكأنها جاءت به، ويجوز أن يكون المعنى: جاءت ومعها الموت، وقيل: سكرة الحق: سكرة الله أضيفت إليه تعظيما وتفظيعا لشأنها (16) (ذلك) إشارة إلى الموت، والخطاب للإنسان في قوله: (ولقد خلقنا الإنسن) على طريق الالتفات، أو: إلى الحق، والخطاب للفاجر (تحيد) أي: تهرب وتنفر، (ذلك) إشارة إلى مصدر (نفخ) أي: وقت ذلك يوم الوعيد فحذف المضاف.

﴿وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد (22) وقال قرينه هذا ما لدى عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد مريب (25) الذي جعل مع الله إلها ءاخر فألقياه في العذاب الشديد (26) قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولكن كان في ضلل بعيد (27) قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد (28) ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلم للعبيد (29) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد (30) وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشى الرحمن بالغيب وجآء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلم ذا لك يوم الخلود (34) لهم ما يشآءون فيها ولدينا مزيد (35)﴾

(معها سآئق) من الملائكة يحثها على السير إلى الحساب (وشهيد) منهم أيضا يشهد عليها بما يعلم من حالها، و (معها سآئق) في موضع الحال من (كل) لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، أي: يقال له: (لقد كنت في غفلة من هذا) اليوم في الدنيا، وجعلت الغفلة كأنها غطاء لك وغشاوة لعينك (فكشفنا عنك) الغطاء وزالت عنك الغفلة فرجع (بصرك) الكليل عن الإبصار حديدا لتيقظه.

(وقال قرينه) وهو الشيطان الذي قيض له في قوله سبحانه: (نقيض له شيطنا فهو له قرين) (17) وقيل: هو الملك الشهيد عليه (18) وهو المروي عنهم (عليهم السلام) (هذا ما لدى عتيد): إن كان المراد بالقرين الشيطان فالمعنى: هذا شيء لدي وفي ملكتي عتيد لجهنم أعتدته وهيأته لها بإغوائي وإضلالي، وإن كان المراد الملك فالمعنى: هذا شيء حاضر عندي من عمله كتبته عليه إذ وكلتني به، يقول لله سبحانه، و (ما) موصوفة و (عتيد) صفة لها، وإن جعلتها موصولة ف? (عتيد) بدل أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف.

(ألقيا في جهنم) خطاب من الله للملكين: السائق والشهيد، ويجوز أن يكون خطابا للواحد بأن ينزل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل، كأنه قيل: ألق ألق، أو: لأن العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان فكثر على ألسنتهم أن يقولوا: " يا صاحبي " و " خليلي " و " قفا " حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، كما ورد عن الحجاج أنه كان يقول: يا حرسي اضربا عنقه، أو: يكون الألف بدلا من النون الخفيفة للتأكيد إجراء للوصل مجرى الوقف.

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا كان يوم القيامة يقول الله لي ولعلي (عليه السلام): ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا الجنة من أحبكما، وذلك قوله عز اسمه: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) (19).

والعنيد: المعاند، المجانب للحق، المعادي لأهله.

(مناع للخير) كثير المنع للمال عن حقوقه، أو: مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله، يحول بينه وبينهم، قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو أخيه في الإسلام فمنعهم (20) (معتد) ظالم متعد للحق (مريب) شاك في الله وفي دينه، وقيل: متهم بفعل ما يرتاب بفعله مثل المليم (21) (الذي جعل) مبتدأ مضمن معنى الشرط، وخبره: (فألقياه)، ويجوز أن يكون بدلا من (كل كفار) ويكون (فألقياه) تكريرا للتأكيد.

(قال قرينه ربنا ما أطغيته) أي: ما جعلته طاغيا، وما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى واختار الضلال على الهدى، كقوله: (وما كان لى عليكم من سلطن إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) (22).

(قال) أي: يقول الله عز اسمه لهم: (لا تختصموا لدى) أي: لا يخاصم بعضكم بعضا عندي في دار الجزاء فلا فائدة في اختصامكم (وقد قدمت إليكم بالوعيد) على ألسنة رسلي، ثم قال: لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي لكم في تكذيب رسلي ومخالفة أمري بغيره (وما أنا بظلم للعبيد) في عقابي (23)، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب القبائح، والباء في (بالوعيد) مزيدة، مثلها في قوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (24) أو متعدية إن كان " قدم " بمعنى " تقدم "، والجملة التي هي: (وقد قدمت إليكم) وقعت موقع الحال من (لا تختصموا)، بمعنى: وقد صح عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد.

