بعض مسائل عرفانية وبحوث ذوقية

الإشارة إلى مناكحة الأسماء: اعلم: أن مبدأ العالم واحد بسيط من جميع الجهات قديم، والفيض دائم متصل حادث ذاتي وغير ذاتي. ثم إن في العالم حركتين - واقعيتين أو توهميتين أو متوهمتين - من الأعلى إلى الأسفل، ومن الكلي السعي إلى الفرد الذي هو نموذج البرامج السابقة، فعلى هذا أول التعين في العالم الذي هو وراء الله تعالى، ويتنزل الوجود بذلك التعين، هو العقل الكلي، وبعد ذلك هو الوهم الكلي، وبعد ذلك هو التخيل الكلي، ثم النفس الكلية، ثم الجسم الكلي ثم الطبيعة الكلية... وهكذا. وحيث يكون جميع النموذجات والأفراد في عالم المادة، مركبات ومختلطات من أمشاج شتى، والأمزجة هي الحاصلة من الفعل والانفعالات، وكل هذه الأمور المتأخرة، أضلال المزايا والقضايا المحتومة في الوجود الذاتي القديم المحمود في فعاله، فهناك مناكحات طبعا، إلا أن مناكحة كل زوج في كل مرحلة، حسب اقتضاء تلك المرتبة والمرحلة وذلك الشأن، فالعالم زوج ومركب من العقل والوهم والخيال والجسم، وإنما بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشئ منها، فهذا الزواج بين العقل الكلي والوهم والخيال والنفس الكلية والجسم، من لوازم نكاح الأسماء الإلهية، وانسجام ونظام تابع لذلك الانسجام الذاتي. فعندئذ هنا بعد المناكحة الأولية الذاتية الأصلية، مناكحة ظلية سعية من العقل والشيطان الوهم والتخيل وحواء النفس الكلية، وبعد هذه المناكحة والانسجام، حصلت في الحركة الثانية من النازل - وأسفل سافلين - إلى العالي لأجل المادة الأخيرة، حركات فردية، إلا أن كل فرد مستجمع لتلك الأحوال على نعت الجزئية والإهمال. ولعل إلى هذه المعاني اللطيفة العلمية، تشير قصة آدم وحواء، وحيث إن هناك أربع أمور: آدم وحواء والشيطان والشجرة، تكون المراتب الكلية المجردة في القوس النزولي أربعا: العقل السعي الكلي والوهم والخيال والنفس، وعندئذ إذا نظر العامي إلى هذه الآيات، يجد قصة جزئية وحكاية عن أمر خارجي فردي كسائر قصص العالم، وإذا نظر العارف المشاهد أن كل ما في المتأخر يرجع - بحسب الحقيقة - إلى المتقدم بالذات، ينتقل إلى أن هذه المناكحة من تلك المناكحة الأسمائية نشأت، وهذه القصة قصة عنها وحكاية رمزية، وإن كانت حواء نشأت من آدم بمناكحة نفسه، أو نشأت مثل نشأة آدم، أو كان في آدم الأول أمران، فغلب على حالته الوجودية وخلقته البشرية حالة شهوية، فحصلت في جوفه مبادئ وجود حواء، ضرورة جواز إمكان كون الإنسان الواحد رجلا في برهة ومرأة في برهة أخرى، كما قد اتفقت هذه القضية في هذه الأعصار، المعبر عنها بتغيير الجنسية، ويكون له الصلب الأبي والرحم الأمي، فيغلب لمكان ما فيه من الشهوة على حالته الأخرى ماء دافق، وقد خلق الله كل شئ من ماء. وبالجملة: وإن كانت حواء بحسب وجودها الطبيعي هكذا، إلا أنها بحسب الخلقة الفردية مثل آدم، وتكون بحسب المقام الكلي النفس الكلية المزدوجة مع العقل الكلي المقرونين بالوهم الكلي، وهو الشيطنة، وحيث إن الشجرة لها التقدر الطبيعي، والخيال متقدر مقارب للجسم الكلي، صارت منهية، لما يلزم من التقرب إلى تلك الشجرة والخيال والميول أن يكونا من الظالمين والمتجاوزين عن التجرد إلى حدود المقادير والمادية والجسمية. والله هو المستعان. وعلى هذا من تدبر في آيات قصة آدم، وتأمل فيما تلوناه عليه، يظهر له أن للقرآن بطنا وسبعة أبطن أو سبعين بطنا.

