الدرس التاسع

قلنا في ما سبق ان اكتشاف الابعاد الحقيقية لدور الدين في حركة التاريخ والمسيرة الاجتماعية للانسان تتوقف على تحقيق وتقييم دور العنصرين او الركنين الثابتين في الصيغة وهما الانسان والطبيعة.

الان نتحدث عن الانسان ودور الانسان في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم.

من الواضح على ضوء المفاهمي التي قرأناها سابقا ان الانسان أو المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ واننا ذكرنا ان حركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الاخرى بانها حركة غائية لا سببية فقط، ليست مشدودة الى سببها، الى ماضيها.

بل هي مشدودة الى الغاية لانها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة الى المستقبل.

فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية.

والمستقبل معدوم فعلا وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل.

اذن، فالوجود الذهني هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانبا فكريا وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف، وايضا يمثل من جانب آخر الطاقة والارادة التي تحفز الانسان نحو هذا الهدف.

اذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الارادة وبالأمتزاج بين الفكر والارادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.

وهذان الامران الفكر والارادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للانسان.

انه يتمثل في هذين الركنين الاساسيين وهما الفكر والارادة.

اذن المحتوى الداخلي للانسان هو الذي يصنع هذه الغايات ويجسد هذه الاهداف من خلال مزجه بين فكرة وارادة.

وبهذا صح القول بأن المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ.

والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة في المحتوى الداخلي للانسان ويكون تغيره وتطوره تابعا لتغير هذه القاعدة وتطورها فاذا تغير الاساس تغيرالبناء العلوي، واذا بقي الاساس ثابتا، بقي البناء العلوي ثابتا.

فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للانسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع، هذه العلاقة علاقة تبعية أي علاقة سبب بسبب.

هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(1).

هذه الآية واضحة جدا في المفهوم الذي اعطيناه وهو ان المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة والأساس لبناء العلوي، للحركة التاريخية لان الاية الكريمة تتحدث عن تغييرين احدهما تغيير القول (ان الله لا يغير ما بقوم) يعني تغيير اوضاع القوم، شؤون القوم، الابنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفس القوم.

اذن التغيير الاساس هو تغيير ما بنفس القوم والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم النوعية والتاريخية والاجتماعية ومن الواضح ان المقصود من تغيير ما بالانفس.

تغيير ما بأنفس القوم بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين متغيرا.

والا تغير الفرد الواحد او الفردين او الافراد الثلاثة لا يشكل الاساس لتغير ما بالقوم، وانما يكون تغير ما بالقوم تابعا لتغير ما بأنفسهم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي اكلها كل حين.

فالمحتوى النفسي والداخلي للامة كأمة لا لهذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساسا وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.

والاسلام والقرآن الكريم يؤمن بأن العمليتين يجب ان تسيرا جنبا الى جنب في عملية صنع الانسان لمحتواه الداخلي وبناء الانسان لنفسه ولفكره ولارادته ولمطموحاته.

هذا البناء الداخلي يجب ان يسير جنبا الى جنب مع البناء الخارجي، مع الابنية العلوية ولا يمكن ان يفترض انفكاك البناء الداخلي عن البناء الخارجي الا اذا بقي البناء الخارجي بناءا مهزوزا متداعيا.

ولهذا سمى الاسلام عملية بناء المحتوى الداخلي اذا اتجهت اتجاها صالحا بـ (الجهاد الاكبر).

وسمى عملية البناء الخارجي اذا اتجهت اتجاها صالحا بعملية (الجهاد الاصغر) وربط الجهاد الاصغر بالجهاد الاكبر واعتبر ان الجهاد الاصغر اذا فصل عن الجهاد الاكبر فقد محتواه ومضمونه، بل فقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية.

اذن هاتان العمليتان يجب ان تسيرا جنبا الى جنب. فاذا انفكت احداهما عن الاخرى فقدت حقيقتها ومحتواها وسمى الاسلام العملية الاولى عملية بناء المحتوى الداخلي بالجهاد الاكبر تأكيد على الصفة الاساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحا لهذه الحقيقة، حقيقة ان المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس ولهذا سمي بالجهاد الاكبر.

فاذا بقي الجهاد الاصغر منفصلا عن الجهاد الاكبر، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح.

القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي قال سبحانه وتعالى (ومن الناس من يعجبه قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو الدّ الخصام * واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)(2) يريد ان يقول بان الانسان اذا لم ينفذ بعملية التغيير الى قلبه والى اعماق روحه، اذا لم يبن نفسه بناءا صالحا لا يمكنه ابدا ان يطرح الكلمات الصالحة.

التي يمكن ان تتحول الى بناء صالح في المجتمع اذا نبعت عن قلب يعمر بالقيم التي تدل عليها تلك الكلمات والا فتبقى الكلمات مجرد الفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى.

فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها وللشعارات ابعادها ولعملية البناء الخارجي اهدافها ومسارها.

