سورة الصف

مدنية (1)، وهي أربع عشرة آية.

في حديث أبي: " ومن قرأ سورة عيسى كان عيسى (عليه السلام) مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا، وهو يوم القيامة رفيقه " (2).

وعن الباقر (عليه السلام): " من قرأ سورة الصف وأدمن قراءتها في فرائضه ونوافله صفه الله تعالى مع ملائكته وأنبيائه المرسلين " (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم (1) يأيها الذين ءامنوا لم تقولون مالا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون (3) إن الله يحب الذين يقتلون في سبيله ى صفا كأنهم بنين مرصوص (4) وإذ قال موسى لقومه ى يقوم لم تؤذوننى وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفسقين (5) وإذ قال عيسى ابن مريم يبنى إسراءيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد فلما جآءهم بالبينت قالوا هذا سحر مبين (6) ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلم والله لا يهدى القوم الظلمين (7) يريدون ليطفوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ى ولو كره الكفرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9)﴾

عن ابن عباس: كان ناس من المؤمنين يقولون قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه، فدلهم الله سبحانه على الجهاد في سبيله، فولوا يوم أحد فعيرهم (4) وقيل: نزلت في قوم قالوا: أبلينا وفعلنا ولم يفعلوا وهم كذبة (5).

وقصد في (كبر) التعجب من غير لفظ، وأسند إلى (أن تقولوا)، ونصب (مقتا) على التفسير دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، والمقت: أشد البغض، ولم يقتصر سبحانه على أن جعل البغض كبيرا حتى جعله أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا كبر مقته عند الله فقد تناهى كبره وشدته.

وذكر أنه قيل لبعض السلف: حدثنا، فسكت ثم قال: تأمرونني أن أقول ما لا أفعل، فأستعجل مقت الله.

وفي قوله سبحانه: (يحب الذين يقتلون في سبيله) دليل على أن المقت تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في القتال فلم يفوا.

(صفا) صافين أنفسهم، أو: مصفوفين كأنهم في تراصهم من غير فرجة (بنين) رص بعضهم إلى بعض ورصف، وقيل: إنه يدل على فضل القتال راجلا، لأن الرجالة يصطفون على هذه الصفة (6).

وقوله: (صفا كأنهم بنين مرصوص) حالان متداخلتان.

(وإذ قال) ظرف لأذكر (تؤذوننى) آذوه بأنواع الأذى، من قولهم: (اذهب أنت وربك) (7)، (اجعل لنا إلها) (8)، وطلبهم رؤية الله جهرة، وعبادتهم العجل وغير ذلك (وقد تعلمون) في موضع الحال، أي: تؤذونني عالمين (أنى رسول الله) وقضية علمكم بنبوتي ورسالتي تعظيمي وتوقيري لا إيذائي، (فلما زاغوا) عن الحق (أزاغ الله قلوبهم) بأن منعهم ألطافه (والله لا يهدى القوم الفسقين) لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف، أو: لا يهديهم إلى الجنة التي وعدها المؤمنين.

(مصدقا لما بين يدى) أي: أرسلت إليكم في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة، وفي حال تبشيري (برسول يأتى من بعدى) وقرئ بسكون الياء وفتحها (9)، وسيبويه والخليل يختاران الفتح (10).

وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله، هل بعدنا من أمة؟قال: نعم، أمة أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حكماء علماء أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل (11).

وقرئ: " هذا ساحر " (12)، وأي الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي فيه السعادة الأبدية فيجعل مكان إجابته إليه افتراء على الله الكذب بقوله لكلامه: (هذا سحر) ؟! (ليطفئوا) هذه اللام تزاد مع فعل الإرادة فتجعل تأكيدا له، والأصل: يريدون أن يطفئوا، كما في سورة التوبة (13)، وإطفاء (نور الله بأفوههم) تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: (هذا سحر) فأشبهت حالهم حال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه.

(والله متم نوره) قرئ مضافا، وبالتنوين ونصب " نوره " (14)، أي: يتم الله الحق ويبلغه غايته.

و (دين الحق) الملة الحنيفية (ليظهره على الدين كله) أي: ليعليه (15) على جميع الأديان المخالفة له.

وعن علي (عليه السلام): والذي نفسي بيده لا تبقى قرية إلا وينادى فيها بشهادة أن لا إله إلا الله بكرة وعشيا (16).

