سورة الحديد

مدنية (1)، وهي تسع وعشرون آية، عد الكوفي: (من قبله العذاب) (2) والبصري: (الانجيل) (3).

وفي حديث أبي بن كعب: " ومن قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله " (4).

وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم، وإن مات كان في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (5).

وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة فريضة أدمنها لم يعذبه الله حتى يموت أبدا، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا " (6).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سبح لله ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (1) له ملك السموات والارض يحىى ويميت وهو على كل شىء قدير (2) هو الاول والأخر والظهر والباطن وهو بكل شىء عليم (3) هو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السموات والارض وإلى الله ترجع الامور (5) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور (6)﴾

(سبح) يعدى بنفسه وباللام، وأصله التعدي بنفسه كما مر في قوله تعالى: (وتسبحوه) (7) لأن معنى " سبحته ": بعدته عن السوء، منقول من: سبح إذا ذهب وبعد، واللام مثلها في قولهم: نصحته ونصحت له، أو: بمعنى: أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصا (ما في السموت والأرض) مما يصح منه أن يسبح.

(يحى) يجوز أن يكون مرفوع المحل على: هو يحيي، ومنصوبا على الحال من المجرور في (له)، والجار يعمل فيه، وأن يكون جملة برأسها لا محل لها كقوله: (له ملك السموت).

(هو الاول) القديم السابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من الأوقات أو تقدير الأوقات، (والاخر) الذي يبقى بعد فناء كل شيء (والظهر) بالأدلة الدالة عليه (والباطن) من إحساس خلقه لا يدرك بالحواس، وقيل: معناهما: العالم بما ظهر والعالم بما بطن (8).

(وهو معكم) بالعلم (أينما كنتم) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.

﴿ءامنوا بالله ورسوله ى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين ءامنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثقكم إن كنتم مؤمنين (8) هو الذي ينزل على عبده ى ءايت بينت ليخرجكم من الظلمت إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم (9) ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10)﴾

(وأنفقوا) من أموالكم التي (جعلكم) الله خلفاء في التصرف فيها، ومتعكم بها، فليست هي بأموالكم على الحقيقة، وإنما أنتم بمنزلة الوكلاء من جهة الله فيها، فليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الإنسان الإنفاق من مال الغير إذا أذن له فيه، أو: (جعلكم مستخلفين) ممن كان قبلكم بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به واستوفوا حظكم منه قبل أن يصير لغيركم.

(لا تؤمنون) حال من معنى الفعل في (ما لكم) كما تقول: ما لك قائما؟بمعنى: ما تصنع قائما؟أي: وما لكم كافرين بالله؟والواو في (والرسول يدعوكم) واو الحال أيضا، فهما حالان متداخلتان، والمعنى: وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه، ويتلو عليكم القرآن المعجز؟(و) قبل ذلك (قد أخذ) الله (ميثقكم) بالإيمان حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة، ومكنكم من النظر فيها، فإذا لم يبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون (إن كنتم مؤمنين) لموجب ما، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه، وقرئ: " أخذ ميثاقكم ? (9) على البناء للمفعول.

(ليخرجكم) الضمير لله أو للرسول، أي: ليخرجكم الله بآياته وأدلته، أو الرسول بدعوته من ظلمات الكفر إلى نور الايمان.

(ما لكم ألا تنفقوا) في أن لا تنفقوا (ولله ميرث السموت والأرض) يرث كل شيء فيهما، لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره.

والمعنى: وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله، والجهاد مع رسول الله، والله مميتكم ووارث أموالكم؟ثم بين التفاوت بين المنفقين فقال: (لا يستوى منكم من أنفق) قبل فتح مكة، قبل عز الإسلام وقوة أهله " ومن أنفق من بعد الفتح " فحذف للعلم به، (أولئك) الذين أنفقوا قبل الفتح (أعظم درجة.

