سورة الواقعة
مكية (1) (2) سبع وتسعون آية بصري، ست كوفي.
عد البصري: (فأصحب الميمنة) (3) (وأصحب المشئمة) (4) (وأصحب اليمين) (5) (وأصحب الشمال) (6)، وعد الكوفي.
(موضونة) (7) (وحور عين) (8) (أنشأنهن إنشآء) (9).
وفي حديث أبي: " من قرأ سورة الواقعة كتب أنه ليس من الغافلين ".
وعن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم يصبه فاقة أبدا " (10).
وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة الواقعة قبل أن ينام لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر " (11).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها في كل ليلة جمعة أحبه الله وحببه إلى الناس، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا، ولا فقرا، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان من رفقاء أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذه السورة لأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، لا يشركه فيها أحد " (12)، تمام الخبر (13).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الأرض رجا (4) وبست الجبال بسا (5) فكانت هبآء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلثة (7) فأصحب الميمنة مآ أصحب الميمنة (8) وأصحب المشمة مآ أصحب المشمة (9) والسبقون السبقون (10) أولئك المقربون (11) في جنت النعيم (12) ثلة من الاولين (13) وقليل من الأخرين (14) على سرر موضونة (15) متكين عليها متقبلين (16)﴾
(إذا) ظرف من معنى (ليس) لأن التقدير: لا يكون (لوقعتها كاذبة)، أو: هو ظرف لمحذوف، والتقدير: (إذا وقعت) خفضت قوما ورفعت آخرين، ويدل عليه قوله: (خافضة رافعة).
وقال ابن جني: (إذا) الأولى مرفوعة الموضع بالابتداء، و (إذا) الثانية خبر عن الأولى، وقد فارقتا الظرفية، والمعنى: وقت وقوع الواقعة وقت رج الأرض (14) والمراد: إذا كانت الكائنة وحدثت الحادثة وهي يوم القيامة، وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة.
(ليس لوقعتها) نفس (كاذبة) تكذب على الله، وتكذب في تكذيب الغيب، لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، واللام مثلها في قوله تعالى: (قدمت لحياتى) (15).
وقيل: (كاذبة) كالعافية بمعنى التكذيب من قولهم: حمل فلان على قرنه فما كذب، أي: فما جبن (16)، وحقيقته: فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له، قال زهير: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا * ما الليث كذب عن أقرانه صدقا (17) أي: إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد.
(خافضة) خبر مبتدأ محذوف أي: هي خافضة رافعة.
(إذا رجت الأرض رجا) أي: حركت تحريكا شديدا حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء.
(وبست الجبال بسا) وفتتت حتى تعود كالسويق، أو: سيقت وسيرت، من: بس الغنم إذا ساقها.
(فكانت هبآء منبثا) متفرقا، وينتصب (إذا رجت) بـ (خافضة رافعة)، أو: على البدل من (إذا وقعت).
(وكنتم أزوجا) أي: أصنافا (ثلثة)، (فأصحب الميمنة) الذين يعطون صحائفهم بأيمانهم، (وأصحب المشئمة) الذين يعطونها بشمائلهم، أو: معناهما: أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، من قولهم: فلان من فلان باليمين أو بالشمال: إذا وصفوه بالرفعة عنده أو بالضعة، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشؤمهم بالشمائل، ولذلك اشتقوا من اليمن: اليمنى لليمين، ومن الشؤم: الشؤمى للشمال، وتفألوا بالسانح وتطيروا بالبارح، وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين، وبأهل النار ذات الشمال (18).
(ما أصحب الميمنة) و (ما أصحب المشئمة) تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة، كما يقال: هم، ما هم؟والمعنى: أي شيء هم؟(والسبقون السبقون) أي: والسابقون من عرفت حالهم وبلغك صفتهم، كقول الشاعر: أنا أبو النجم وشعري شعري أي: شعري ما عرفته وسمعت بفصاحته.
(أولئك المقربون) مبتدأ وخبر، أي: الذين قربت درجاتهم (في جنت النعيم) أي: أعلى المراتب.
والثلة: الأمة الكثيرة من الناس، وهي من " الثل " وهو الكسر، كما أن الأمة من " الأم " وهو الشج، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم، والمعنى: أن السابقين كثير (من الاولين) وهو الأمم من لدن آدم إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (وقليل من الآخرين) وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: (من الأولين) من متقدمي هذه الأمة، ومن الآخرين: من متأخريها (19).
وهذا في السابقين، وقال في أصحاب اليمين: (وثلة من الأخرين)، وعن الحسن: سابقو الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمة (20).