﴿يأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجرة تنجيكم من عذاب أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله ى وتجهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذا لكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنت تجرى من تحتها الانهر ومسكن طيبة في جنت عدن ذا لك الفوز العظيم (12) وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (13) يأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فامنت طآئفة من بنى إسراءيل وكفرت طآئفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظهرين (14)﴾

(تنجيكم) قرئ بالتشديد (17) والتخفيف.

(تؤمنون) استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟فقيل لهم: تؤمنون، وهو خبر في معنى الأمر، ولهذا أجيب بقوله: (يغفر لكم)، وفي قراءة عبد الله: " آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا " (18)، وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين، ومثله قولهم: " غفر الله لك " و " يرحمك الله " (ذلكم) الإيمان والجهاد (خير لكم) من أموالكم وأنفسكم، والمعنى: (إن كنتم تعلمون) أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ، لأنكم إذا علمتم ذلك أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم فتفوزون.

(وأخرى تحبونها) أي: ولكم مع هذه النعمة المذكورة الآجلة من المغفرة والثواب والنعيم في الجنة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله: (نصر من الله وفتح قريب) وهو فتح مكة، وقيل: فتح فارس والروم وسائر فتوح الإسلام على العموم (19).

وفي قوله: (تحبونها) ذرو من التوبيخ على محبة العاجل (وبشر المؤمنين) معطوف على (تؤمنون) لأنه في معنى الأمر، فكأنه قال: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم (وبشر) يا رسول الله (المؤمنين) بذلك.

وقرئ: (كونوا أنصار الله) و " أنصارا لله " (20)، والمعنى: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى (عليه السلام) حين قال لهم: (من أنصارى إلى الله) أي: من أنصاري متوجهين إلى نصرة الله؟ومعناه: من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله؟(قال الحواريون نحن أنصار الله) أي: نحن الذين ينصرون الله.

فإضافة (أنصارى) خلاف إضافة (أنصار الله)، ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله؛ لأنه لا يطابق الجواب (فآمنت طائفة) منهم بعيسى (وكفرت) به (طآئفة فأيدنا) مؤمنيهم (على) كفارهم فظهروا عليهم أي: غلبوا، وقيل: معناه: فآمنت طائفة منهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكفرت به طائفة، فأصبح المؤمنون غالبين بالحجة والقهر (21).

1- حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن: ص 156.

2- قاله عطاء. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 338.

3- وبالتنوين قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو، راجع كتاب السبعة: ص 635.

4- قاله إبراهيم ومجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 87.

5- قال الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 529: مدنية، وآياتها (11) نزلت بعد الصف. وفي تفسير القرطبي: ج 18 ص 91: مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية.

6- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 537 مرسلا.

7- حكاه الزجاج في معاني القرآن: ج 4 ص 169 وزاد: وذكر أهل الحيرة أنهم تعلموا الكتابة من أهل الأنبار.

8- رواه مسلم في الصحيح: ج 4 ص 1972 ح 2546 وما بعده عن أبي هريرة.

9- قاله ابن زيد ومجاهد. راجع التبيان: ج 10 ص 4.

10- في نسخة: " عالمين ".

11- يريد: أن المراد فيها الجنس، فتعريفه وتنكيره سواء، فجاز وصفه بالجملة وإن كانت لا يوصف بها إلا النكرة.

12- وعجزه: فمضيت ثمة قلت لا يعنيني. لرجل من بني سلول وقيل: لشمر بن عمرو الحنفي. وقد تقدم شرح البيت في ج 1 ص 58.

13- المائدة: 18.

14- رواه ابن عباس في تفسيره: ص 471.

15- في نسخة: " لا تجسرون ".

16- قال ابن منظور: الجمعة والجمعة والجمعة، وهو يوم العروبة، سمي بذلك لاجتماع الناس فيه... وذكر السهيلي: أن كعب بن لؤي جد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول من جمع يوم العروبة، ولم تسم العروبة الجمعة إلا مذ جاء الاسلام، وهو أول من سماها الجمعة، فكانت قريش تجتمع إليه - اي إلى كعب جد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي، ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، وينشد في هذا أبياتا منها: يا ليتني شاهد فحواء دعوته * إذا قريش تبغي الحق خذلانا انظر لسان العرب: مادة " جمع ".

17- قاله أبو سلمة كما في تفسير القرطبي: ج 18 ص 97.

18- قاله ابن سيرين. راجع تفسير القرطبي: ج 18 ص 98 وفيه " أسعد " بدل " سعد ".

19- أنظر السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 137.

20- في نسخة: " متشاغلين ".

21- حكاه عنهم ابن جني في المحتسب: ج 2 ص 321 وزاد: علي (عليه السلام) وأبي وابن عمر.