تنبيه

زواج الأسماء والصفات: قد اعتبروا أن الله تعالى صاحب الفيضين: الأقدس والمقدس، والأقدس يتكفل عالم التقدرات والقابليات، والثاني قضاء الله تعالى يتبع ذلك القدر، مع إمكان الفرار من فيضه المقدس بفيضه الأقدس وبالقدر الأول، وهذه القصة ربما تؤمي إلى هذه المرحلة، فإن في مقام الواحدية اجتمعت الصفات والأسماء، وبعض تحت سيطرة بعض، وهذه السيطرة الكلية والجزئية هي حقيقة المناكحات الأسمائية، لأن السنخية الخاصة بين تلك الأسماء والصفات، تقتضي التسخير والسلطة والحكومة الإلهية، وتلك الصفات بمنزلة الزوج، والأسماء بمنزلة آدم والأوادم، والفيض الأقدس المتقدر للقوابل، هي القابلية السارية في العالم، والمقدس هي الصورة الجارية عليها، فيكون هناك شيئان بينهما الزواج الساري، والجاري من القديم الزماني إلى الأبد الفاني. وحيث إن ذلك العرس وذلك الزواج يحصل منه الأولاد الطيبون والخبيثون، فنهى الله تعالى الصور الكلية عن التقرب من شجرة التمرد على العقل الكلي، كي لا يكون الحكم للغضب والبهيمة، اللتين من تبعات تلك الصورة أيضا حسب الفيض الأقدس، إلا أن الشيطان المريد - المتخلف عن السجدة والتخضع للعقل والظالم لنفسه - صنع ما صنع. وفي كل ذلك حكم إلهية وعنايات ربانية، ووجوبات نظامية شخصية وكلية، ولزومات طبيعية، لنيل الأفراد الماديين ما ينتظرهم في الغيب المضاف، بل والغيب المطلق.

وميضة

الزواج بين الشاهد والغائب: ربما يظهر للسالك أن هناك اعتبارا آخر إليه ربما تنتهي قصة آدم، وهو أن باطن العالم وبطنه وغيب العالم بغيبوبته، تحت سترة الظاهر المشاهد والشهود المطلق، فهناك وجوب ذاتي إلهي مجرد عن الغيب والشهود " عالم الغيب والشهادة "، وغيب مطلق ومضاف، وشهود مطلق ومضاف، فربما كان الزواج باعتبار أن الشاهد - وهي الصورة - مسيطر على الغائب والباطن وبطن الام، فإن (الرجال قوامون على النساء)، وهما واحد خارجي ومختلفان بالاعتبار، كما تحرر في محله، وصرح به الوالد المحقق العارف - حفظه الله تعالى - في بعض رسائله. فبينهما الزواج والمناكحة العينية الناشئة عن تلك المناكحة العلمية. والله رؤوف بعباده، وكل ذلك جهل في بطن العلم. " كل ميسر لما خلق له " (1).

