سورة النازعات
مكية (1)، وهي ست وأربعون آية كوفي، خمس غيرهم، (ولانعمكم) (2) كوفي.
وفي حديث أبي: " ومن قرأ سورة النازعات لم يكن حسابه يوم القيامة إلا كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنة " (3).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأها لم يمت إلا ريانا، ولم يبعث إلا ريانا، ولم يدخل الجنة إلا ريانا " (4).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿والنزعت غرقا (1) والنشطت نشطا (2) والسبحت سبحا (3) فالسبقت سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قلوب يومئذ واجفة (8) أبصرها خشعة (9) يقولون أءنا لمردودون في الحافرة (10) أءذا كنا عظما نخرة (11) قالوا تلك إذا كرة خاسرة (12) فإنما هى زجرة واحدة (13) فإذا هم بالساهرة (14) هل أتلك حديث موسى (15) إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى (16) اذهب إلى فرعون إنه طغى (17) فقل هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك إلى ربك فتخشى (19) فأراه الاية الكبرى (20) فكذب وعصى (21) ثم أدبر يسعى (22) فحشر فنادى (23) فقال أنا ربكم الاعلى (24) فأخذه الله نكال الاخرة والاولى (25) إن في ذا لك لعبرة لمن يخشى (26)﴾
أقسم عز اسمه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ غاية المد، وبالملائكة التي " تنشطها " أي: تخرجها، من قولهم: نشط الدلو من البئر: إذا أخرجها، وبالملائكة التي تسبح في مضيها، أي: تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فيدبروا أمور العباد من السنة إلى السنة.
وقيل: إنها خيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعا، تغرق فيها الأعنة لطول أعناقها، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، من قولهم: ثور ناشط: إذا خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الظفر والغلبة (5).
وقيل: إنها النجوم التي تنزع من أفق إلى أفق، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله، والتي تخرج من برج إلى برج، والتي تسبح في الفلك من السيارة فيسبق بعضها بعضا في السير، فتدبر أمرا قضى الله سبحانه به (6).
والمقسم عليه محذوف وهو: لتبعثن، و (يوم ترجف) منصوب بهذا المضمر، و (الراجفة): الصيحة التي ترجف عندها الأرض والجبال، وهي النفخة الأولى، وصفت بما يحدث بحدوثها.
(تتبعها الرادفة) وهي النفخة الثانية تردف الأولى، والجملة في محل النصب على الحال، والمعنى: لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت وهو وقت النفخة الأخيرة.
ويجوز أن ينتصب (يوم ترجف) بما دل عليه (قلوب يومئذ واجفة) أي: يوم ترجف وجفت القلوب، والوجيف والوجيب أخوان، والمعنى: أنها قلقة مضطربة غير هادئة لما عاينت من هول ذلك اليوم.
(أبصرها خشعة) أي: ذليلة، و (قلوب) مبتدأ، (واجفة) صفتها، و (أبصرها خشعة) خبره، وأضاف " الأبصار " إلى " القلوب "، والمراد: أبصار أصحابها، يدل عليه: (يقولون أءنا لمردودون في الحافرة) أي: في الحالة الأولى، يعنون الحياة بعد الموت، وأصلها: رجع فلان في حافرته، أي: في طريقته التي جاء فيها فحفرها أي: أثر فيها، بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفرا، وقيل: حافرة كما قيل: (عيشة راضية) (7) أي: منسوبة إلى الحفر وإلى الرضا (8)، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أي: إلى طريقته وحالته الأولى، قال: أحافرة على صلع وشيب * معاذ الله من سفه وعار (9) يريد: أرجوعا إلى حافرة؟وقالوا: النقد عند الحافرة، يريدون: عند الحالة الأولى، وهي الصفقة.
قرئ: (نخرة) و " ناخرة ? (10) يقال: نخر العظم فهو نخر وناخر، و " فعل " أبلغ من " فاعل "، وهو البالي الأجوف الذي يمر فيه الريح فيسمع له نخير.
و (إذا) منصوب بمحذوف، والتقدير: إذا كنا عظاما بالية متفتتة نبعث ونرد أحياء؟(قالوا تلك) الكرة (إذا كرة خاسرة) منسوبة إلى الخسران، أو: خاسر أصحابها بمعنى: أنها إن صحت فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاء منهم.
وتعلق قوله: (فإنما هى زجرة وحدة) بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها ولا تحسبوها صعبة على الله (فإنما هى زجرة) أي: صيحة (وحدة) هينة سهلة في قدرته، وهي النفخة الثانية.
(فإذا هم) أحياء على وجه الأرض بعد أن كانوا أمواتا في جوفها، و (الساهرة) الأرض البيضاء المستوية، وسميت ساهرة لأن السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة: جارية الماء، و " نائمة " ضدها، قال: وساهرة يضحي السراب مجلا * لأقطارها قد جبتها متلثما (11) أو: لأن سالكها لا ينام خوف الهلاك.