وكلا) وكل واحد من الفريقين (وعد الله) المثوبة (الحسنى) وهي الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرئ بالرفع (10) على: وكل وعده الله الحسنى، وقيل: المراد: فتح الحديبية (11).

﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له وله أجر كريم (11) يوم ترى المؤمنين والمؤمنت يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمنهم بشراكم اليوم جنت تجرى من تحتها الانهر خلدين فيها ذا لك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنفقون والمنفقت للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظهره من قبله ى العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الامانى حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأوئكم النار هى مولكم وبئس المصير (15)﴾

قرئ: " فيضعفه ? (12) و (فيضعفه) (13) وقرئا منصوبين ومرفوعين، أي: يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا من فضله (وله أجر كريم) جزاء خالص لا يشوبه ما ينغصه (14).

(يوم ترى) ظرف لقوله: (وله أجر كريم)، (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمنهم) لأنهم أوتوا صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، فجعل النور في الجهتين شعارا لهم وآية لسعادتهم وفلاحهم، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون، سعى ذلك النور بسعيهم، ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة: (بشراكم اليوم جنت) وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفأ مرة ويتقد أخرى (15).

(يوم يقول) بدل من (يوم ترى)، (انظرونا) انتظرونا لأنهم يسرع بهم إلى الجنة، أو: انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرئ: " أنظرونا ? (16) من النظرة وهي الإمهال، جعل اتئادهم (17) في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم (نقتبس من نوركم) نصب منه، ونستضيء به (قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا) تهكم بهم وطرد لهم، أي: ارجعوا إلى حيث أعطينا هذا النور فاطلبوه هناك، فمن ثم يقتبس، أو: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور منها فإنا كسبنا النور هناك، وقيل: إن (ورآءكم) اسم لـ (ارجعوا)، وليس بظرف للرجوع، كما تقول: وراءك بمعنى: ارجع، والتقدير: ارجعوا ارجعوا (فضرب) بين المؤمنين والمنافقين (بسور) أي: حائط حائل بين شق الجنة وشق النار، لذلك السور (باب) لأهل الجنة يدخلون منه، (باطنه) باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة (فيه الرحمة) أي: الجنة، (وظاهره) ما ظهر لأهل النار (من قبله) من عنده ومن جهته (العذاب) وهو النار.

(ينادونهم ألم نكن معكم) يريدون موافقتهم في الظاهر، قال المؤمنون: (بلى) كنتم معنا تصلون وتصومون (ولكنكم فتنتم أنفسكم) محنتموها بالنفاق وأهلكتموها (وتربصتم) بالمؤمنين الدوائر (وارتبتم) وشككتم (وغرتكم الامانى) التي تمنيتموها (حتى جآء أمر الله) وهو الموت (وغركم بالله الغرور) الشيطان، وقيل: الدنيا (18).

(فاليوم لا يؤخذ) قرئ بالياء والتاء (19) (فدية) ما يفتدى به (مأواكم النار) أي: مقركم الذي تأوون أنتم إليه (هى مولكم) أولى بكم، كما قال لبيد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها (20) والمعنى: أنها تلي عليكم وتملك أمركم، فهي أولى بكم من كل شيء.

﴿ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فسقون (16) اعلموا أن الله يحى الأرض بعد موتها قد بينا لكم الأيت لعلكم تعقلون (17) إن المصدقين والمصدقت وأقرضوا الله قرضا حسنا يضعف لهم ولهم أجر كريم (18) والذين ءامنوا بالله ورسله ى أولئك هم الصديقون والشهدآء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بايتنآ أولئك أصحب الجحيم (19) اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطما وفي الأخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيواة الدنيآ إلا متع الغرور (20) سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والارض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ى ذا لك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم (21)﴾

أنى الأمر يأني: إذا جاء أناه أي: وقته، وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين (21).

وعن ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن بهذه الآية (22).

وعن محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين فلما هاجروا أصابوا الريف (23) والنعمة، فتغيروا عما كانوا عليه، فقست قلوبهم فنزلت (24).

