سورة نوح

مكية (1) ثمان وعشرون آية كوفي، تسع بصري، عد الكوفي: (ونسرا) (2) والبصري (سواعا) (3) (فأدخلوا نارا) (4).

في حديث أبي: " ومن قرأ سورة نوح (عليه السلام) كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح (عليه السلام) " (5).

وعن الصادق (عليه السلام): " من كان يؤمن بالله ويقرأ كتابه فلا يدع أن يقرأ سورة (إنآ أرسلنا نوحا)، فأي عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة أسكنه الله تعالى مساكن الأبرار، وأعطاه ثلاث جنان مع جنته كرامة من الله له، وزوجه مائتي حوراء " (6).

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم (1) قال يقوم إنى لكم نذير مبين (2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون (4) قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا (5) فلم يزدهم دعآءى إلا فرارا (6) وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصبعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7) ثم إنى دعوتهم جهارا (8) ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا (9) فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السمآء عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنت ويجعل لكم أنهرا (12) مالكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم أطوارا (14)﴾

أي: بعثنا (نوحا) رسولا (إلى قومه أن أنذر) أي: بأن أنذر، فحذف الجار، وهي " أن " الناصبة للفعل، والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر، ويجوز أن تكون مفسرة لأن الإرسال فيه معنى القول.

و (أن اعبدوا الله) مثل: (أن أنذر) في الوجهين.

(يغفر لكم من ذنوبكم): " من " مزيدة، وقيل: للتبعيض (7)، أي: يغفر لكم ذنوبكم السالفة (ويؤخركم إلى أجل مسمى) فيه دلالة على ثبوت أجلين، مثل أن يكون قد قضى الله سبحانه أن يعمر قوم نوح إن آمنوا ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة، فقال لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى، يعني الوقت الذي سماه الله تعالى وضربه أمدا ينتهون إليه لا يتجاوزونه، وهو تمام الألف سنة.

ثم أخبر أنه (إذا جآء) ذلك الأمد (لا يؤخر) كما يؤخر هذا الوقت، ولم يكن لكم حيلة.

(إنى دعوت قومى ليلا ونهارا) أي: دائما دائبا من غير فتور.

(فلم يزدهم دعآئى إلا فرارا) من قبوله، ونفارا منه، جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار.

والمعنى: أنهم ازدادوا عنده فرارا، ونحوه قوله: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (8).

(كلما دعوتهم لتغفر لهم) أي: ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو حظهم خالصا ليكون أقبح لإعراضهم عنه (جعلوا أصبعهم في ءاذانهم) لئلا يسمعوا كلامي ودعائي (واستغشوا ثيابهم) تغطوا بها لئلا يروني، كأنهم طلبوا أن يغشاهم ثيابهم (وأصروا) وداوموا على كفرهم (واستكبروا) وأخذتهم العزة من اتباعي، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استكبارهم وعتوهم.

ابتدأ (عليه السلام) في دعوتهم بالأهون وترقى إلى الأشد، وذلك أنه ناصحهم في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم يؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان.

ومعنى (ثم) الدلالة على تباعد الأحوال، فإن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

و (جهارا) مصدر (دعوتهم) لأنه أحد نوعي الدعاء، فنصب به كما ينصب القرفصاء (9) بـ (قعد)، لكونها أحد أنواع القعود، أو: لأنه أراد بـ (دعوتهم) جاهرتهم، ويجوز أن يكون صفة لمصدر " دعوت " أي: دعاء جهارا مجاهرا به.

(فقلت استغفروا ربكم) أي: اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم (إنه كان غفارا) لطالبي المغفرة.

(يرسل السمآء عليكم مدرارا) قيل: إنهم لما طال إصرارهم على الكفر والتكذيب بعد تكرير دعوتهم، حبس الله عنهم القطر فقحطوا حتى هلكت أموالهم وأولادهم، فلذلك وعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه (10).

وعن الحسن: أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية (11).

وسأل رجل الباقر (عليه السلام) فقال: جعلت فداك، إني رجل كثير المال وليس يولد لي ولد، فهل من حيلة؟قال: نعم، استغفر ربك سنة في آخر الليل مائة مرة، فإن ضيعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار، فإن الله تعالى يقول: (استغفروا ربكم...) إلى آخر الآية (12).

