بعض البحوث الكلامية

البحث الأول: وقوع التكليف في الجنة يستدل بقوله تعالى: (أسكن أنت وزوجك الجنة) على جواز التكليف في الجنة، خلافا للمشهور القائلين: بأن التكليف ممنوع فيها ولا معنى له، كما يستدل بقوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة) على ذلك، وهكذا قوله تعالى: (كلا منها رغدا)، وقوله تعالى: (إهبطوا بعضكم لبعض عدو)، وقوله تعالى: (إهبطوا منها جميعا)، وأيضا يستدل بها على جواز الخروج منها، خلافا للقائلين بأن الجنة دار الخلود. أقول: الجنة التي يجوز أن يدخل فيها الشيطان، أو يتمكن من التصرف فيها بالإزلال، يجوز فيها كل ذلك، والجنة التي تحصل فيها العداوة، وتستجاب فيها التوبة، تستعد لجميع هذه الأمور. وما هو الحق: أن الله تعالى أراد أن يجعل في الأرض خليفة، وجعل فيها ذلك الخليفة المسجود للملائكة فيها، وقد تمرد إبليس عن ذلك، فتلك الجنة غير الجنة التي وعد المتقون، كما عليه الإجماع والسنة، وفي نفس هذه الآيات شواهد واضحة، ولا تكون الجنة موضوعة لدار السلام والخلد مطلقا، وإنما ينصرف إليها عند وجود القرائن، وتكفي هذه المذكورات لكونها غير تلك الجنة، وأما الخلاف في موضع هذه الجنة، فهو موكول إلى بعض بحوث اخر إن شاء الله تعالى. نعم ربما يستشم من كلمة " الهبوط " أولا، ومن كلمة (ولكم في الأرض مستقر) بعد تلك الأوامر والنهي، أن هناك موضعا غير الأرض، فيلزم نحو تناقض بين ما أراده الله تعالى أولا، ثم الدستور بدخول الجنة التي هي غير الأرض. وفيه: أن كلمة " الهبوط " أعم من الهبوط من السماء، نحو قوله تعالى: (إهبطوا مصرا) (1) هذا، مع أن قوله تعالى: (وقلنا يا آدم أسكن أنت...) - بعد ما جعل في الأرض خليفة - ظاهر في أن تلك الجنة موضع مرفوع ومن المرتفعات الخضراء، وإلا كان ينبغي أن يقال: " ارتفع أنت " وأمثال ذلك، وإطلاق الأرض على ما وراء موضع خاص من الأرض جائز، بعد وجود القرائن المذكورة، مع أن جنة البرزخ ليست جنة مادية، كما يأتي تحقيقه. ولا محل لهذه البحوث عند أهل التحقيق والفلسفة والحكمة، وعند أصحاب المحافل والشهود والإيمان والعرفان. والله خير موفق. ومن هذا التقريب يتبين فساد اختلاف القشريين في الهبوط والهبوط الأول والثاني، المذكور في كتب التفسير. وقد مر بعض الكلام حول الشيطان والوسوسة وإبليس، وأن وجود هذه العناوين - كوجود الأوصاف الكلية وشياطين الجن والإنس - من شواهد هذه القضية، كما أن ظواهر هذه الآيات تدل على وجود إبليس في الجنة. فعلى هذا يظهر فساد الخلاف الآخر المذكور في التفاسير كثيرا، وكل ذلك لأجل تدخلهم في مسائل هم ليسوا أهلا لها، وليأتوا البيوت من أبوابها. والله الهادي.

البحث الثاني: حول عصمة الأنبياء اختلفوا في عصمة الأنبياء: فذهب جمع إليها على الإطلاق، ولعل ظاهر جماعة منا - شيعة أهل البيت - هو ذلك (2). وقال آخرون بعدم الاشتراط إلا بعد النبوة والرسالة (3). والثالث: هي العصمة عن الزلل في الرسالة والتبليغ (4). وربما يقال بعدم دلالة من العقل على أحد هذه الأمور، وإنما اختاره الله تعالى لكونه أقل خطأ وزللا من الآخرين. وقيل: لا يضر عدم العصمة إذا تعقبه الندامة، فالخطاء العمدي يضر دون السهوي وعن غفلة (5). وغيرها من المحتملات والأقوال. وربما يستدل بقصة آدم على عدم اشتراط العصمة في الأنبياء، ولا سيما في بعض الآيات الاخر المذكورة في سورة طه (6)، وهكذا بمثلها فيما نحن فيه. وقيل: إن عصيان آدم وغيه وإزلال الشيطان إياه قبل النبوة (7). وقيل: إنه يكفي كونه في معرض التوبة المقبولة، وآدم منهم. والذي هو التحقيق: أن النظر في هذه الآيات خصوصا، يفيد أن آدم - كما عرفت - بحكم الإنسان، ويكون صفوة الله وصفيه، وهو ليس واحدا شخصيا، كما أن إبليس والشيطان بصفته الكلية السعية، وقد قال الله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)، مع أن عيسى (عليه السلام) كان في بطن مريم (عليها السلام) متحركا نحو الكمال، من الطفولية إلى الكبر، فآدم أيضا كذلك، وإن كل آدم مثله، وقد مر ما يتعلق بكلمة " آدم " بحسب اللغة والوضع، فلا يستفاد من هذه الآيات أن آدم كان نبيا من الأنبياء وواحدا شخصيا في مسألة سجود الملائكة وعصيان إبليس، وإنما يختلف أحيانا إطلاقه على الواحد الشخصي بما هو إنسان من الأناسي، أو طينة، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، في قبال طينة أخرى مقرونة معه، وهي طينة الشيطنة والإبليسية، فذهاب الشيعة إلى العصمة المطلقة لا ينافي هذه الآيات في خصوص آدم، وذهاب المعتزلة إلى العصمة بعد البلوغ (8) جزاف، لأنه لا معنى للعصمة والعدالة الكلية بمجرد وصول سن البلوغ، بعد وجود مبادئ العصيان في وجوده قبله آنا ما. ومن اللطيف ذهاب الأشعري إلى اعتبار العصمة بعد النبوة (9)، مع أنه ينكر الاختيار والإرادة، فيلزم الجزاف في المبدأ الأعلى، فيحكم العقل لا يعتبر أزيد من كونه في جماعة المنزل عليهم أقل سهوا وخطاء وعصيانا، نظرا إلى لزوم التبليغ إذا قلنا: بأن النبوة والرسالة من جانب الله من غير اشتراط الاستعداد الخاص. وأما بعد ما عرفت من اشتراط قابلية المحل والإمكان الاستعدادي لذلك، فربما لا يحصل الاتصال بالغيب برؤية الملائكة والملك الأعظم، إلا بعد ما كان معصوما في الأرحام الطاهرة والأصلاب الشامخة، فلا تغفل، وقد قال الله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (10)، ومقتضى الإطلاق أنه لو كان ظالما في عصر أو مصر، ماض أو مستقبل أو حال، أو في آن، فهو خارج عن تحمل عهد النبوة والخلافة والرسالة. وهذه الآيات شواهد على ما أبدعناه: من أن قصة آدم ليست قصة شخصية وقصة نبي أو رسول مرسل، فليتأمل جيدا. وغير خفي: أن ما نذكره في المقام مربوط بآيات سورة البقرة، وربما يجوز استفادة المعنى الآخر من الآيات الواردة في السور الاخر، أو بانضمام الآيات بعضها إلى بعض، فإنما نحن في توجيه القارئين الكرام نحو التدقيقات في كل بحث، حسب ما يقتضي ذلك البحث، فقها أو كلاما أو حكمة أو فلسفة أو عرفانا، وإنما نحن أتباع أهل البيت في المسائل كلها، فإن أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - أعلم بما في البيت بالضرورة. وبالجملة: تحصل أن جميع بحوث أرباب التفسير هنا في غير محله، فانتظروا حتى حين.