و (ثلة) خبر مبتدأ محذوف، أي: هم ثلة.
(على سرر موضونة) أي: منسوجة مرمولة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت، كما توضن حلق الدروع فيدخل بعضها في بعض، وقيل: متواصلة أدني بعضها من بعض (21).
(متكئين) حال من الضمير في (على) أي: استقروا عليها متكئين (متقبلين) لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، وصفهم سبحانه بتهذيب الأخلاق وحسن المعاشرة.
﴿يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثل اللؤلو المكنون (23) جزآء بما كانوا يعملون (24) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (25) إلا قيلا سلما سلما (26) وأصحب اليمين مآ أصحب اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) ومآء مسكوب (31) وفكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34) إنآ أنشأنهن إنشآء (35) فجعلنهن أبكارا (36) عربا أترابا (37) لاصحب اليمين (38) ثلة من الاولين (39) وثلة من الأخرين (40)﴾
(يطوف عليهم) وصفاء وغلمان للخدمة (مخلدون) مبقون أبدا على شكل الولدان، وحد الوصافة لا يتحولون عنه، وقيل: مقرطون والخلدة: القرط (22)، وقيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها (23) روي ذلك عن علي (عليه السلام) (24).
وسئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أطفال المشركين، فقال: " هم خدام أهل الجنة " (25).
الأكواب: قداح واسعة الرؤوس بلا عرى ولا خراطيم، جمع كوب، والأباريق: التي لها خراطيم.
(لا يصدعون عنها) أي: بسببها، وحقيقته: لا يصدر صداعهم عنها ولا يفرقون (26) عنها.
(مما يتخيرون) أي: يأخذون خيره وأفضله، و (يشتهون) يتمنون.
وقرئ: (وحور عين) بالرفع على: وفيها حور عين، كبيت الكتاب (27): بادت وغير آيهن مع البلى * إلا رواكد جمرهن هباء ومثجج أما سواء قذاله * فبدا وغير ساره المغراء (28) لأن المعني بها: " رواكد " و " مثجج " أو: العطف على (ولدن)، وبالجر (29) عطف على (جنت النعيم) كأنه قال: هم في جنات وفاكهة ولحم وحور، وقرأ أبي وابن مسعود: " وحورا عينا " بالنصب (30) على: ويؤتون حورا.
(جزآء) مفعول له أي: يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم.
(سلما سلما) بدل من (قيلا) بمعنى: لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما، أو: مفعول به لـ (قيلا) بمعنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا: سلاما سلاما، والمراد: أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاما بعد سلام.
والسدر: شجر النبق، والمخضود: الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه، وعن مجاهد: هو الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله (31)، من: خضد الغصن إذا ثناه رطبا.
والطلح: شجر الموز، وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب الرائحة (32).
وعن السدي: هو شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل (33).
والمنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة.
(وظل ممدود) ممتد منبسط لا يتقلص كظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
(وماء مسكوب) يسكب لهم أين شاءوا وكيف شاءوا ولا يتعنون فيه، وقيل: دائم الجرية لا ينقطع (34)، وقيل: مصبوب يجري على وجه الأرض في غير أخدود (35).
(لا مقطوعة) أي: هي دائمة لا تنقطع في بعض الأزمان كفواكه الدنيا (ولا ممنوعة) بوجه من وجوه المنع من بعد متناول أو شوك، أو حظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا.
(وفرش) جمع فراش (مرفوعة) نضدت حتى ارتفعت، أو: مرفوعة على الأسرة، وقيل: هي النساء؛ لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك (36)، ويدل عليه قوله: (إنا أنشانهن إنشاء).
وعلى التفسير الأول أضمر " لهن " لأن ذكر الفرش - وهي المضاجع - دل عليهن.
(أنشأنهن إنشاء) ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة، فإما أن يراد: اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، أو اللاتي أعيد إنشاؤهن.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأم سلمة: " هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا، جعلهن الله بعد الكبر (أترابا) على ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن (أبكارا) " فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس هناك وجع " (37).
(عربا) جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها، وقرئ: " عربا " بالتحفيف (38)، (أترابا) مستويات في السن، وأزواجهن كذلك.
وفي الحديث: " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين " (39).
واللام في (لاصحب اليمين) من صلة " أنشأنا " و " جعلنا ".