والمدرار: المطر الكثير الدرور، مفعال، يستوي فيه المذكر والمؤنث.

(ما لكم لا ترجون لله وقارا) أي: تأملون له توقيرا أي: تعظيما.

والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الكرامة؟و (لله) بيان للموقر، ولو تأخر كان صلة ل? " الوقار ".

وقوله: (وقد خلقكم أطوارا) في موضع الحال، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه، وهي أنه خلقكم تارات: ترابا، ثم نطفا، ثم علقا، إلى أن أنشأكم خلقا آخر، وهذه موجبة للإيمان به.

وعن ابن عباس: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟(13) وعنه: لا تخافون الله عاقبة (14)، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب، من: وقر إذا ثبت واستقر، وقيل: لا تخافون لله حلما وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا (15).

﴿ألم تروا كيف خلق الله سبع سموا ت طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله جعل لكم الارض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20) قال نوح رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارا (22) وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23) وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظلمين إلا ضللا (24) مما خطيتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا (25) وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27) رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنت ولا تزد الظلمين إلا تبارا (28)﴾

نبههم أولا على النظر في أنفسهم، وثانيا على النظر في العالم وما فيه من العجائب والبدائع الدالة على الصانع القادر العالم، قال: (وجعل القمر فيهن) وهو في السماء الدنيا لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق، واحدة فوق الأخرى كالقباب، فجاز أن يقال: فيهن كذا، كما يقال: في المدينة كذا، وهو في بعض نواحيها (وجعل الشمس سراجا) يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك إنما هو نور لم يبلغ قوة ضياء الشمس.

(والله أنبتكم) استعار الإنبات للإنشاء كما يقال: زرعك الله للخير، والمعنى: أنبتكم فنبتم نباتا، أو: نصب (أنبتكم) لتضمنه معنى " نبتم ".

(ثم يعيدكم فيها) أمواتا مقبورين (ويخرجكم) منها عند البعث، وأكده بالمصدر كأنه قال: يخرجكم لا محالة.

(والله جعل لكم الأرض بساطا) مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه، والفجاج: الطرق الواسعة المنفجة.

جعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم في الدنيا إلا وجاهة زائدة (خسارا) في الآخرة، وجعل ذلك سمة يعرفون بها، وصفة لازمة لهم، أي: اتبعوا رؤوسهم المقدمين أصحاب الأموال وتركوا اتباعي، وقرئ: (وولده)، " وولده " (16).

(ومكروا) معطوف على (لم يزده) وجمع الضمير الراجع إلى (من) على المعنى، والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم: كيدهم لنوح (عليه السلام)، وصد الناس عن الاستماع منه، وقولهم لهم: (لا تذرن ءالهتكم)، (مكرا كبارا) قرئ بالتخفيف (17) والتثقيل.

والكبار: أكبر من الكبير، والكبار بالتشديد: أكبر من الكبار.

(ولا تذرن ودا) قرئ بضم الواو (18) وفتحها، وكانت هذه الأصنام (19) المذكورة أسماؤها أعظم أصنامهم عندهم فخصوها بعد قولهم: (لا تذرن ءالهتكم)، وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب: فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير، ولذلك سميت العرب ب? " عبد ود " و " عبد يغوث ".

(وقد أضلوا) الضمير للرؤساء، ومعناه: وقد أضلوا (كثيرا) قبل هؤلاء، أو: قد أضلوا بإضلالهم قوما كثيرا.

(ولا تزد الظلمين) معطوف على قوله: (رب إنهم عصونى) أي: قال نوح: (رب إنهم عصونى) وقال: (ولا تزد الظلمين إلا ضللا) والمراد بالضلال: أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم، أو: يريد به الهلاك والضياع كقوله: (ولا تزد الظلمين إلا تبارا).

وقدم سبحانه قوله: (مما خطيئتهم) لبيان أن إغراقهم ما كان إلا من أجل خطاياهم، وكذا إدخالهم النار.

