سورة المنافقون

سورة المنافقون (1)

مدنية (2)، وهي إحدى عشرة آية.

وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة المنافقين برئ من النفاق " (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إذا جآءك المنفقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنفقين لكذبون (1) اتخذوا أيمنهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون (2) ذا لك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3) وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قتلهم الله أنى يؤفكون (4) وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفسقين (6)﴾

(قالوا نشهد إنك لرسول الله) شهادة يوافق فيها السر الإعلان، ويواطئ القلب اللسان، (والله يعلم إنك لرسوله) على الحقيقة (والله يشهد) إنهم (لكذبون) في ادعائهم المواطأة، أو: كاذبون في قولهم وشهادتهم؛ لأنها إذا خلت عن المواطأة لم تكن شهادة حقيقة.

(اتخذوا أيمنهم جنة) يستترون بها من الكفر لئلا يقتلوا، ويجوز أن يكون قولهم: (نشهد إنك لرسول الله) يمينا من أيمانهم الكاذبة، لأن الشهادة تجري مجرى الحلف، وقرأ الحسن: " إيمانهم ? (4) أي: ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم (سآء ما كانوا يعملون) من نفاقهم وصدهم الناس (عن سبيل الله)، وفي (سآء) معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين.

(ذلك) إشارة إلى قوله: (سآء ما كانوا يعملون)، أي: ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا (ب?) سبب (أنهم ءامنوا ثم كفروا)، أو: إلى ما وصف من حالهم في النفاق والاستجنان بالإيمان، أي: ذلك كله بسبب (أنهم ءامنوا ثم كفروا)، أي: نطقوا بكلمة الشهادة ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بما اطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حقا فنحن حمير! ونحوه: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمنكم) (5) (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلمهم) (6) أو: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر إذا خلوا بأشباههم (فطبع على قلوبهم) فجسروا على كل عظيمة.

وكان عبد الله بن أبي رجلا جسيما فصيحا صبيحا، وقوم من المنافقين في مثل صفته، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيستندون فيه، فشبههم الله سبحانه في عدم الانتفاع بحضورهم وإن كانت هياكلهم معجبة وألسنتهم ذليقة بالخشب المسندة إلى الحائط، أو: بالأصنام المنحوتة من الخشب، والخطاب في (رأيتهم تعجبك) لرسول الله، أو: لكل من يخاطب.

وقوله: (كأنهم خشب) كلام مستأنف لا محل له، أو: في محل رفع على: هم كأنهم خشب، وقرئ: " خشب ? (7) و (خشب)، والتحريك لغة أهل الحجاز واحدتها: خشبة، كبدنة وبدن، وثمرة وثمر، (عليهم) مفعول ثان، أي: (يحسبون كل صيحة) واقعة عليهم لجبنهم إذا نادى مناد في العسكر، أو: أنشدت ضالة ظنوه إيقاعا بهم، ويوقف على (عليهم) ويبتدأ (هم العدو) أي: الكاملون في العداوة (فاحذرهم) ولا يغررك ظاهرهم (قتلهم الله) دعاء عليهم، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم، أو: تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك (أنى يؤفكون) كيف يصرفون عن الحق مع وفور أدلته.

(لووا رؤوسهم) عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارا، قرئ بالتخفيف (8) والتشديد للتكثير، أي: يستوي استغفارك لهم وعدم استغفارك لهم لأنهم لا يعتدون به لكفرهم، أو: لأن الله لا يغفر لهم.

﴿هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزآبن السموات والارض ولكن المنفقين لا يفقهون (7) يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله ى وللمؤمنين ولكن المنفقين لا يعلمون (8) يأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموا لكم ولا أولدكم عن ذكر الله ومن يفعل ذا لك فأولئك هم الخسرون (9) وأنفقوا من ما رزقنكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصلحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلها والله خبير بما تعملون (11)﴾