الى هنا عرفنا ان الاساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للانسان.

وهذا المحتوى الداخلي للانسان يشكل القاعدة.

الان نتساءل: ما هو الاساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه، ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للانسان، وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للانسان ؟ هو المثل الاعلى، عرفنا ان المحتوى الداخلي للانسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير.

وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى.

فانها جميعا تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل اعلى للانسان في حياته، للجماعة البشرية في حياتها.

وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي فالغايات بنفسها محركة للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة اعمق منها في المحتوى الداخلي للانسان وهو المثل الاعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود اليه كل تلك الاهداف.

فبقدر ما يكون المثل الاعلى للجماعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الاعلى محدودا او منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة ايضا.

اذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية.

وهذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة الى الحياة والكون، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون، على ضوء ذلك تحدد مثلها الاعلى.

ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الاعلى ومع وجهة نظرها الى الحياة والكون تحقق ارادتها للسير نحو هذا المثل وفي طريق هذا المثل.

اذن هذا المثل الاعلى هو في الحقيقة ايضا يتجسد من خلال رؤية فكرية ومن خلال طاقة روحية تزحف بالانسان في طريقة، وكل جماعة اختارت مثلها الاعلى، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق كما رأينا ان الحركة التاريخية تتميز عن أي حركة اخرى في الكون بانها حركة غائية وهادفة وكذلك تتميز وتتمايز الحركات التاريخية انفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا.

فلكل حركة تاريخية مثلها الاعلى، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات والاهداف وهذه الاهداف والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الاعلى.

والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الاعلى فيجملة من الحالات اسم الاله باعتبار ان المثل الاعلى هو القائد الآمر المطاع الموجه.

هذه صفات يراها القرآن لاله ولهذا يعبر عن كل من يكون مثل اعلى، كل ما يمثل مركز المثل الاعلى يعبر عنه بالاله لانه هو الذي يصنع مسار التاريخ، حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى (أرأيت من اتخذ الهه هواه)(3) عبر حتى عن الهوى حينما يتصاعد تصاعدا مصطنعا فيصبح هو المثل الاعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد او لذاك، عبر عنه بانه اله.

فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة لانها هي المعبودة حقا وهي الآمرة والناهية حقا وهي المحركة حقا، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي.

وهذه المثل العليا التي تتبناها الجمعات البشرية على ثلاثة اقسام:

القسم الاول: المثل الاعلى الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه، ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات، أي ان الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع يرتفع على هذا الواقع بل انتزع مثله الاعلى من هذا الواقع بحدوده وبقيوده وبشؤونه.

وحينما يكون المثل الاعلى منتزعا عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها وشؤونها تصبح حالة تكرارية، تصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله الى المستقبل بدلا عن التطلع اليه فقط يكون في الحقيقة تجميدا لهذا الواقع وتحويله من حالة نسبية ومن امر محدود الى امر مطلق لان الانسان يعترضه هدفا ومثلا اعلى وحينما يتحول هذا الواقع من امر محدود الى هدف مطلق، الى حقيقة مطلقة لا يتصور الانسان شيئا وراءها.

حينما يتحول الى ذلك. سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية لحالة سابقة ولهذا سوف يكون المستقبل تكرارا للواقع وللماضي.

هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية الى ظروف مطلقة لكي لا تستطيع الجماعة البشرية ان تتجاوز الواقع وان ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.

تبني هذا النوع من المثل العليا له احد سببين: السبب الاول الالفة والعادة والخمول والضياع، وهذا سبب نفسي، واذا انتشرت هذه الحالة في مجتمع حينئذ يتجمد ذلك المجتمع لانه سوف يصنع الهة من واقعه، سوف يحول هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه الى حقيقة مطلقة، الى مثل اعلى الى هدف لا يرى وراءه شيئا، وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تحدثت عن المجتمعات التي واجهت الانبياء حينما جاؤها بمثل عليا حقيقية ترتفع عن الواقع وتريد ان تحرك هذا الواقع وتنتزعه من حدوده النسبية الى وضع آخر.

واجه هؤلاء الانبياء مجتمعات سادتها حالة الالفة والعادة والتميع فكان هذا المجتمع يرد على دعوة الانبياء ويقول باننا وجدنا اباءنا على هذه السنة، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة ونحن متمسكون بمثلهم الاعلى، سيطرة الواقع على اذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ الى درجة تحول هذا من خلالها الى انسان حسي لا الى انسان مفكر، الى الى انسان يكون ابن يومه دائما، ابن واقعه دائما لا أبا يومه أبا واقعه.

ولهذا لا يستطيع ان يرتفع على هذا الواقع. لاحظوا القرآن الكريم وهو يقول: (قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون)(4).

(قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)(5).

(قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين)(6).