(اذهب إلى فرعون) على إرادة القول.
تقول: هل لك في كذا، و: هل لك إلى كذا، كما تقول: هل ترغب فيه، و: هل ترغب إليه (تزكى) تتزكى، أي: تتطهر من الشرك، وقرئ: " تزكى " بالإدغام (12).
(وأهديك) وأرشدك (إلى) معرفة (ربك فتخشى) لأن الخشية لا تكون إلا بعد المعرفة: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (13) أي: العلماء به.
بدأ في مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر بذلك في قوله: (فقولا له قولا لينا) (14).
و (الآية الكبرى) قلب العصا حية لأنها كانت الأصل، و " الآية الأخرى ? (15) كالتبع لها، أو: أراد العصا واليد البيضاء وجعلهما واحدة، لأن الثانية كأنها من الأولى لكونها تابعة لها.
(فكذب) بموسى والآية، وسماهما: ساحرا وسحرا (وعصى) الله.
(ثم أدبر) لما رأى الثعبان مرعوبا (يسعى) في مشيته، أو: أدبر وتولى عن موسى يسعى ويجتهد في كيده.
(فحشر) فجمع السحرة (فنادى) في المقام الذي اجتمعوا فيه معه، أو: أمر مناديا ينادي في الناس بذلك.
(نكال الاخرة والاولى) مصدر مؤكد، ك? (وعد الله) (16)، و (صبغة الله) (17)، كأنه قال: نكل الله به نكال الآخرة والأولى، والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام والكلام، يعني: الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة، وعن ابن عباس: نكال كلمتيه: كلمته الأولى: (ما علمت لكم من إله غيرى) (18)، والأخيرة: (أنا ربكم الأعلى) (19)، وكان بين الكلمتين أربعون سنة، وقيل: عشرون (20).
﴿ءأنتم أشد خلقا أم السمآء بناها (27) رفع سمكها فسولها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والارض بعد ذا لك دحاهآ (30) أخرج منها مآءها ومرعاها (31) والجبال أرسلها (32) متعا لكم ولانعمكم (33) فإذا جآءت الطآمة الكبرى (34) يوم يتذكر الانسن ما سعى (35) وبرزت الجحيم لمن يرى (36) فأما من طغى (37) وءاثر الحيوة الدنيآ (38) فإن الجحيم هى المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هى المأوى (41) يسلونك عن الساعة أيان مرسلها (42) فيم أنت من ذكراهآ (43) إلى ربك منتهاهآ (44) إنمآ أنت منذر من يخشاها (45) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها (46)﴾
الخطاب لمنكري البعث، أي: (ءأنتم) أيها المشركون أصعب (خلقا) وإنشاء (أم السمآء)؟ثم بين كيف خلق السماء فقال: (بنها)، ثم بين البناء فقال: (رفع سمكها) أي: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديدا رفيعا (فسولها) فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور، أو: فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها، من قولك: سوى فلان أمر فلان.
(وأغطش ليلها) يقال: أغطش الليل وأغطشه الله، (وأخرج ضحها) أبرز ضوء شمسها، يدل عليه قوله: (والشمس وضحها) (21) يريد: وضوئها، وأضاف " الليل " و " الضحى " إلى السماء لأن منها منشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها.
(والارض) منصوب بإضمار: دحا، وهو الإضمار قبل الذكر على شريطة التفسير، وكذا قوله: (والجبال أرسها) ولم يدخل حرف العطف على (أخرج) لأنه فسر الدحو الذي هو التمهيد للأرض والبسط للسكنى بما لابد منه في تأتي سكناها، من: تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال أوتادا لها لتستقر ويستقر عليها.
وأراد بـ (مرعها) ما يأكل الإنسان والأنعام، واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله: (نرتع ونلعب) (22)، وقرئ: " نرتع ? (23) من الرعي، ولهذا قيل: دل الله سبحانه بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض (24).
(متعا لكم) أي: فعل ذلك تمتيعا لكم (ولانعمكم) لأن منفعة ذلك واصلة إلى الجميع.
(الطآمة): الداهية التي تطم على الدواهي، أي: تعلو وتغلب، وفي المثل: " جرى الوادي فطم على القري " (25)، وهي القيامة.
(يوم يتذكر) بدل من (إذا جآءت)، (ما سعى) أي: ما عمله من خير وشر إذا رآه مدونا في كتابه تذكره وكان قد نسيه، كقوله: (أحصه الله ونسوه) (26).
(وبرزت الجحيم) أي: أظهرت إظهارا مكشوفا بينا لكل أحد.
فأما جواب قوله: (فإذا) أي: (فإذا جآءت الطآمة): فإن الأمر كذلك، والمعنى: فإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف أي: طرفك، وليس الألف واللام بدلا من الإضافة كما قال بعضهم (27)، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب (المأوى) تركت الإضافة، ودخول حرف التعريف في (المأوى) لأنه معروف.
و (هى) فصل أو مبتدأ.