ازدحم على الماء في غزاة بني المصطلق رجل من المهاجرين ورجل من بني عوف بن الخزرج واقتتلا، فغضب عبد الله بن أبي وقال: والله، ما مثلنا مثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) يعني: بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله، ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؟أما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفقوا عليهم (حتى ينفضوا) من حول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فسمع بذلك زيد بن أرقم - وهو حدث - فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عز من الرحمن ومودة وقوة من المسلمين، فقال عبد الله: اسكت، فإنما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إلى عبد الله وقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا لكاذب، وذلك قوله تعالى: (اتخذوا أيمنهم جنة) وقال الحاضرون: يا رسول الله، شيخنا وكبيرنا، لا تصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره، وفشت الملامة من الأنصار لزيد، فلما نزلت لحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زيدا من خلفه فعرك أذنه وقال: وفت أذنك يا غلام إن الله صدقك وكذب المنافقين، فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنزلت: (وإذا قيل لهم تعالوا) (9)، ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات (ينفضوا) أي: يتفرقوا (ولله خزآئن السموت والأرض) وبيده الأرزاق فهو يرزقهم منها (ولكن) عبد الله وأمثاله جاهلون (لا يفقهون) ذلك.

(ولله العزة) أي: الغلبة والقوة ولمن أعزه الله وأيده.

وعن الحسن بن علي (عليهما السلام): أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها! قال: ليس بتيه ولكنه عزة، وتلا هذه الآية (10).

(لا تلهكم) لا تشغلكم (أمولكم) والتصرف فيها وابتغاء التلذذ بها (ولا أولدكم) وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بما يصلحهم (عن ذكر الله ومن يفعل ذلك) يريد الشغل بالدنيا عن الدين (فأولئك هم الخسرون) في تجارتهم، إذ باعوا الخطير الباقي بالحقير الفاني.

(من ما رزقنكم): " من " للتبعيض أي: أنفقوا الواجب منه (من قبل أن يأتى أحدكم الموت) فيرى دلائله ويتعذر عليه الإنفاق، ويتحسر على المنع، ويفقد ما كان متمكنا منه (فيقول رب لولا أخرتنى) وقرئ: " أخرتن " (11)، أي: هلا أخرت موتي (إلى أجل قريب) إلى زمان قليل (فأصدق) فأتصدق، وقرئ: (وأكن) عطفا على محل (فأصدق)، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن.

وقرئ: " وأكون ? (12) على اللفظ.

وعن ابن عباس: تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا يقبل توبة ولا ينفع عمل (13).

وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها (14).

وقيل: نزلت في مانعي الزكاة (15).

وعن الحسن: ما من أحدكم لم يزك ولم يحج ولم يصم إلا سأل ربه الرجعة (16).

(ولن يؤخر الله) نفي للتأخير على وجه التأكيد، والمعنى: إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأن الله عليم بأعمالكم، لم يبق إلا المسارعة إلى أداء الواجبات.

وقرئ: (تعملون) بالياء (17) والتاء، فالتاء على عود الضمير إلى قوله: (نفسا) لأنه في معنى الجمع.

1- كذا تبعا للكشاف. وقال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 17: مدنية بلا خلاف في قول ابن عباس وعطاء والضحاك، وهي ثمان عشرة آية بلا خلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 545: مختلف فيها، وهي ثمان عشرة آية، نزلت بعد التحريم. وفي تفسير القرطبي: ج 18 ص 131: مدنية في قول الأكثرين، وقال الضحاك: مكية، وقال الكلبي: هي مكية ومدنية، وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جفاء أهله وولده فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) إلى آخر السورة.

2- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 551.

3- ثواب الأعمال للصدوق: ص 146.

4- في نسخة زيادة: " دون غيره ".

5- في نسخة: " لا يغرب ".

6- في نسخة: " الإله ".

7- يس: 15.

8- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 548 مرسلا.

9- بالنون هي قراءة يعقوب وحده. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 722.

10- وبالنون قرأه نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم. راجع المصدر السابق.

11- أخرجه البخاري في الصحيح: ج 2 ص 124. عن أبي هريرة.

12- تفسير ابن عباس: ص 474.

13- حكاه الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 161.

14- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 549.

15- روى النحاس عن ابن زيد عن أبيه قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب فرأى الحسن والحسين يعبران (يعثران - خ) فنزل من على المنبر وضمهما إليه وتلا هذه الآية. إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس: ج 4 ص 445 - 446.

16- قاله الزجاج في معاني القرآن: ج 5 ص 182.

17- في بعض النسخ: " إلى " بدل " أو ".