﴿وأصحب الشمال مآ أصحب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل ذا لك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظما أءنا لمبعوثون (47) أو ءابآؤنا الاولون (48) قل إن الاولين والاخرين (49) لمجموعون إلى ميقت يوم معلوم (50) ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون (51) لأكلون من شجر من زقوم (52) فمالون منها البطون (53) فشربون عليه من ا لحميم (54) فشربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56) نحن خلقنكم فلولا تصدقون (57) أفرءيتم ما تمنون (58) ءأنتم تخلقونه أم نحن الخلقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثلكم وننشئكم في مالا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون (62) أفرءيتم ما تحرثون (63) ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشآء لجعلنه حطما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرءيتم المآء الذي تشربون (68) ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشآء جعلنه أجاجا فلولا تشكرون (70) أفرءيتم النار التى تورون (71) ءأنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشون (72) نحن جعلنها تذكرة ومتعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74)﴾
(في سموم) في ريح حارة تدخل مسامهم (وحميم) في ماء مغلي حار انتهت حرارته وتناهت (وظل من يحموم) دخان أسود بهيم.
(لا بارد ولا كريم) نفي لصفتي " الظل " عنه، يعني: أنه ظل حار ضار لا كسائر الظلال.
و (الحنث): الذنب، ومنه قولهم: بلغ الغلام الحنث أي: الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم.
(أو ءاباؤنا) دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، وقرئ: " أو آباؤنا " (40).
(إلى ميقات يوم معلوم) إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى: من، ك? " خاتم فضة "، والميقات: ما وقت به الشيء أي: حد، ومنه مواقيت الإحرام.
(من شجر من زقوم): " من " الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبيين، وأنث ضمير " الشجر " على المعنى، وذكره على اللفظ، في قوله: (منها) و (عليه).
(شرب الهيم) قرئ بفتح الشين (41) وضمها، وهما مصدران.
والهيم: الإبل التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه ولا تروى، جمع " أهيم " و " هيماء ".
وقيل: الهيم: الرمال (42) فيكون جمع الهيام بفتح الهاء، جمع على " فعل " كسحاب وسحب، ثم فعل به ما فعل بجمع " أبيض " (43)، والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم، فإذا ملؤوا منها البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم.
والنزل: الرزق الذي يعد للنازل تكرمة له، وفيه تهكم، كقوله: (فبشرهم بعذاب أليم) (44).
(فلولا تصدقون) تحضيض على التصديق بالبعث، لأن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة، يريد: (ما تمنونه) أي: تقذفونه في الأرحام من النطف، (تخلقونه) تقدرونه وتصورونه.
(نحن قدرنا بينكم الموت) تقديرا على تفاوت، كما اقتضته الحكمة فاختلفت أعماركم.
وقرئ: " قدرنا " بالتخفيف (45)، يقال: سبقته على الشيء إذا غلبته عليه وأعجزته عنه.
فمعنى قوله: (وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم): إنا قادرون على ذلك لا تغلبونني عليه، و (أمثلكم) جمع " مثل "، أي: على أن نبدل أمثالكم ومكانكم أشباهكم من الخلق، وعلى أن (ننشئكم في) خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعني: إنا نقدر على الأمرين جميعا: على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم ؟! ويجوز أن يكون " أمثال " جمع " مثل "، أي: على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها.
وقرئ: (النشأة) و " النشآة " (46).
ما تحرثونه من الطعام أي: تبذرون حبه وتعملون في أرضه (ءأنتم تزرعونه) تنبتونه وتجعلونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ غايته؟وفي الحديث: " لا يقولن أحدكم: زرعت وليقل: حرثت " (47).
والحطام: ما تحطم وصار هشيما (فظلتم) أي: فظللتم (تفكهون) تتعجبون مما أصابكم، وعن الحسن: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو: على ما اقترفتم من المعاصي التي بسببها أصابكم ذلك (48)، وتقولون: (إنا لمغرمون) أي: ملزمون غرامة ما أنفقنا، أو: مهلكون لهلاك رزقنا، من: " الغرام " وهو الهلاك.
(بل نحن) قوم (محرومون) محارفون محدودون لاحظ لنا ولا بخت، ولو كنا مجدودين (49) لما أصابنا هذا.
و (المزن) السحاب، والأجاج: الملح الزعاق الذي لا يقدر على شربه، وحذف اللام من جواب " لو " هنا اختصارا، وهي ثابتة في المعنى.
تورونها: أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة.
(أنشأتم شجرتها) التي منها الزناد وأنبتموها.
(تذكرة) تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به، أو: جعلناها أنموذجا من جهنم (ومتاعا) ومنفعة (للمقوين) الذين ينزلون القواء، وهو القفر، أو: الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام.
(فسبح باسم ربك) أي: فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك، و (العظيم): صفة للمضاف أو للمضاف إليه، وهو أن تقول: سبحان الله؛ تنزيها عما يقول الظالمون الجاحدون نعمه، أو: تعجبا من أمرهم، أو: شكرا على هذه النعم التي عددها سبحانه ونبه عليها.
