سورة المعارج
مكية (1) وهي أربع وأربعون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة (سأل سآئل) أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " (2).
وعن الباقر (عليه السلام): " من أدمن قراءة (سأل سآئل) لم يسأله الله يوم القيامة عن ذنب عمله، وأسكنه جنته مع محمد وآله (عليهم السلام) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿سأل سآئل بعذاب واقع (1) للكفرين ليس له دافع (2) من الله ذى المعارج (3) تعرج الملئكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (4) فاصبر صبرا جميلا (5) إنهم يرونه بعيدا (6) ونراه قريبا (7) يوم تكون السمآء كالمهل (8) وتكون الجبال كالعهن (9) ولا يسل حميم حميما (10) يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه (11) وصحبته ى وأخيه (12) وفصيلته التى تويه (13) ومن في الارض جميعا ثم ينجيه (14) كلا إنها لظى (15) نزاعة للشوى (16) تدعوا من أدبر وتولى (17) وجمع فأوعى (18) إن الانسن خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21)﴾
أي: دعا داع (بعذاب واقع) ضمن (سأل) معنى: دعا فعداه تعديته، يقال: دعا بكذا: إذا طلبه واستدعاه، ومنه: (يدعون فيها بكل فكهة ءامنين) (4).
وعن مجاهد: هو النضر بن الحارث، قال: (إن كان هذا هو الحق...) الآية (5).
وقرئ: " سال " بغير همز (6) جعل الهمزة بين بين.
(للكفرين) صفة ل? " عذاب " أي: بعذاب واقع كائن للكافرين، أو: صلة ل? " دعا " أي: دعا للكافرين (ليس له دافع من الله) أي: من جهته إذا جاء وقته، وأوجبت الحكمة وقوعه، أو: معناه: بعذاب واقع من الله أي: من عنده (ذى المعارج) ذي المصاعد، جمع " معرج ".
ثم وصف المعارج وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال: (تعرج الملئكة والروح) يعني: جبرائيل (عليه السلام)، خصه بالذكر تشريفا له (إليه) إلى عرشه ومهبط أوامره (في يوم كان مقداره) كمقدار مدة (خمسين ألف سنة) مما يعده الناس، وذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السماوات السبع.
وقوله: (في يوم كان مقداره ألف سنة) (7) هو من الأرض إلى السماء الدنيا خمسمائة، ومنها إلى الأرض خمسمائة، والمعنى: لو قطع الإنسان هذا المقدار الذي قطعته الملائكة في يوم واحد، لقطعه في هذه المدة، وهو معنى قول مجاهد (8).
وقيل: إن قوله: (في يوم)، من صلة (واقع)، أي: يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم، وهو يوم القيامة (9)، إما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار، وإما لأنه على الحقيقة كذلك، قيل: فيه خمسون موطنا، كل موطن ألف سنة (10).
وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.
وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: لو ولي الحساب غير الله تعالى لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة.
وعنه (عليه السلام): لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
(فاصبر) يتعلق بـ (سأل سائل) لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيبا بالوحي، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر عليه.
والضمير في (يرونه) للعذاب الواقع، أو: ليوم القيامة، يريد: أنهم يستبعدونه على جهة الإحالة (و) نحن (نره قريبا) هينا في قدرتنا، غير بعيد علينا ولا متعذر.
(يوم تكون) نصب بـ (قريبا)، أي: يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم، أو: بمضمر أي: يقع في ذلك اليوم لدلالة (واقع) عليه، أو: هو بدل عن (في يوم)، (يوم تكون السمآء كالمهل) وهو دردي الزيت، وعن ابن مسعود: كالفضة المذابة (11).
(وتكون الجبال كالعهن) كالصوف المصبوغ ألوانا، لأن الجبال (جدد بيض وحمر.
وغرابيب سود) (12)، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنقوش إذا طيرته الريح.
(ولا يسئل حميم حميما) ولا يقول له: كيف حالك، ولا يكلمه، لأن كل إنسان مشغول بنفسه عن غيره.
(يبصرونهم) أي: يبصرون الأحماء والأقرباء فلا يخفون عليهم، فلا يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا، وإنما يمنعهم التشاغل، وقرئ: " ولا يسأل " على البناء للمفعول (13)، أي: لا يقال لحميم: أين حميمك؟ولا يطلب منه، لأنهم يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب.
وهو كلام مستأنف، كأنه لما قال: ولا يسأل حميم حميما قيل: لعله لا يبصره، فقيل: يبصرونهم، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.
قرئ: (يومئذ) بالجر والفتح (14) على البناء للإضافة إلى غير متمكن، أي: يتمنى (المجرم لو يفتدى من عذاب) ذلك اليوم بإسلام كل كريم عليه من أبنائه وزوجته وأقربائه (وفصيلته) عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم (تئويه) أي: تضمه انتماء إليها أو لياذا بها في النوائب.