(يوم نقول) قرئ بالنون والياء (25)، وانتصب (يوم) بـ (ظلم) أو بـ (نفخ) وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل (26) الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب، وفيه معنيان: أحدهما: أنه تمتلئ مع تباعد أطرافها حتى لا يزاد على امتلائها، والثاني: أنها من السعة بحيث يدخلوها من يدخلها وفيها موضع للمزيد، والمزيد: مصدر كالمجيد، أو: اسم مفعول كالمبيع.

(غير بعيد) نصب على الظرف أي: مكانا غير بعيد، أو على الحال، وإنما ذكر لأنه على زنة المصدر، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو: على حذف الموصوف أي: شيئا غير بعيد، ومعناه التوكيد كما تقول: هو قريب غير بعيد.

(هذا ما توعدون) جملة اعتراضية (لكل أواب) بدل من (المتقين) بتكرير الجار، و (هذا) إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر (أزلفت)، و " الأواب ": التواب الرجاع إلى الله وطاعته، والحفيظ: الحافظ لحدوده.

(من خشى الرحمن) بدل بعد بدل تابع لـ (كل) ويجوز أن يكون بدلا عن موصوف (أواب) و (حفيظ)، ولا يجوز أن يكون في حكم (أواب) و (حفيظ) لأن " من " لا يوصف به، ولا يوصف بشيء من الموصولات إلا بـ (الذي) وحده، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره يقال لهم: (ادخلوها بسلم) لأن " من " في معنى الجمع، و (بالغيب) حال من المفعول أي: خشيه وهو غائب، أو: صفة لمصدر " خشيه " أي: خشيه خشية ملتبسة بالغيب حتى خشي عقابه وهو غائب، أو: من الفاعل أي: وهو في الخلوة حيث لا يراه أحد (وجآء بقلب منيب) راجع إلى الله مقبل عليه، يقال لهم: ادخلوها سالمين من العذاب، أو: مسلما عليكم بسلام الله وملائكته عليكم (ذلك يوم) تقدير (الخلود)، كقوله: (فادخلوها خلدين) (27) أي: مقدرين الخلود (ولهم ما) يريدون وما يشتهون من أنواع النعيم في الجنة (ولدينا مزيد) على (ما يشآءون?) - ه مما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم، أو: (مزيد) على قدر استحقاقهم.

﴿وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلد هل من محيص (36) إن في ذا لك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37) ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبر السجود (40) واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذا لك يوم الخروج (42) إنا نحن نحىى ونميت وإلينا المصير (43) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذا لك حشر علينا يسير (44) نحن أعلم بما يقولون ومآ أنت عليهم بجبار فذكر بالقرءان من يخاف وعيد (45)﴾

(فنقبوا) أي: فتحوا المسالك (في البلد)، من النقب وهو الطريق، والمعنى: دوخوا البلاد ونقروا عن أمورها، قال حارث بن حلزة: نقبوا في البلاد من حذر الموت * وجالوا في الأرض كل مجال (28) والفاء للتسبيب عن قوله: (هم أشد منهم بطشا) أي: شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه، ويجوز أن يكون المعنى: فنقب أهل مكة في بلاد تلك القرون فهل رأوا لهم محيصا من الله أو من الموت حتى يأملوا مثله لنفوسهم؟(إن في ذلك لذكرى) أي: تذكرة واعتبارا (لمن كان له قلب) واع، لأن من لا يعي قلبه فكأنه بلا قلب، وعن ابن عباس: القلب هنا العقل (29) (أو ألقى السمع) بأن يصغي ويستمع (وهو شهيد) حاضر بفطنته، لأن من لا يحضر ذهنه فهو كالغائب، أو: وهو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله.

واللغوب: النصب والإعياء، أكذب الله تعالى اليهود بقوله: (وما مسنا من لغوب) حيث قالوا: استراح الله يوم السبت! (فاصبر على) ما يقوله المشركون من إنكار البعث وتكذيبك، واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج (وسبح بحمد ربك) التسبيح: محمول على ظاهره وعلى الصلاة، فالصلاة (قبل طلوع الشمس) صلاة الصبح (وقبل الغروب) الظهر والعصر (ومن الليل) العشاءين، وقيل: صلاة الليل (30) فيدخل فيها المغرب والعشاء، (وأدبر السجود) التسبيح في أعقاب الصلوات، والسجود والركوع قد يعبر بهما عن الصلاة، وقيل: النوافل بعد المغرب (وأدبر النجوم) الركعتان قبل صلاة الفجر (31).

وروي: " أن من صلاها بعد المغرب قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين " (32).

والأدبار: جمع دبر، وقرئ بكسر الهمزة (33)، من أدبرت الصلاة: إذا انقضت وتمت، والمعنى: وقت انقضاء السجود، كما يقال: آتيك خفوق النجم.