(أتنهانا ان نعبد ما يعبد آباؤنا واننا لفي شك مما تدعونا اليه مريب)(7)، (قالت رسلهم افي الله شك فاطر السموات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى اجل مسمى، قالوا ان انتم الا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين)(8) (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)(9) في كل هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم السبب الاول لتبني المجتمع هذا المثل الاعلى المنخفض.

هؤلاء بحكم الالفة والعادة وبحكم التميع والفراغ وجدوا سنة قائمة.

وجدوا وضعا قائما فلم يسمحوا لانفسهم بأن يتجاوزوه بل جسدوه كمثل اعلى وعارضوا به دعوات الانبياء على مر التاريخ، هذا هو السبب الاول لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض.

السبب الثاني لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض هو التسلط الفرعوني على مر التاريخ، الفراعنة حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أي تطلع الى المستقبل وفي أي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه، يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزا لمراكزهم.

من هنا كان من مصلحة فرعون على مر التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع، ان يحول الواقع الذي يعيشه مع الناس الى مطلق، الى اله، الى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه، يحاول ان يحبس وان يضع كل الامة في اطار نظرته هو، في اطار وجوده هو لكي لا يمكن لهذه الامة ان تفتش عن مثل اعلى ينقلها من الحاضر الى المستقبل من واقعه الى طموح آخر أو أكبر من هذا الواقع.

هنا السبب اجتماعي لا نفسي، السبب خارجي لا داخلي.

وهذا ايضا ما عرضه القرآن الكريم (وقال فرعون يا أيها الملأ ما عرفت لكم من اله غيري)(10) (قال فرعون ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد)(11) هنا فرعون يقول ما أريكم الا ما ارى يريد ان يضع الناس الذين يعبدونه كلهم في اطار رؤيته في اطار نظرته، يحول هذه النظرة وهذا الواقع، الى مطلق لا يمكن تجاوزه هنا الذي يجعل المجتمع يتبنى مثلا اعلى مستمد من الواقع هو التسلط الفرعوني الذي يرى في تجاوز هذا المثل الاعلى خطرا عليه وعلى وجوده.

قال الله سبحانه وتعالى (ثم ارسلنا موسى واخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين * الى فرعون وملأه فاستكبروا وكانوا قوما عالين قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)(12) نحن غير مستعدين ان نؤمن بهذا المثل الاعلى الذي جاء به موسى لانه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لنا.

اذن هذا التجميد ضمن اطار الواقع الذي تعيشه الجماعة أي جماعة بشرية ينشأ من حرص أولئك الذين تسلطوا على هذه الجماعة على ان يضمنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه وهم بناته.

هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم.

والقرآن الكريم يسمى هذا النوع من القوى التي تحاول ان تحول هذا الواقع المحدود الى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في اطار هذا المحدود، يسمي هذا بالطاغوت.

قال سبحانه وتعالى (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا الى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك هم الذين هداهم الله وأولئك هم أولي الألباب)(13).

لاحظوا ذكر صفة اساسية مميزة لمن اجتنب عبادة الطاغوت ما هي ؟

قال (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)(14).

يعني لم يجعلوا هناك قيدا على ذهنهم، لم يجعلوا أطارا محدودا لا يمكنهم ان يتجاوزوه، جعلوا الحقيقة مدار همهم هدفهم ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعني هم في حالة تطلع وموضوعية تسمح لهم بان يجدوا الحقيقة يتبعوها.

بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت، حينئذ يكونون في اطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت، سوف لن يستطيعو أن يستمعوا الى القول فيتبعون احسنه وانما يتبعون فقط ما يراد لهم ان يتبعوه، هذا هو السبب الثاني لاتباع وتبني هذه المثل، اذن خلاصة ما مر بنا حتى الان: أن التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للانسان الذي يصنع للانسان غاياته هذه الغايات تبني على اساس المثل الاعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات لكل مجتمع مثل اعلى ولكن مثل اعلى مسار ومسيرة وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق وهو على ثلاثة أقسام حتى الان استعرضنا القسم الاول من المثل العليا وهو المثل الاعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعا عن الواقع الذي تعيشه الجماعة وهذا مثل أعلى تكراري.

وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الاعلى حركة تكرارية، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل وقلنا بان تبني هذا النوع من المثل الاعلى يقود الى احد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم.

السبب الاول سبب نفسي وهو الالفة والعادة والضياع والسبب الاخر سبب خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مر التاريخ.


1- سورة الرعد /11.

2- سورة البقرة /204 - 205.

3- سورة الفرقان /43.

4- سورة البقرة /170.

5- سورة المائدة /104.

6- سورة يونس /78.

7- سورة نوح /62.

8- سورة إبراهيم /10.

9- سورة الزخرف /22.

10- سورة القصص /38.

11- سورة غافر /29.

12- سورة المؤمنون /45 - 47.

13- سورة الزمر /17 - 18.

14- سورة الزمر /17 - 18.