سورة المرسلات
مكية (1)، وهي خمسون آية.
في حديث أبي: " ومن قرأ سورة (والمرسلت) كتب: ليس من المشركين " (2).
وعن الصادق (عليه السلام) " من قرأها عرف الله بينه وبين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿والمرسلت عرفا (1) فالعصفت عصفا (2) والنشرات نشرا (3) فالفرقت فرقا (4) فالملقيت ذكرا (5) عذرا أو نذرا (6) إنما توعدون لواقع (7) فإذا النجوم طمست (8) وإذا السمآء فرجت (9) وإذا الجبال نسفت (10) وإذا الرسل أقتت (11) لاى يوم أجلت (12) ليوم الفصل (13) ومآ أدراك ما يوم الفصل (14) ويل يومئذ للمكذبين (15) ألم نهلك الاولين (16) ثم نتبعهم الأخرين (17) كذا لك نفعل بالمجرمين (18) ويل يومئذ للمكذبين (19) ألم نخلقكم من مآء مهين (20) فجعلنه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القدرون (23) ويل يومئذ للمكذبين (24) ألم نجعل الأرض كفاتا (25) أحيآء وأمواتا (26) وجعلنا فيها رواسى شمخت وأسقينكم مآء فراتا (27) ويل يومئذ للمكذبين (28)﴾
(المرسلت) الملائكة أرسلت بالمعروف فعصفت في مضيها كما تعصف الرياح.
(والنشرات) هي الملائكة نشرت أجنحتها في الجو عند انحطاطها بالوحي، أو: نشرت الشرائع في الأرض.
(فالفرقت فرقا) فرقت بين الحق والباطل.
(فالملقيت ذكرا) إلى الأنبياء.
(عذرا) للمحقين (أو نذرا) للمبطلين.
وقيل: (المرسلت) رياح العذاب أرسلت متتابعة كعرف الفرس فعصفت في شدة هبوبها.
(والنشرت) رياح الرحمة نشرت السحاب في الجو (نشرا) للغيث ففرقت بينها وبددته، كقوله: (ويجعله كسفا) (4)، أو: هي السحاب نشرت الأرض الميتة ففرقت بين من يشكر الله وبين من يكفر، فألقت ذكرا: إما (عذرا) للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، وإما (نذرا) إنذارا للذين يغفلون عن الشكر لله (5).
وانتصاب (عرفا) في المعنى الأول على أنه مفعول له، أي: أرسلن للإحسان، وانتصابه في المعنى الثاني على الحال.
و (عذرا) و (نذرا) مصدران من: عذر إذا محا الإساءة، ومن: أنذر إذا خوف، وانتصابهما على البدل أو: على المفعول له.
وقرئا مخففين ومثقلين (6).
إن الذي (توعدون?) - ه من مجيء يوم القيامة (ل?) - كائن (وقع) لا محالة، وهو جواب القسم.
(طمست) أي: محيت ومحقت، وقيل: ذهب بنورها (7).
(فرجت) أي: شقت، وصدعت، وفتحت فكانت أبوابا.
(نسفت) كالحب إذا نسفت بالمنسف، ونحوه: (وبست الجبال بسا) (8) قيل: أخذت بسرعة من أماكنها (9).
(أقتت): وقتت، وهو الأصل، ومعنى توقيت الرسل: تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم.
والتأجيل من الأجل، كالتوقيت من الوقت (لاى يوم أجلت) تعجيب من هول اليوم وتعظيم له.
(ليوم الفصل) بيان ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، وقيل: وقتت: بلغت ميقاتها الذي كانت منتظرة وهو يوم القيامة (10).
و (أجلت): أخرت.
(ويل) في الأصل مصدر منصوب ساد مسد فعله، لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه.
(ألم نهلك الاولين) قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (ثم نتبعهم) بالرفع على الاستئناف، وهو وعيد لقريش، والمراد: ثم نفعل بأمثالهم مثل ما فعلنا بهم؛ لأنهم كذبوا كتكذيبهم.