(ينجيه) عطف على (يفتدى) أي: يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، وقوله: (ومن في الأرض) و (ثم) لاستبعاد الإنجاء، والمعنى: يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه، ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه.
(كلا) ردع وتنبيه على أن الافتداء لا ينجي ولا ينفع (إنها) الضمير للنار وإن لم يجر لها ذكر، لأن ذكر العذاب دل عليها، أو: هو ضمير مبهم ترجم عنه الخبر، أو: ضمير القصة، و (لظى) علم للنار، منقول من " اللظى " يعني: اللهب، ويجوز أن يراد اللهب.
" نزاعة ? (15) خبر بعد خبر لـ (إن) أو: خبر لـ (لظى) إن كانت الهاء ضمير القصة، أو: صفة له إن أريد بها اللهب، والتأنيث لأنه في معنى النار، أو: خبر مبتدأ محذوف للتهويل أي: هي نزاعة، وقرئ: (نزاعة) بالنصب على الحال المؤكدة، أو: على الاختصاص للتهويل، والشوى: الأطراف، أو: جمع شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعا ثم تعاد.
(تدعوا) إلى نفسها (من أدبر) عن الإيمان (وتولى) عن طاعة الله تعالى، تقول لهم: إلي إلي، وقيل: إنه مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم (16)، ونحوه قول ذي الرمة: تدعو أنفه الريب (17) وقوله أيضا: ليالي اللهو يطبيني فأتبعه (18) (وجمع) المال (فأوعى) أمسكه في الوعاء وكنزه، ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة منه، ولم ينفقه في الطاعة.
(إن الانسن) يريد: الجنس (خلق هلوعا) جزوعا، من: الهلع وهو سرعة الجزع عند مس المكروه، وناقة هلواع: سريعة السير، ثم فسره سبحانه بقوله: (إذا مسه الشر جزوعا) يريد: إذا ناله الفقر والضر أظهر شدة الجزع، وإذا أصابه الغنى منع من المعروف وشح بماله، والمعنى: أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه، كأنه مجبول عليهما مطبوع، وكأنه أمر ضروري غير اختياري.
﴿إلا المصلين (22) الذين هم على صلاتهم دآئمون (23) والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسآئل والمحروم (25) والذين يصدقون بيوم الدين (26) والذين هم من عذاب ربهم مشفقون (27) إن عذاب ربهم غير مأمون (28) والذين هم لفروجهم حفظون (29) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين (30) فمن ابتغى ورآء ذا لك فأولئك هم العادون (31) والذين هم لامنتهم وعهدهم راعون (32) والذين هم بشهداتهم قآئمون (33) والذين هم على صلاتهم يحافظون (34) أولئك في جنت مكرمون (35) فمال الذين كفروا قبلك مهطعين (36) عن اليمين وعن الشمال عزين (37) أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم (38) كلا إنا خلقنهم مما يعلمون (39) فلا أقسم برب المشرق والمغرب إنا لقدرون (40) على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين (41) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون (42) يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون (43) خشعة أبصرهم ترهقهم ذلة ذا لك اليوم الذي كانوا يوعدون (44)﴾
استثنى سبحانه من جنس الإنسان الموصوف بالجمع والمنع والشح والهلع الموحدين المطيعين، الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على الطاعات، وظلفوها عن الشهوات، حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين.
ومعنى قوله: (دائمون) أنهم يداومون عليها، ويواظبون على أدائها لا يتركونها.
وفي الحديث: " أفضل العمل أدومه " (19).
وعن الباقر (عليه السلام): إن هذا في النوافل، وقوله: (على صلتهم يحافظون) في الفرائض والواجبات (20).
وقيل: إن معنى محافظتهم عليها: أن يراعوا مواقيتها، ويسبغوا الوضوء لها، ويقيموا أركانها (21).
فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة، والمحافظة على أحوالها.
والحق المعلوم هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة.
وعن الصادق (عليه السلام): هو الشيء تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة، وإن شئت كل يوم، ولكل ذي فضل فضله (22).
وعنه أيضا: هو أن تصل القرابة، وتعطي من حرمك، وتصدق على من عاداك.
والسائل: الذي يسأل، والمحروم: الذي يتعفف ولا يسأل فيحسب غنيا فيحرم.
(والذين يصدقون بيوم الدين) لا يشكون فيه، ويستعدون له، ويشفقون من عذاب ربهم.
واعترض بقوله: (إن عذاب ربهم غير مأمون) أي: لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الطاعة والعبادة أن يأمن عذاب الله، وينبغي أن يكون مترجحا بين الخوف والرجاء.