﴿فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرءان كريم (77) في كتب مكنون (78) لا يمسه إلا المطهرون (79) تنزيل من رب العلمين (80) أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82) فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونهآ إن كنتم صدقين (87) فأمآ إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأمآ إن كان من أصحب اليمين (90) فسلم لك من أصحب اليمين (91) وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن هذا لهو حق اليقين (95) فسبح باسم ربك العظيم (96)﴾
المعنى: فأقسم، و " لا " مزيدة مؤكدة، وقرأ الحسن: " فلأقسم " (50)، ومعناه: فلأنا أقسم (بموقع النجوم) بمساقطها ومغاربها، أو: بمنازلها ومسائرها.
وقوله: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) اعتراض بين القسم والمقسم عليه، وقوله: (لو تعلمون) اعتراض في اعتراض، اعترض به بين الموصوف والصفة، وقيل: (موقع النجوم): أوقات وقوع نجوم القرآن أي: أوقات نزولها (51)، وقرئ: " بموقع " على الإفراد (52) لأنه اسم جنس يؤدي مؤدى الجمع.
(إنه لقرءان كريم) عند الله أكرمه وأعزه، أو: كريم عام المنافع كثير الخير ينال الثواب العظيم بتلاوته والعمل بما فيه، أو: خطير معجز مرضي في جنسه من الكتب.
(في كتب مكنون) مصون من غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه من سواهم، وهم المطهرون من جميع الأدناس، إن جعلت الجملة صفة لـ (كتب مكنون) وهو اللوح المحفوظ، وإن جعلته صفة لـ (قرءان) فالمعنى: (لا يمسه إلا) من هو على الطهارة من الناس، يعني: مس المكتوب منه.
(تنزيل) صفة أخرى للقرآن، أي: منزل (من رب العلمين)، أو: وصف بالمصدر لأنه نزل نجوما من بين سائر كتب الله، فكأنه في نفسه تنزيل، ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه حين قالوا: نطق التنزيل بكذا، وجاء في التنزيل كذا، أو: هو تنزيل، على حذف المبتدأ.
(أفبهذا الحديث) يعني القرآن (أنتم مدهنون) أي: متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به.
(وتجعلون رزقكم) على حذف المضاف، أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب ؟! والمعنى: أوضعتم التكذيب موضع الشكر ؟! وعن علي (عليه السلام) أنه قرأ: " وتجعلون شكركم ? (53) وروي ذلك عن الباقر (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) (54) أي: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به، أو: تجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى النجوم؟وقرئ: " تكذبون ? (55) وهو قولهم في القرآن: سحر وشعر وافتراء، وفي المطر: هو من الأنواء، ولأن كل مكذب بالحق كاذب.
(فلولا إذا بلغت الحلقوم) ترتيبه: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، ف? " لولا " الثانية مكررة للتوكيد، والضمير في (ترجعونهآ) للنفس وهي الروح، وفي (أقرب إليه) للمحتضر.
وقوله: (غير مدينين) من: دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أي: غير مربوبين مملوكين.
(ونحن أقرب إليه منكم) يا أهل الميت بعلمنا وقدرتنا، أو: بملائكتنا الذين يقبضون روحه، والمعنى: إنكم في جحودكم آيات الله سبحانه قد بلغتم كل مبلغ: إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم: سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولا صادقا قلتم: ساحر (56) كذاب، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا! فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في كفركم بالله وتعطيلكم ؟! (فأما إن كان) المتوفى (من المقربين) السابقين (فروح) فله استراحة (وريحان) ورزق، وقرئ: " فروح " بالضم (57) وهو مروي عن الباقر (عليه السلام) (58)، أي: فرحمة لأن الرحمة كالحياة للمرحوم، وقيل: هو البقاء (59)، أي: فهذان له معا، وهو الخلود مع الرزق.
(فسلم لك من أصحب اليمين) أي: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي: يسلمون عليك، كقوله: (إلا قيلا سلما سلما).
(فنزل من حميم) مثل قوله: (هذا نزلهم يوم الدين) (60).
(إن هذا) الذي أنزل في هذه السورة (لهو حق اليقين) أي: هو الحق الثابت من اليقين.1- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 107.
2- البيت من قصيدة طويلة يمدح فيها رجلا شجاعا، وعثر: اسم موضع، يقول: إذا كذب الفارس - أي جبن - عن أقرانه في الحرب صدق هو ونفذ عزمه وقتل قرنه. أنظر ديوان زهير: ص 43 وفيه: " ما كذب الليث عن... ".
