بعض المسائل العقلية والبحوث الفلسفية

البحث الأول: المراد بالجنة في قصة آدم (عليه السلام) مقتضى المعروف من ذهاب آدم المسجود له إلى السماء، بعد كونه في الأرض، أو إلى الجنة التي وعد المتقون، لأن جميع الأدلة الناهضة على أنها غير تلك الجنة (1) مغشوشة، وقياس بين الجنة الجزائية والجنة الإسكانية، وهما واحدة خارجا، ومختلفة بحسب أحكام الواردين فيها. وبالجملة: مقتضى ذلك جواز رجوع الجسم المادي بماديته إلى الأفلاك، فيلزم الخرق والالتئام حسب النظر الأول، ويلزم كون تلك الجنة مادية، فيكون البرزخ والقيامة ماديين في عرض هذا العالم، لا في طوله، وهذا خلاف الموازين العقلية القطعية، القائمة على أن البرزخ في طول هذا العالم في قوسي الصعود والنزول، والقيامة في طوله أيضا، ولا عود إلى عالم المادة، وليس العالم الإلهي عالما ماديا كما ليست الجنة إلا محطا خاليا عن أحكام المادة والمدة، وما هو خال عنها خال عنهما بالضرورة لما لا جزاف. وتفصيل البراهين يطلب عن محاله. وبالضرورة لو كانت هي مادية، فلابد أن يكون بينها وبين الماديات نوع نسبة مقولية، ويكون في موضع من هذا العالم قريبا أو بعيدا، والكل غير صحيح، وربما يقتضي بعض الآيات هذا المسلك المعروف بين جمع، وقد سكت المحصلون المفسرون عن الغور في أمثال هذه البحوث الربانية الإلهية، نظرا إلى قصور بالهم وقلة اطلاعهم. وهذا أحسن من ذاك. أقول: كل هذه الأمور شواهد ومؤيدات لما سلكناه من أن آدم المسجود له وصفي الله علم جنس، وهو آدم الكلي السعي في وجه، ونفس طينة آدم في وجه آخر. وقد علمت أنه تعالى أراد جعل الخليفة في الأرض، وقد خلق ذلك فيها من تراب وطين وماء، وهذه الأمور كلها في الأرض، فليس مخلوقا ابتداء في العوالم الغيبية، ولا خرج بعد ما كان مجعولا للخلافة في الأرض إلى تلك العوالم، بل هو حيوان وطينة مشتملة على جهات شتى روحانية صرفة، ووهمية شيطانية محضة. ولا دلالة في هذه الآيات، ولا في آيات سورة طه، ولا سورة الأعراف الآتية - إن شاء الله تعالى - على عروجه إلى السماء، كي يلزم ما لزم، مع أن حديث الخرق والالتئام من أباطيل الأسلاف، بل الآيات ظاهرة في أنه بعد ما خلق أمر بالسكنى في جنة الأرض، لا السماء ولاغيرها، والتمسك بألفاظ الهبوط، وقوله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر) في غير محله، كما مر مرارا، وهكذا التمسك ببعض الألفاظ في سائر السور، ضرورة أن الحقائق العلمية الحكمية لا تنقص من الإطلاقات العرفية، فتلك الجنة من جنات الأرض إلا أنها لمثل آدم المجرد عن جميع الشهوات، البالغ إلى حد المسجود لملائكة السماوات، جنة لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وأما بعد ما مال إلى الجهات الوهمية والنفسانية، تصير تلك الجنة جنة محكومة على خلاف تلك الأحكام، ولكن ليس له ذلك، ولذلك ترى أنه تعالى يقول: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) أي من الخاصة والمنزلة، ولذلك قال في سورة طه: (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) (2)، فيعلم لمكان الفاء وقوله تعالى: (من ورق الجنة) أن هذه الجنة عين الجنة التي كان آدم فيها قبل الإغواء والعصيان، وليس خروجهما من الجنة بحسب المكان، وهكذا قوله تعالى: (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما...) (3) إلى آخرها، فالأمر - بحمد الله - صار واضحا كالشمس في رائعة النهار، وصار العقل والكتاب متناصرين بعد ما كان الكل واحدا بالضرورة.