والمعنى: ألم يحن للمؤمنين أن تلين قلوبهم وترق إذا ذكر الله وتلي القرآن عندهم؟أو: لما يذكرهم الله به من مواعظه وما نزله من القرآن؟وقرئ: (نزل) و " نزل ? (25) بالتخفيف والتشديد (ولا يكونوا) عطف على (تخشع)، وقرئ: " ولا تكونوا " بالتاء (26) على الالتفات، ويجوز أن يكون نهيا عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب، بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة، واختلفوا، وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره، و (الأمد): الأجل.

(اعلموا أن الله يحى الأرض بعد موتها) هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض، أو: يحييها الله بعد موتها، ويلينها بعد القسوة بالألطاف والتوفيقات.

(إن المصدقين) قرئ بتشديد الصاد بمعنى: " المتصدقين "، وبتخفيفها (27) بمعنى: الذين يصدقون الله ورسوله، وعطف قوله: (وأقرضوا الله) على معنى الفعل في (المصدقين) لأن اللام بمعنى " الذين "، واسم الفاعل بمعنى: " اصدقوا " أو " صدقوا ".

كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا، وقرئ: (يضعف) و " يضعف " (28).

(والذين ءامنوا بالله ورسله) هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، وهم الذين سبقوا (29) إلى التصديق، ورسخت أقدامهم فيه، والذين استشهدوا في سبيل الله (لهم أجرهم ونورهم) أي: لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم.

وعن الصادق (عليه السلام): إن المؤمن شهيد، وقرأ هذه الآية.

ويجوز أن يكون (والشهدآء) مبتدأ و (لهم أجرهم) خبره.

ثم زهد سبحانه المؤمنين في الدنيا فقال: ليست (الحيوة الدنيا) إلا محقرات من الأمور، وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، ثم شبه حالها وسرعة انقضائها وقلة جدواها بنبات أنبته الغيث و (أعجب) الكفار وهم الزراع أو الكافرون نعمة الله، (ثم يهيج) ويصفر ويصير (حطما)، (وفي الأخرة) أمور عظام وهي: العذاب الشديد، ومغفرة الله، ورضوانه.

(سابقوا) أي: بادروا مبادرة السابقين لأقرانهم في المضمار (إلى مغفرة من ربكم) منجية من العذاب الشديد، وإلى (جنة عرضها كعرض) السبع السموات وسبع الأرضين.

وذكر العرض دون الطول لأن كل ما له عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله، فإذا كان العرض مثل السموات والأرض فطولها لا يعلمه إلا الله.

وعن الحسن: أن الله يفني الجنة ثم يعيدها على ما وصفه، فلذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض (30) (أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله) أي: هيئت وادخرت للمؤمنين المصدقين ذلك الموعود من المغفرة والجنة (فضل الله) عطاؤه، ولأن الأسباب الموصلة إلى الثواب من التكليف والتعريض والتمكين والألطاف كلها تفضل (يؤتيه من يشآء) وهم المؤمنون.

(مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن نبرأهآ إن ذا لك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد (24) لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وأنزلنا معهم الكتب وا لميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنفع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز (25) ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب فمنهم مهتد وكثير منهم فسقون (26) ثم قفينا على ءاثرهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتينه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبنها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فاتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثير منهم فسقون (27)﴾

المصيبة في الأرض مثل القحط ونقص الثمار، وفي الأنفس مثل الأمراض والثكل بالأولاد، والكتاب: اللوح المحفوظ (من قبل أن نبرأهآ) الضمير للأنفس أو المصيبة (إن) تقدير (ذلك) وإثباته في كتاب (على الله يسير) هين.

ثم علل ذلك وبين وجه الحكمة فيه بقوله: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) من نعم الدنيا (ولا تفرحوا بمآ ءاتكم) الله عز اسمه منها.