وقرئ: (خطيئتهم) بالهمزة، و " خطياتهم " بقلب الهمزة ياء وإدغامها (20) و " خطاياهم " (21)، و " ما " مزيدة، وقال: (فأدخلوا) بالفاء لأن دخولهم النار كأنه متعقب لإغراقهم، كأنه قد كان لاقترابه أو: لإرادة عذاب القبر، وعن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب (22).

وتنكير النار: إما لتعظيمها، وإما لأن الله سبحانه أعد لهم نوعا من النار.

يقال: ما بالدار ديار، وهو فيعال من الدور، وأصله: ديوار، ففعل به ما فعل بأصل " سيد " و " هين "، ولو كان على وزن فعال لكان " دوارا "، ولا يستعمل إلا في النفي العام.

(ولا يلدو إلا فاجرا كفارا) إنما قال ذلك بعد أن أخبره الله عز وجل أنه (لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن) (23) وأنهم لا يلدون مؤمنا، وقد أعقم الله أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، فلم يكن فيهم صبي وقت العذاب، فلذلك دعا نوح (عليه السلام) عليهم بما دعا به.

ومعنى: (ولا يلدوا يلد إلا فاجرا كفارا): لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر، فوصفهم بما يصيرون إليه، كقوله (عليه السلام): " من قتل قتيلا فله سلبه " (24).

(ولولدى) اسم أبيه: ملك بن متوشلخ، واسم أمه: شمخا بنت أنوش، وكانا مؤمنين (ولمن دخل بيتي) أي: داري، وقيل: مسجدي (25)، وقيل: سفينتي (26).

خص أولا من يتصل به لأنهم أحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات (ولا تزد الظلمين إلا تبارا) هلاكا ودمارا.

1- وهي قراءة أبي عمرو وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 653.

2- حكاه عنه البغوي في تفسيره: ج 4 ص 400.

3- هود: 36.

4- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 7 ص 296.

5- قاله الضحاك والكلبي. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 400.

6- حكاه البغوي في تفسيره المتقدم.

7- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 144: مكية في قول قتادة وابن عباس والضحاك وغيرهم، وهي ثمان وعشرون آية، ليس فيها اختلاف. وفي الكشاف: ج 4 ص 622: مكية، وآياتها (28) نزلت بعد الأعراف.

8- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 633 مرسلا.

9- ثواب الأعمال للصدوق: ص 148 وفيه: " وكان مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: يا رب لا أريد به بدلا، ولا أريد أن أبغي عنه حولا ".

10- الآية: 18 و 19.

11- قاله أبو حمزة اليماني. راجع تفسير البغوي: ج 4 ص 173.

12- قاله ابن عباس. راجع تفسير الطبري: ج 11 ص 297.

13- الأحقاف: 29.

14- قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: ج 2 ص 272.

15- قرأه يعقوب. راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون: ج 2 ص 736.

16- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 624.

17- لزيد بن الحاكم الكلابي من أبيات يمدح بها قومه ويذم آخرين من بني عمومته، يقول: لا تفاخر بيننا وبينكم من جهة الآباء بل التفاخر من جهة أمهاتنا وأمهاتكم. راجع شرح شواهد الكشاف للأفندي: ص 424.

18- وعجزه: والذئب أخشاه وكلبا عاويا. لم نعثر على قائله يقول: لهرمي وضعفي صرت أخاف الرجل الصغير والركب القليل الغادي وكذا الذئب أخافه والكلب العاوي. راجع شرح الشواهد: ص 398.

19- لبشير بن أبي خازم من أبيات يصف فيها حمارا وحشيا تجري وجحشها يسرع خلفها كإسراع شهاب الرجم. راجع المصدر السابق: 411.

20- حكاه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 626.

21- وصدره: لدن بهز الكف يعسل متنه... فيه كما. لساعدة بن جؤية الهذلي من قصيدة طويلة له، وشعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة أنظر المؤتلف والمختلف: ص 83.

22- قاله البغوي في تفسيره: ج 4 ص 403.

23- راجع التبيان: ج 10 ص 152.

24- زيادة لابد منها.

25- رواه عنه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 628. والآية: من سورة الأنعام.

26- المائدة: 66.