البحث الثاني: حول دلالة الآيات على الجزاف لا شبهة في أن الجزاف غير جائز عند أبناء التحقيق وأصحاب الفلسفة العليا، خلافا لبعضهم معتقدين أن الأمر كله لله تعالى، وهذه الآيات في قصة آدم تشير - أحيانا - أو ترمز إلى ما تخيلوه، ضرورة أن الجنة بعد ما كانت جنة الأرض، وآدم كان مع زوجه من الأرض، فلابد وأن يكون أكل أشيائها من غير تلك الشجر، مثل الشجرة في حديث الظلم المذكور هنا، وفي حديث إبداء سوآتهما في السور الاخر، فإن الأكل يستتبع التبعات المذكورة على الإطلاق، ولا جزاف في أن يريد الله انتفاء تلك التبعات في زمان خاص بلا جهة مرجحة بالنسبة إلى فرد دون الأزمنة الأخرى والأفراد الآخرين. أقول: إن قلنا بأن آدم في هذه الآيات، هي طينة آدم والكينونة السابقة، التي هي مشترك فيها جميع الأشياء، ويكون الزوج المرتبة الأخرى من تلك الطينة، التي بزواجهما تحصل المراتب الاخر والأوصاف الكلية الوهمية والغضبية والبهيمية، فلا إشكال، لأن الشجرة طبعا تكون شجرة ملعونة في القرآن، أصلها في الجحيم، وطلعها كأنه رؤوس الشياطين، فيكون الشجرة في الكتاب الإلهي اصطلاحا عند الإطلاق للشجرة المذكورة، ويكون الأكل والذوق والقرب والأكل الراغد على الإطلاق - وهكذا كله - إشعارا بمسائل عرفانية إيمانية وكمالات عقلية إيمانية، فإن ضيق اللغة أوجب هذه الاستعارات والمجازات، ولعل هذا هو معنى المتشابهات القرآنية - كما يأتي إن شاء الله تعالى - ومر في موضع: أن المتشابهات اصطلاح لتشبيهات الأمور العقلية بالحسية، فلا جزاف - عندئذ - بالضرورة. أو نقول: إن المراد من " آدم " هو الفرد الأول الموجود في الأرض، الآتي أحيانا من السماوات الاخر، كما ترى في هذه الأيام ذهاب " آدم " إلى السماوات العلى، أو مطلق أفراد الإنسان، إلا أن تلك الشجرة هي الشجرة التي تنتهي إلى الظلم وإبداء السوأة، فلا تكون من الشجرات المتعارفة، بل هي شجرة لها خاصية طبيعية توجب الظلم وغيره، وينتهي القرب منها إلى ما ترى في الآيات. فلا وجه لتوهم أن ما هو المأكول رغدا هي الأشياء الاخر من النباتات والفواكه، وتلك الشجرة هي شجرة الحنطة أو أمثالها، بل هي شجرة خاصة مادية، كانت في تلك الأزمنة، وتستتبع السكر وعدم الانضباط، المنتهى إلى الخروج والإزلال والإغواء الكلي، بعد الإغواء الحاصل من وسوسة الشيطان. وبالجملة: مقتضى ما يظهر للحكيم الإلهي أن قصة آدم ليست قصة أسطورية ولا جزافية، بل هي - حسب الأظهر - قصة خلق آدم بحسب النشآت والمراحل المعنوية، وأن الشيطان كما لا يكون - حسب ما يظهر من الكتاب الإلهي - إلا شيطان نفس آدم وسوسته ووهمه، كذلك سائر الأمور التي ترى في الآيات المذكورة، فإنها ترمز إلى وحدة بدوية، وهي الطينة، وكثرة ختمية، وهي أفرادها، ولذلك قال الله تعالى: (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) ثم قال تعالى في نفس هذه القصة: (فإما يأتينكم مني هدى)، كما هو كذلك في الآيات من السور الاخر، فلتراجع. ولو لم تكن الحاجة في فعله تعالى إلى مرجح لما تمس حاجة إلى تلقي آدم كلمات أولا فتاب عليه ثانيا. وأما الشيطان فأنت ترى أنه تعالى يقول: (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان) (4)، مع أنه كان عمل موسى، لأنه وكزه وقضى عليه، وقوله تعالى: (شياطين الإنس والجن) (5) وقوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم) (6) وغير ذلك، فإطلاق الشيطان على أفراد الإنسان والجان، لأجل ما فيهم من الشيطنة والوسوسة. وأما الزوج المذكور في الكتاب الموجب لكون آدم أيضا زوجا له، فهو القرين الذي بزواجهما تحصل الملكات الاخر، وبنكاحهما يحصل الوسوسة إذا كان تقاربهما على خلاف الموازين، بأن تؤثر الزوج في آدم، لا العكس، ولا بالتعاكس والتعادل، فإن أثر العقل " آدم " في النفس " حواء " أو تبادلا في الأثر فسيكون الثمر حسنا، وأما إذا غلبت حواء محضا على آدم فهي غلبة الوهم والشيطان. ولا يظهر للحكيم الإلهي خلقة آدم من غير آدم آخر، نظرا إلى ذهابهم إلى أرباب الأنواع المتكفلة بالأفراد النازلة المادية في المادة وفي موضع من العالم. ولا يظهر له أيضا: أن تكون حواء أيضا مخلوقا بدويا من الضلع الأيسر أو أمثال ذلك، ولو كانت المواد قابلة لحصول آدم من الطين من غير سبق ماء مسنون، فهي القابلية الباقية، ودعوى خلافها من الجزاف والمكابرة، وليس في كل ذلك تحديد قدرته تعالى، بل هو توسيع حكمته جل اسمه وعلا مكانه، وهكذا سائر الأمور التي ترى في قصة آدم، فآدم إما كلي وطينة وامتزاج روحي وتزويج ادعائي، أو هو كل فرد من أفراد الإنسان مع زوجته، فيكون في كل آن خطاب إلى كل شخص مع زوجته، فمن يقرأ القرآن يجد يقول له تعالى. يا آدم، أي يا مصطفى بن روح الله بن مصطفى بن أحمد الهندي الخميني القمي النجفي: أسكن أنت وزوجك الجنة، وهي الأرض بما فيها من الجنات، لا تقربا هذه الشجرة الملعونة، الراجعة إلى الوهم والشيطان الكلي والوهم السعي العالمي، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة المتشعبة المتفرقة، فتفرق بكم السبل وتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان وخرجا عن زيهما وعن حد الطينة والمنزلة الإنسانية، فيناسب الإهباط عن ذلك المقام، وهذا الإهباط حاصل بقدرته تعالى بعد التجاوز عن القانون المذكور، وليس الأمر إلا بيانا للواقعة، وقلنا: إذا اهبطوا منها جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فلو كان آدم المذكور نبي الله فلا يناسب هذه الأمور في حقه وشأنه، أو كان واحدا شخصيا فأيضا لا مناسبة ولا موافقة ولا انسجام بين الآيات.