وقرئ: " بشهادتهم ? (23) و (بشهدتهم) والشهادة من جملة الأمانات، وخصها من بينها إبانة لفضلها، لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي كتمانها تضييعها وإبطالها.
(فمال الذين كفروا قبلك) عندك يحتفون بك (مهطعين) مسرعين نحوك، مادين أعناقهم إليك.
(عن اليمين وعن الشمال عزين) جماعات متفرقين فرقة فرقة، جمع " عزة " وأصلها: " عزوة " كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى.
وكانوا يحدقون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمعون إلى كلامه، ويستهزئون ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دخلناها قبلهم.
(كلا) ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة، ثم علل ذلك بقوله: (إنا خلقنهم مما يعلمون) إلى آخر السورة، وهو كلام دال على إنكارهم البعث، فكأنه قال: كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء، فمن أين يطمعون في دخول الجنة؟وذلك أنه احتج سبحانه عليهم بالنشأة الأولى، وأنه خلقهم (مما يعلمون) أي: من النطف، وبأنه قادر على أن يهلكهم ويبدل ناسا خيرا منهم، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه ولا يعجزه شىء، والغرض أن من قدر على ذلك لم يعجزه الإعادة.
وقيل: معناه: إنا خلقناهم من النطفة المذرة، فهي أصلهم ومنصبهم الذي لا منصب أوضع منه، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم؟(24) وقيل: معناه إنا خلقناهم من النطف كما خلقنا سائر بني آدم، وحكمنا بأن لا يدخل الجنة منهم إلا من آمن، فلم يطمع الكافر أن يدخلها؟(25) وقيل: (مما يعلمون) أي: من أجل ما يعلمون وهو الطاعة (26)، والمضاف محذوف.
(يوم يخرجون من الأجداث) من القبور (سراعا) مسرعين، وقرئ: " إلى نصب ? (27) و (نصب)، وهو كل ما نصب فعبد من دون الله، وقيل: إنهما العلم والراية (28)، وقيل: إن " النصب " الراية، و " النصب " الأصنام المعبودة (29) (يوفضون) يسعون ويسرعون إلى الداعي مستبقين، كما أنهم كانوا يستبقون إلى أنصابهم.
(خشعة أبصرهم) لا يستطيعون النظر من هول ذلك اليوم.1- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 485.
|
2- رواه في الكافي: ج 3 ص 498 و 499 قطعة ح 8 و 9 بإسناده عن سماعة بن مهران وأبي بصير كلاهما عنه (عليه السلام).
3- قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم برواية أبى بكر عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 651.
4- قاله قتادة والزجاج. راجع التبيان: ج 10 ص 128.
5- وهو قول الحسن. راجع المصدر نفسه.
6- قاله الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 128.
7- وهي قراءة الجمهور إلا حفصا وابن عامر فإنهما قرأها بضمتين. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 651.
8- قاله الكلبي. راجع تفسير البغوي في تفسيره: ج 4 ص 396.
9- قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 270.
10- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 131: مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما، وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي، وتسع وعشرون في البصري، وثلاثون في المدنيين. وفي الكشاف: ج 4 ص 615: مكية، وهي ثمان وعشرون آية، نزلت بعد النحل.
11- الآية: 23.
12- الآية: 23.
13- الآية: 25.
14- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 622 مرسلا.
15- ثواب الأعمال للصدوق: ص 147، وزاد في آخره: " وأربعة آلاف ثيب إن شاء الله ".
16- قاله الكلبي. راجع البحر المحيط: ج 8 ص 338.
17- التوبة: 125.
18- قال في الصحاح: القرفصاء: ضرب من القعود، يمد ويقصر، فإذا قلت: قعد فلان القرفصاء فكأنك قلت: قعد قعودا مخصوصا وهو أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبى بالثوب، تكون يداه مكان الثوب. (مادة: قرفص).
19- قاله مقاتل. راجع تفسير القرطبي: ج 18 ص 302.
20- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 617.
21- رواه الكليني في الكافي: ج 6 ص 8 ح 4 بإسناده عن بعض أصحابه (عليه السلام) بألفاظ متقاربة.
22- تفسير ابن عباس: ص 487.
23- حكاه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 618.
24- حكاه الزمخشري في الكشاف المتقدم.
25- قرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع برواية خارجة عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 652.
26- يعني " كبارا " من غير تشديد، وقد قرأه عيسى وأبو السمال وابن محيصن، غير أن الأخير كسر الكاف. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 162.
27- وهي قراءة نافع وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 653.
28- قد تقدم شرح مختصر عن أحوال هذه الأصنام المزعومة في ج 2 ص 117 - 118.
29- قرأه أبو رجاء العطاردي. راجع شواذ القرآن لابن خالويه: ص 162.