والمعنى: أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله قل حزنكم على الفائت وفرحكم على الآتي، وكذا إذا علمتم أن شيئا منها لا يبقى لم تهتموا لأجله واهتممتم لأمور الآخرة التي تدوم ولا تبيد (والله لا يحب كل مختال فخور) لأن من فرح بشيء من زخارف الدنيا وعظم قدره عنده اختال وافتخر به وتكبر على الناس.

وقرئ: " بمآ ءاتكم " و " أتاكم ? (31) من الإيتاء والإتيان.

(الذين يبخلون) بدل من قوله: (كل مختال فخور)، كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون ويحملون الناس على البخل يرغبونهم فيه، وذلك كله نتيجة فرحهم بزينة الدنيا (ومن يتول) عن أوامر الله ونواهيه (فإن الله هو الغنى) عنه وعن طاعته (الحميد) في جميع أفعاله، وقرئ: " فإن الله الغني " (32).

(بالبينت) بالدلائل والمعجزات، و (الكتب): الوحي وما يحتاج الخلق إليه من الحلال والحرام (والميزان): العدل، وقيل: هو الميزان ذو الكفتين (33) وروي: أن جبرائيل (عليه السلام) نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به (34).

(وأنزلنا الحديد) أي: خلقناه وأنشأناه كقوله: (وأنزل لكم من الانعم ثمنية أزوج) (35)، وذلك أن أوامره تنزل من السماء إلى الأرض وأحكامه.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن الله عز وجل أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد والنار والماء والملح " (36).

(فيه بأس شديد) وهو القتال به (ومنفع للناس) في معائشهم وصنائعهم (37)، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها (وليعلم الله من ينصره ورسله) باستعمال السيوف وسائر الأسلحة في مجاهدة أعداء الدين (بالغيب) غائبا عنهم، عن ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه (38)، (إن الله قوى) بقدرته (عزيز) يهلك من أراد هلاكه، فهو غني عن خلقه، وإنما كلفهم الجهاد ليصلوا بامتثال أمره إلى الثواب.

خص سبحانه نوحا وإبراهيم بالذكر لأنهما أبوا الأنبياء.

(والكتب): الوحي، وعن ابن عباس: الخط بالقلم (39) (فمنهم) فمن الذرية، أو: من المرسل إليهم، ودل عليه ذكر الإرسال والمرسلين، أي: فمنهم (مهتد) ومنهم فاسق، والغلبة للفساق.

وقرئ: " رآفة ? (40) والمعنى: وفقناهم للتعاطف والتراحم بينهم، والرهبانية: ترهبهم في الجبال والصوامع، وانفرادهم عن الجماعة للعبادة، ومعناها: الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف، فعلان من رهب، أي خاف، كخشيان من خشي، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر، والتقدير: ابتدعوا رهبانية (ابتدعوها) أي: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها (ما كتبنها عليهم) لم نفرضها نحن عليهم (إلا ابتغآء رضون الله) استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها (ابتغآء رضون الله فما رعوها حق رعايتها) كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.

(فآتينا الذين ءامنوا منهم) بعيسى، وهم أهل الرأفة والرحمة (أجرهم وكثير منهم فسقون) لم يحافظوا على نذرهم، وقيل: معناه: فما رعوها حق رعايتها إذ لم يؤمنوا بنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعث (41)، فآتينا الذين آمنوا به منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون أي: كافرون.

﴿يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله ى يؤتكم كفلين من رحمته ى ويجعل لكم نورا تمشون به ى ويغفر لكم والله غفور رحيم (28) لئلا يعلم أهل الكتب ألا يقدرون على شىء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم (29)﴾

(يا أيها الذين ءامنوا) بموسى وعيسى (اتقوا الله وءامنوا برسوله) أي: بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (يؤتكم) الله (كفلين) نصيبين (من رحمته) لإيمانكم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبمن تقدمه من الأنبياء (ويجعل لكم) يوم القيامة (نورا تمشون به ويغفر لكم) ما أسلفتموه من المعاصي.