تتميم

حول العداوة في الآية: حيث إن هذه الكلمات كلها بحسب التصور لغات عرفية، وحيث إن في الكتاب العزيز أسرارا إلهية، خارجة عن أفق العقول البشرية والأفهام العادية العامية، وحيث إن جميع الآيات الربانية عربية مبينة يعرفها العامي والعارف، يشكل تنزيل الهيئات الكلامية على وجه يتمكن كل أحد من نيل ما يناسب وجوده وأنواره واقتداره. وجميع هذه الكلمات من إضافة القول إليه تعالى، ومن آدم وسكونته وزوجه والجنة والأكل منها والشجرة والقرب منها وظلم الإنسان وإزلال الشيطان... وهكذا، فيذهب كل إلى مداركه من المعارف العادية والاجتماعية والفلسفية والعرفانية، كما يأتي تفصيله في ذيل بحوث التأويل والتفسير إن شاء الله تعالى. وبالجملة: إن هناك انتقالا من الظلم في الآية الأولى إلى الإزلال والعداوة في الآية الثانية، وانتقال من الجنة في الأولى إلى الأرض في الثانية، ومن التزلزل في الجنة في الأولى والاستقرار في الأرض في الثانية، والنهي عن التمتع في الأولى والأمر بالتمتع في الثانية، والسكون في الأولى والهبوط إلى الأرض في الثانية، والدخول في الجنة في الأولى والخروج منها في الثانية، ثم بعد ذلك كله سير آخر من الأرض إلى الرب بتلقي كلمات الرب، وما هي تلك الكلمات؟وما هي توبة آدم؟وهكذا. وبالجملة: يظهر للعارف السالك أنه يجوز أن يكون هناك مقالة شخصية تكوينية بين الرب المطلق والوجود الإطلاقي، وأن هناك جنبتين: جنبة يلقى الحقي، وهو آدم وما معه المسمى بالزوج، الذي به يليق أن يتمكن من الأكل والحركة، وجنبة يلقى الخلقي، وهي الأرض وباطنها الشيطان، وقد تجاوز آدم من جنبته الثانية إلى الجنبة الأولى، فيكون متعديا وظالما مع أنه منهى عن تلك الشجرة التي هو الدرج والمصعد، وهو علم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام)، كما في بعض أخبارنا (2)، كما قال الله تعالى: (إنه كان ظلوما جهولا) (3) ظلوما بتعديه إلى ما لا ينبغي، وجهولا بترك الواسطة المعينة، وهو مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإزلال الشيطان - بإخراجهما مما كانا فيه من أرض البدن، وتعديهما بالقرب من الشجرة التي هي خارجة عن حد آدم وزوجه - أوجب أن يعدا متعديين وعدويين على الإطلاق وفي كافة المنازل والمراحل، فصارا لا يقين للأرض السفلى والبدن المنكوب، فأمرا أن يستقرا في الأرض، ويستقر معه كل شئ لحقه ويلحقه، ولكن مع ذلك فيه قوة العروج بعد النزول، بشرط تلقيه الكلمات الروحانية التكوينية العيسوية المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي الكلمات التكوينية الموجبة لحركته الإلهية الاستهلاكية لظلمه وخطئه وتمرده وسهوه، وكل ذلك لرجوعه إلى الصحو، وإلى الفناء الاختياري بعد المحو، فالإنسان - آدم الأول - فيه المعاجين المختلفة من الطاووس الجمالي الشهوي والشيطان الوهمي المنتهي إلى حب الجاه والمقام والحية المكارة والاشتهاء والأكل البهيمي الحيواني. فإلى كل هذه التراكيب قيل - مثلا -: (إهبطوا بعضكم لبعض عدو) بالضرورة، و (إهبطوا منها جميعا) لا ثلاثة دون أربعة أو أربعة دون خمسة، بل كل ذلك بالعام المجموعي يجب عليه بالوجوب الخارجي التكويني الظلي أن يهبط إلى مرحلة الامتحان والفتنة، كي يعلم بعد ما يجئ، ويأتينكم هدى من قبل الذات الأحدية الإلهية الأسمائية، من يقتدي بهداه، ومن يتخلف عنه، كي يكونوا لاخوف عليهم ولا هم يحزنون في كافة المراتب والمراحل، وهكذا يكون على المتخلفين الفاسقين الغالب عليهم إحدى الأمور المتركب منها آدم - على حد الاستواء المستولي عليه العقل الكلي - أن يكونوا خالدين في النار ويعدون من الفجار الفساق الظالمين المتعدين حدودهم، والمتجاوزين قيودهم المحررة لهم حسب أسمائهم، والمقررة لهم بمقتضى رباتهم. والله هو الموفق المعين. خيرة خاتمة الكلام ونهاية العقل في المقام: أن من ملاحظة قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) (4) ومقايستها مع هذه الآيات الشريفة، يظهر للسالك الإلهي والعارف الرباني، أن هذا النهي عن مقاربة الشجرة فيه أمران ووجهان: وجه بقاء آدم في الخير المحض والنور الخالص والمظهرية التامة للأحدية الذاتية، ووجه مبدئيته للكثرة التكوينية الأسمائية في العالم الرباني ومبدئيته للفهم، للظهور الثاني بالنسبة إلى الخيرات والشرور والعورات والسوءات والأسرار المستحسنة والمستهجنة، ولذلك ورد في ذيل هذه الآية الأولى: (فتكونا من الظالمين)، وفي ذيل تلك الآية: (إنه كان ظلوما جهولا).


1- راجع التوحيد: 356 / 3، وبحار الأنوار 5: 157 / 10.

2- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 221 / 103.

3- الأحزاب (33): 72.

4- الأحزاب (33): 72.