(ونهى النفس) الأمارة بالسوء (عن الهوى) المردي، وهو اتباع الشهوات وضبطها بالصبر.
(أيان مرسها) متى إرساؤها أي: إقامتها، والمراد: متى يقيمها الله ويكونها ويثبتها.
(فيم أنت) في أي شىء أنت من أن تذكر وقتها لهم؟والمراد: ما أنت من ذكرها لهم وتبين وقتها في شيء.
(إلى ربك) منتهى علمها، لم يؤت علمها أحدا من خلقه، وقيل: (فيم) إنكار لسؤالهم، أي: فيم هذا السؤال (28)، ثم قيل: أنت (من ذكراهآ) أي: إرسالك - وأنت خاتم الأنبياء المبعوث إلى قيام الساعة - ذكر من ذكراها وعلاماتها، فكفاكم بذلك دليلا على اقترابها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
وقرئ: (منذر) منونا (29) وبالإضافة، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، وإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة.
والمعنى: أنك لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفا لهم في الخشية منها.
(كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا) في الدنيا، أو: في القبور (إلا عشية أو ضحها) أضاف " الضحى " إلى " العشية " لاجتماعهما في نهار واحد، ومثله: (كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) (30)، والمعنى: إلا قدر آخر نهار أو أوله.1- القراءة بالنون هنا في سورة يوسف: 12 إنما هي قراءة أبي عمرو وابن عامر. وذكره المصنف تبعا للكشاف، وإلا فقراءة حفص عن عاصم وعامة أهل الكوفة بالياء والجزم. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 346.
|
2- أي: بالنون وكسر العين من: ارتعى يرتعي بمعنى: رعى، نفتعل من الرعي. وهي قراءة ابن كثير. راجع المصدر السابق: ص 345.
3- قاله القتبي. راجع تفسير السمرقندي: ج 4 ص 445.
4- أي: جرى سيل الوادي فدفن القري، والقري: مجرى الماء في الروضة، والجمع: أقرية وقريان، يضرب عند تجاوز الشر حده. انظر مجمع الأمثال للميداني: ج 1 ص 166.
5- المجادلة: 6.
6- وهو مذهب الكوفيين. راجع إعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 47.
7- وهو قول ابن عباس. راجع تفسير الماوردي: ج 6 ص 200.
8- قرأه أبو عمرو برواية عباس عنه. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 671.
9- يونس: 45.
10- قال الشيخ الطوسي في التبيان: ج 10 ص 267: مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي اثنتان وأربعون آية في الكوفي والمدنيين، وإحدى وأربعون في البصري. وفي الكشاف: ج 4 ص 700: مكية، وآياتها (42) وقيل: (41) نزلت بعد النجم.
11- الآية: 32.
12- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 706 مرسلا.
13- ثواب الأعمال للصدوق: ص 149 وفيه بلفظ: " كان تحت جناح الله من الخيانة، وفي ظل الله وكرامته، وفي جنانه، ولا يعظم ذلك على ربه إن شاء الله ".
14- قال الشيخ الطوسي تعليقا على هذه الرواية: وهذا فاسد لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب وقد وصفه بأنه على خلق عظيم ؟! وقال الشريف المرتضى في جوابه على هذه الآية: أما ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا فيها ما يدل على أنه خطاب له (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هي خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه، وفيها ما يدل عند التأمل على أن المعني بها غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قرآن ولا خبر مع الأعداء المنابذين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. انظر التبيان: ج 10 ص 268، وتنزيه الأنبياء للشريف المرتضى علم الهدى: ص 118 - 119.
15- أنظر أسباب النزول للواحدي: ص 385 ح 903.
16- في المجمع بعد نقله هذه الرواية وجواب علم الهدى قال: وقد روي عن الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.
17- رواه الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 701 مرسلا.
18- قاله ابن إسحاق. راجع تفسير الثعالبي: ج 3 ص 442.
19- هي قراءة الجمهور إلا عاصما وحده. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 672.
20- قرأه ابن كثير ونافع. راجع المصدر السابق.
21- أنظر شواذ القرآن لابن خالويه: ص 169.
22- الشورى: 48.
23- قاله قتادة. راجع تفسير عبد الرزاق: ج 2 ص 216.
24- الأعلى: 18.
25- في بعض النسخ: " من " بدل " منذ ".
26- البلد: 10.
27- تفسير ابن عباس: ص 502.
28- قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر. راجع كتاب السبعة في القراءات: ص 672.
29- لم نعثر على قائله، وفيه يفخر الشاعر بأصله وقومه. والجذم: الأصل، والمكرع: الماء الصالح للشرب. أنظر لسان العرب: مادة " أبب ". وفيه ما يجدر ايراده، قال: وفي حديث أنس: أن عمر بن الخطاب قرأ قوله: (وفاكهة وأبا) وقال: فما الأب؟ثم قال: ما كلفنا وما أمرنا بهذا!! |
30- تفسير ابن عباس: ص 502.