(لئلا يعلم): " لا " مزيدة أي: لأن يعلم أو: ليعلم (أهل الكتب) الذين لم يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن لا يقدرون): " أن " مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه لا يقدرون، والضمير للشأن (على شىء من فضل الله) أي: لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم ينفعهم إيمانهم بمن تقدمه من الأنبياء، وقيل: إن (لا) ليست بزائدة، والمعنى: لئلا يعلم اليهود أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله (42)، أي: يعلمون أنهم يقدرون عليه ولم يعلموا خلافه، والضمير في (يقدرون) للنبي والمؤمنين.

1- قرأه حمزة. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 625.

2- التؤدة - بسكون الهمزة وفتحها -: التأني والتمهل، يقال: اتأد في مشيه وتوأد: إذا تمهل فيه وتأنى. (لسان العرب: مادة وأد).

3- قاله الضحاك. راجع تفسير الماوردي: ج 5 ص 476.

4- قرأه ابن عامر في رواية هشام. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 626.

5- البيت من معلقته المشهورة. أنظر ديوان لبيد بن ربيعة: ص 173.

6- حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 297.

7- الريف: أرض فيها زرع وخصب، يقال: أرافت الأرض: أي أخصبت. (الصحاح: مادة ريف).

8- أوردها القرطبي في تفسيره: ج 17 ص 250.

9- بالتشديد قرأها ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 262.

10- هي قراءة رويس. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 712.

11- قرأه ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر عنه. راجع كتاب السبعة السابق.

|

12- هي قراءة ابن كثير وحده. راجع المصدر نفسه: ص 184.

13- في بعض النسخ: " صدقوا ".

14- حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 532.

15- قرأه أبو عمرو. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 626.

16- أي بحذف " هو " وهي قراءة نافع وابن عامر، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. راجع المصدر السابق: ص 627.

17- وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 534.

18- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 480 مرسلا.

19- الزمر: 6.

20- رواه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 299 بسند إلى ابن عمر يرفعه.

21- في نسخة: " ومنافعهم ".

22- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 481.

23- حكاه عنه الزمخشري أيضا في الكشاف.

24- على زنة " فعالة " بإبدال الهمزة ألفا وهي قراءة أبي عمرو والأعشى. راجع كتاب التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 565.

25- قاله ابن عباس والضحاك. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 691 و 692.

26- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 131.

27- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 9 ص 539: مدنية بلا خلاف، وهي اثنا وعشرون آية في الكوفي والبصري والمدني الأول، وإحدى وعشرون في المدني الأخير. وفي الكشاف: ج 4 ص 484: مدنية وآياتها (22) نزلت بعد " المنافقون ". وفي تفسير القرطبي: ج 17 ص 269: مدنية في قول الجميع إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) نزلت بمكة.

28- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 497 مرسلا وقد تقدم حديث الصادق (عليه السلام) في سورة الحديد المباركة، فراجع.

29- اللمم: المتقارب من الذنوب، واللمم أيضا: طرف من الجنون. (الصحاح).

30- أسباب النزول للواحدي: ص 347.

31- قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 628.

32- وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو. راجع المصدر السابق.

33- مريم: 80.

34- بتقدير: استقر لهم العذاب المهين في ذلك اليوم وهو يوم البعث.

35- هي قراءة أبي جعفر المدني. راجع التبيان: ج 9 ص 546.

36- كذا قرأها يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 715.

37- قرأه حمزة ورويس. راجع المصدر السابق.

38- هي قراءة رويس وحده. راجع المصدر نفسه.

39- في نسخة بدل " والله تعالى يقول ": " وتحية الله تعالى ".

40- النمل: 59.

41- رواه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 1718 ح 2184 وما بعده عن ابن مسعود.

42- وهو ما رواه البخاري في الصحيح: ج 8 ص 117 ح 6290 من طريقه إلى ابن مسعود، وفي ح 6288 بلفظ " إذا كانوا " عن ابن عمر.