(واستمع) لما أخبرك به من حال يوم القيامة، وفيه تهويل لشأن المخبر به، وانتصب (يوم يناد) بما دل عليه (ذلك يوم الخروج) أي: يوم ينادي المنادي يخرجون من قبورهم، و (يوم يسمعون) بدل من (يوم يناد المناد)، والمنادي: إسرافيل، ينفخ في الصور وينادي: أيتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.

(من مكان قريب) من صخرة بيت المقدس، وهي أقرب الأرض من السماء، و (الصيحة) هي النفخة الثانية (بالحق) يتعلق بـ (الصيحة) والمراد به البعث والحشر للجزاء (ذلك يوم الخروج) من القبور إلى أرض الموقف.

(إنا نحن نحى) الخلق ونميتهم بعد الحياة (وإلينا المصير) يوم القيامة.

وقرئ: (تشقق) بإدغام التاء في الشين وبحذف التاء (34) أي: تتصدع (الأرض عنهم) فيخرجون عنها (سراعا) بلا تأخير، وهو حال من الضمير المجرور في (عنهم)، والحشر: الجمع بالسوق من كل جهة (علينا يسير) تقديم الظرف يدل على الاختصاص، يعني: لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر بالذات الذي لا يشغله شأن عن شأن.

(نحن أعلم بما يقولون) تهديد لهم وتسلية لنبينا (عليه السلام) (وما أنت عليهم بجبار) أي: متسلط تجبرهم على الإيمان إنما أنت داع ومنذر، كقوله: (لست عليهم بمصيطر) (35) يقال: جبره وأجبره على الأمر، و " على " بمنزلته في قولك: هو عليهم: إذا كان واليهم ومالك أمرهم (من يخاف وعيد) كقوله: (إنمآ أنت منذر من يخشها) (36) خص التذكير بهم لأنه لا ينفع إلا فيهم.

1- أنظر المصدر السابق.

2- حكاه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 418.

3- الزخرف: 36.

4- قاله الحسن وقتادة. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 350.

5- أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج 2 ص 261 ج 895 ومن طريق آخر أيضا عنه في ص 264 ح 896، وابن المغازلي الشافعي في المناقب: ص 427، والشيخ الطوسي في الأمالي: ج 1 ص 296، وفرات الكوفي في التفسير: ص 167.

6- وهو قول الضحاك. راج تفسير الماوردي: ج 5 ص 352.

7- حكاه الماوردي في تفسيره: ج 5 ص 351.

8- إبراهيم: 22.

9- في بعض النسخ: " عقابهم ".

10- البقرة: 195.

11- وبالياء هي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 607.

12- ومثله في الأدب الانساني كثير كقول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني وفي الشعر الفارسي كقوله في المثنوي: دوزخ است اين نفس و دوزخ ا?دهاست * كو بدرياها نگردد كم و كاست عالمي را لقمه كرد و دركشيد * معده اش نعره زنان هل من مزيد |

13- الزمر: 73.

14- كذا تبعا للكشاف منسوب إلى الحارث بن حلزة، ولم نجده في ديوانه المطبوع في دار الكتاب العربي - لبنان.

15- تفسير ابن عباس: ص 440.

16- قاله مجاهد. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 357.

17- وهو قول أبي هريرة وابن عباس والشعبي وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وروي عن علي والحسن (عليهما السلام)، وابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 436 - 437، وسنن الترمذي: ج 5 ص 392 ح 3275.

18- رواه القرطبي في تفسيره: ج 17 ص 25 عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

19- قرأه ابن كثير ونافع وحمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 607.

20- أي: تشقق، وأصلها: تتشقق، وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر. راجع المصدر السابق.

21- الغاشية: 22.

22- النازعات: 45.

23- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 378: مكية بلا خلاف، وهي ستون آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 394: مكية، وآياتها (60) نزلت بعد الأحقاف.

24- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 407 مرسلا.

25- ثواب الأعمال للصدوق: ص 143.

26- في بعض النسخ: " السحاب ".

27- الكهف: 45.

28- أي التاء من (الذاريت) في الذال من (ذروا) وهي قراءة حمزة وأبي عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 693.

29- تفسير القمي: ج 2 ص 336، تفسير الطبري: ج 11 ص 442 - 443.

30- تفسير ابن عباس: ص 440.

31- تفسير مجاهد: ص 617.

32- رواه الشيخ في التبيان: ج 9 ص 379 عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام).

33- الحاقة: 21، القارعة: 7.

34- تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 301.

35- حكاه عنه (عليه السلام) الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 362.

36- حكاه عنه الماوردي في تفسيره: ج 2 ص 363.