وهم ودفع

ربما يقال: لو كان المراد فرضا من الزوجة أمرا غير مادي وجسماني، فلابد وأن يكون هو النفس، مع أن الشيطان الذي أزلهما غير تلك النفس بالضرورة، فلابد هناك من جهة عقلانية ونفسانية وشيطانية. أقول: النفس مرتبة من وجود آدم، فإن كان تحت أمره وسلطانه فهو الزوج، وإذا تمرد ووسوس فهي الشيطنة، ولذلك ترى أن زوجتك تارة تكون معك في مصالحك، واخرى تكون شيطانك، وتعبر عنها بالشيطان، فللنفس حالة تسخيرية وطغيانية. وتلك الشجرة مثال الشيطان أو شجرة خاصة تنتهي إلى إبداء ما ووري عنهما من السوء والفساد الداخلي المخفي عليهما. ولنعم ما قاله العارف الرومي: نفس ا?درهاست أو كي مرده است * از غم بي آلتى افسرده است (7) والله هو الموفق المؤيد.

الوجه الثالث: دلالة الآيات على الكينونة السابقة للإنسان أن المستفاد من مجموع هذه الآيات الخمس، ومن تلك الخمسة الطيبة - صدرا وذيلا - أن الأشياء السابقة الزمانية التي لها سمة الأبوة، مشتملة على جميع الأبناء المتأخرة، فتنتقل الأبناء في الأصلاب، وترى تقلبهم في الساجدين وتقلبك في السجود. وهذا دليل على أن الكينونة السابقة الزمانية زائدة على الكينونة الكلية السعية وعلى الكينونة السابقة الأسمائية، ومن قوله تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى) يستنبط وجودهم العقلاني، فيكون دليلا على أن النفوس ليست جسمانية الحدوث، خلافا للبراهين العقلية (8) والضرورة الوجدانية، وقد عرفت أن الهبوط ليس معناه الهبوط السماوي أو الروحاني الإلهي - بل في الكتاب الإلهي كثيرا استعمال هذه اللفظة في النقل المكاني: (وإن منها لما يهبط من خشية الله) (9)، وقال: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا) (10)، وقال: (إهبطوا مصرا) (11) كي يقال: إن هذه الآيات ناظرة إلى الأشخاص المعينين، وقوله تعالى: (فإما يأتينكم) التفات من الخطاب الخاص إلى العام، وهو أيضا جائز، بل قوله تعالى في هذا الموقف: (والذين كفروا وكذبوا) يشعر بأن الذين كفروا في عالم آخر، فتدبر. أقول: قد عرفت أن الأرض بلا شبهة، كانت غير مسكونة في بدو الخلق، ثم صارت مسكونة، وحديث خلقة الأشياء وجعلها فيها، كان تدريجيا من القلة إلى الكثرة - الفردية والنوعية - وأن الكتاب السماوي كتاب الهداية والإرشاد. وعلى هذا فلا بأس بكونه خطابا إلى تلك القلة، ليتوجه المتأخر إلى ما هو أساس التشريع وأساس تبعاته من العقوبة، فالمنظور كلي ذهني، والخطاب خاص عيني، من غير حاجة إلى كونه خطابا إلى تلك الذرات بحسب الأول، وبلحاظ أن المستقبل المتحقق الوقوع بمنزلة الماضي، أو إلى اجتماعها شاعرة في عالم الذر. مع أن مقتضى ما يأتي في بعض المباحث العرفانية: أن جميع الأشياء حية، ولا جامد ولا ميت، وعندئذ لا يلزم أن تكون النفوس غير جسمانية الحدوث، لحركة تلك الأشياء والحيوانات الحية الذرية إلى أن صارت مجردة بتجرد أقوى، وهو النفس الإنسانية والعقل الكلي.


1- راجع التفسير الكبير 3: 3.

2- طه (20): 121.

3- الأعراف (7): 22.

4- القصص (28): 15.

5- الأنعام (6): 112.

6- محمد (47): 25.

7- راجع مثنوى معنوى، دفتر سوم، بيت 1053.

8- راجع الأسفار 8: 325 - 380، والشواهد الربوبية: 221 - 224، والمبدأ والمعاد: 223.

9- البقرة (2): 74.

10- هود (11): 48.

11- البقرة (2): 61.