(كذلك) مثل ذلك الفعل (نفعل) بكل من أجرم وكذب.
(من مآء مهين) حقير قليل الغناء.
(فجعلنه في قرار مكين) يعني: الرحم.
(إلى قدر) مقدار من الوقت (معلوم) قد علمه الله وهو تسعة الأشهر أو ما دونها.
(فقدرنا) ذلك تقديرا (فنعم) المقدرون له نحن، أو: (فقدرنا) على ذلك (فنعم القدرون) عليه نحن، والأول أولى لقراءة من قرأ: " فقدرنا " بالتشديد (11)، ولقوله: (من نطفة خلقه فقدره) (12).
الكفات: من: كفت الشيء إذا جمعه وضمه، وهو اسم ما يكفت، كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، وبه انتصب (أحياء وأمواتا)، كأنه قال: كافتة أحياء وأمواتا، أو: بفعل مضمر يدل عليه وهو " تكفت "، والمعنى: تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها.
والتنكير للتفخيم، يعني: أحياء لا يحصرون وأمواتا كذلك، أو: لكونهما حالين من الضمير، لأن المعنى: تكفتكم أحياء وأمواتا.
(روسى شمخت) أي: جبالا ثابتة عالية، (وأسقينكم) وجعلنا لكم سقيا من ماء عذب.
﴿انطلقوا إلى ما كنتم به ى تكذبون (29) انطلقوا إلى ظل ذى ثلث شعب (30) لا ظليل ولا يغنى من اللهب (31) إنها ترمى بشرر كالقصر (32) كأنه جملت صفر (33) ويل يومئذ للمكذبين (34) هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36) ويل يومئذ للمكذبين (37) هذا يوم الفصل جمعنكم والأولين (38) فإن كان لكم كيد فكيدون (39) ويل يومئذ للمكذبين (40) إن المتقين في ظلل وعيون (41) وفواكه مما يشتهون (42) كلوا واشربوا هنيا بما كنتم تعملون (43) إنا كذا لك نجزى المحسنين (44) ويل يومئذ للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون (46) ويل يومئذ للمكذبين (47) وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون (48) ويل يومئذ للمكذبين (49) فبأى حديث بعده يؤمنون (50)﴾
أي: يقول لهم الخزنة: (انطلقوا إلى) ما كذبتم (به) وجحدتموه من عذاب النار، والانطلاق: الذهاب من مكان إلى مكان من غير مكث، و (انطلقوا) الثاني تكرير، وقرئ بلفظ الماضي (13) إخبارا بعد الأمر من علمهم بموجبه واضطرارهم إلى فعله.
(إلى ظل) يعني: دخان جهنم، كقوله: (وظل من يحموم) (14)، (ذى ثلث شعب) يتشعب لعظمه ثلاث شعب: شعبة فوقهم، وشعبة عن أيمانهم، وشعبة عن شمائلهم.
(لا ظليل) تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم يضاد ظل المؤمنين (ولا يغنى) في محل جر، أي: غير مغن عنهم (من) حر (اللهب) شيئا.
(إنها ترمى بشرر) متطاير في الجهات (كالقصر) أي: كل شرارة كالقصر من القصور في عظمها، وقيل: هو الغليظ من الشجر (15)، والواحدة: قصرة، نحو: جمرة وجمر، وقرئ: " كالقصر " بفتحتين (16) وهي أعناق الإبل.
" كأنه جمالات ? (17) جمع جمال، وقرئ: (جملت) جمع جمل، شبهت بالقصور ثم بالجمال لبيان التشبيه، كما شبه عنترة ناقته بالقصر في قوله: فوقفت فيها ناقتي وكأنها * فدن لاقضي حاجة المتلوم (18) وقرئ: " جمالات " بالضم (19)، وهي قلوس سفن البحر، وقيل: قلوس الجسور (20)، الواحدة: جمالة، وقيل: (صفر) لإرادة الجنس (21)، وقيل: (صفر) سود تضرب إلى الصفرة (22).