3- قاله السدي. راجع تفسير القرطبي: ج 17 ص 198.
4- قاله الحسن في تفسيره: ج 2 ص 322 ورفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
5- المصدر السابق: ص 323.
6- قاله الضحاك. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 280.
7- قاله الفراء. راجع التبيان: ج 9 ص 493.
8- قاله الحسن في تفسيره: ج 2 ص 324.
9- رواه عنه (عليه السلام) القرطبي في تفسيره: ج 17 ص 203 مرسلا.
10- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 459 مرسلا.
11- في نسخة: لا ينزفون.
12- أراد كتاب سيبويه الذي ألفه بعد موت أستاذه الخليل سنة 160 ه? لأجل إحياء علم الخليل، وبلغ من شهرته وفضله عند النحويين فكان يقال: قرأ فلان الكتاب، فيعلم أنه يريد كتاب سيبويه.
13- لذي الرمة، وقيل: للشماخ. والرواكد: الأحجار التي توضع عليها القدر، والمثجج: وتد الخباء الذي تثجج رأسه من الدق فبرز حول رأسه أطراف تشبه الشعر، يقول: هلكت تلك الديار وبليت آثارها ولم يبق إلا محل للنار والرماد وبقية أوتاد الأخبية. أنظر ديوان ذي الرمة: ص 617.
14- قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 623.
15- حكاه عنهما ابن جني في المحتسب: ج 2 ص 309.
16- تفسير مجاهد: ص 641.
17- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 112.
18- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 461.
19- قاله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 125.
20- قاله الثوري. راجع تفسير ابن كثير: ج 4 ص 291.
21- قاله أبو عبيدة. راجع البحر المحيط لأبي حيان: ج 8 ص 207.
22- أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 641 باسناده عن الحسن إلى قوله: " بعد الكبر " وزاد بعده: " فجعلهن عذارى ".
23- وهي قراءة حمزة وإسماعيل ويحيى. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 709.
24- أخرجه أحمد في المسند: ج 2 ص 295 عن أبي هريرة وزاد: " على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبع أذرع! "، وفي ج 5 ص 243 عن معاذ وليس فيه: " بيضا جعادا ".
25- قرأه نافع سوى ورش وابن عامر. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 636.
26- وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 623.
27- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 454.
28- وهو أن خفف وكسر أوله لأجل الياء، فصارا " هيما " و " بيضا ".
29- آل عمران: 21.
30- قرأه ابن كثير وحده. راجع كتاب السبعة: ص 623.
31- قرأه ابن كثير وأبو عمرو. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 601.
32- أخرجه الطبري في تفسيره: ج 11 ص 652 عن أبي هريرة وفيه: " لا تقولن ".
33- تفسير الحسن البصري: ج 2 ص 331.
34- أي: محظوظين، يقال: صرت ذا جد أي: ذا حظ. (الصحاح: مادة جدد).
35- حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 152.
36- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 455.
37- قرأه حمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة: ص 624.
38- حكاه عنه (عليه السلام) ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 152.
39- أنظر تفسير القمي: ج 2 ص 349.
40- وهي قراءة المفضل عن عاصم. راجع كتاب السبعة: ص 624.
41- في نسخة: " ساحر شاعر ".
42- وهي قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عباس وقتادة والحسن. راجع المحتسب لابن جني: ج 2 ص 310.
43- حكاه عنه (عليه السلام) أبو حيان في البحر: ج 8 ص 215.
44- قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 253.
45- الآية: 56.
46- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 517: مدنية بلا خلاف، وهي تسع وعشرون آية في الكوفي والبصري، وثمان وعشرون في المدنيين. وفي الكشاف: ج 4 ص 471: مدنية وهي تسع وعشرون آية، نزلت بعد الزلزلة.
47- الآية: 13.
48- الآية: 27.
49- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 484 مرسلا وفيه: " ورسله ".
50- ثواب الأعمال للصدوق: ص 146. والمسبحات: هي السور التي تبدأ ب? " سبح " و " يسبح "، وهن ست في القرآن: الحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن، والأعلى.
51- المصدر السابق: ص 145 وزاد بعده: " ولا خصاصة في بدنه ".
52- الفتح: 9.
53- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 122.
54- قرأه أبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 625.
55- قرأه ابن عامر وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 711.
56- قاله عامر الشعبي. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 674.
57- هي قراءة ابن كثير وابن عامر، إلا أن الأول يرفعه والآخر ينصبه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 625.
58- بالرفع قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي. راجع المصدر السابق.
59- في نسخة: " ينقضه ".
60- حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 295.