(هذا يوم لا ينطقون) بما ينفعهم، جعل نطقهم ك? " لأنطق " لأنه لا ينفع ولا يجدي، أو: ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ويوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت، ولذلك ورد الأمران في القرآن، ألا ترى إلى قوله: (ثم إنكم يوم القيمة عند ربكم تختصمون) (23)؟فيتكلمون ويختصمون ثم يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون.
(فيعتذرون) عطف على (يؤذن) أي: ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له من غير أن يكون الاعتذار مسببا عن الإذن، ولو نصب لكان مسببا عنه لا محالة.
(هذا يوم الفصل) أي: يوم الحكم والقضاء بين الخلق، والانتصاف للمظلوم من الظالم، (جمعنكم والأولين) بيان له، لأن الفصل إذا كان بين الأشقياء والسعداء، وبين الأنبياء وأممهم، فلابد من جمع الأولين والآخرين حتى يقع ذلك الفصل بينهم.
(فإن كان لكم كيد فكيدون) تقريع لهم على كيدهم لدين الله وأهله، وتسجيل عليهم بالمهانة والعجز.
(كلوا واشربوا) في موضع الحال من ضمير (المتقين) في قوله: (في ظلل) أي: مقولا لهم ذلك.
و (كلوا وتمتعوا) حال من المكذبين، أي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: كلوا وتمتعوا، أي: كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك، ويجوز أن يكون (كلوا) كلاما مستأنفا، خطابا للمكذبين في الدنيا.
(وإذا قيل لهم اركعوا) أي: صلوا، لا يصلون، وقيل: نزلت في ثقيف (24) حين أمرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال (عليه السلام): " لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " (25).
(فبأى حديث) بعد القرآن (يؤمنون) وهو الآية المبصرة، والمعجزة الباهرة، والبرهان المبين! وكرر (ويل يومئذ للمكذبين) في السورة عشر مرات، علق كل واحدة منها بقصة تخالف أخواتها، فعقب كلا منها بإثبات الويل للمكذب بما في ضمنها.1- قاله الحسن وقتادة ومجاهد. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 389 - 390.
2- الزمر: 31.
3- قاله مقاتل. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 181.
4- أخرجه البيهقي في السنن: ج 2 ص 444 - 445 عن عثمان بن أبي العاص.
5- في بعض النسخ: " سورة عم يتسآءلون ".
6- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 237: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي أربعون آية في الكوفي والمدنيين، وإحدى وأربعون في البصري. وفي الكشاف: ج 4 ص 683: مكية، وتسمى سورة النبأ، وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية، نزلت بعد المعارج.
7- الآية: 40.
8- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 692 مرسلا.
9- ثواب الأعمال للصدوق: ص 149 وزاد في آخره: " إن شاء الله ".
10- " إلام " و " علام " و " حتام "، أصلها على الترتيب: إلى ما، وعلى ما، وحتى ما.
11- قاله ابن عباس في تفسيره: ص 495.
12- قاله قتادة. راجع تفسير الطبري: ج 12 ص 396.
13- حكاه الماوردي في تفسيره: ج 6 ص 183.
14- تفسير مجاهد: ص 694.
15- أخرجه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 400، وابن حجر في التلخيص: ج 2 ص 239 مرسلا. والعج: رفع الصوت للتلبية، والثج: سيلان دماء الهدي.
16- طه: 54.
17- زيادة يقتضيها السياق.
18- وهو قول الكسائي. راجع تفسير القرطبي: ج 19 ص 174.
19- قاله مجاهد في تفسيره: ص 695.
20- أخرجه السيوطي في الدر المنثور: ج 8 ص 393 بطوله وعزاه إلى ابن مردويه. وفيه: " القضاة " بدل " القصاص ".
21- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 668.
22- القمر: 12.
23- حكاه الطبري في تفسيره: ج 12 ص 402.
24- الواقعة: 6.
25- في نسخة: " مأواهم ".