الوجه الثالث: حول جواز الأمر بالقبيح في جواز أمره تعالى بالقبيح وعدمه كلام: فمن قائل: إن الأمر يشهد على أنه ليس بقبيح واقعا وإن كان قبيحا بحسب الفهم البسيط. ومن قائل: إنه مالك كل شئ، فله كل شئ. والحق امتناعه. وربما يستدل على الجواز بقوله تعالى: (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) فإن الظاهر أن اللازم هو الهبوط المقيد بكون بعضهم عدوا لبعض آخر، وإلا فما كان آدم بالنسبة إلى زوجه عدوا، ولا بالقياس إلى الشيطان حسب هذه الآيات، وإنما كان الشيطان عدوهما، أو كان الشيطان يعتقد ذلك، من غير أن يكون صاحب نظر سوء (11). ويحتمل أن يكون معنى الآية: أن الأمر بالهبوط أمر تكوين، لا تشريع، كي يبحث عن كونه تحريما أو تنزيها، فيسقط بحوث المفسرين كلا، وقوله تعالى: (بعضكم لبعض عدو)، أيضا إبداء لهذه الجهة، نظرا إلى المصالح الكلية النوعية، فلا يكون إخبارا، بل بنفس قوله تعالى: (بعضكم لبعض عدو) صار بعضهم عدوا للآخر، فلا تكون أوامر الله تعالى في هذه المسائل إلا كلمح بالبصر أو هو أقرب. فبالجملة: لا يعقل صدور القبيح منه تعالى، لأنه ظلم، ويمتنع الظلم عليه، حسب ما تحرر في محله، وأما احتمال كون المخاطب طبيعي آدم فهو الحق في المقام ظاهرا، فلامنع من خطاب الجمع، ولا يكون جملة (بعضكم لبعض) قيدا، بل في موقف إظهار التعليل، ويسقط كثير من بحوث القشريين. واحتمال كون المراد ذرية آدم الآتية في الأزمنة الموجودة في عالم الذر، وإن كان ممكنا، ولكنه خلاف ظاهر الآيات جدا.

البحث الرابع: دلالة الآيات على الاختيار لا يجوز لأحد أن ينكر دلالة هذه الآيات الخمسة الطيبة على وجود الاختيار والإرادة والقدرة، ودخالة الأشياء بعضها في حصول بعض، وشرطية شئ لشئ، فإنها بأجمعها صريحة في صحة الأمر والنهي والسؤال والمؤاخذة والعقاب والثواب، وأن الهداية والكفر من الإنسان وآدم بالإرادة والاختيار والتفكر والتدبر، وأن الإزلال من المختار المسمى بالشيطان وجه وسبب للخروج، فيكون هناك قانون العلية والمعلولية، فمن ذهب من الأشاعرة إلى تلك الأباطيل فهو خلاف هذه الظواهر جدا، بعد فساد دليلهم العقلي وحجتهم الداحضة، ومن ذهب إلى أن الكفر والإيمان من الله بلا سبب، فأيضا باطل، فإن النسبة إلى الكفار والمؤمنين في الآيتين: وهما قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا) وقوله تعالى: (فمن تبع هداي). اللهم إلا أن يقال: إن المراد من قوله تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى) هو الإيمان القلبي، وفى مقابله من لا يأتيه الهدى، وهو الكفر، والمراد من الاتباع هو التبعية لذلك النور في الأعمال والأفعال، فلا منع من القول بأن الكفر والإيمان مخلوقان لله تعالى. وفيه: أن قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا) ظاهر في أن الكفر أمر يوجب التكذيب، فليس هو نفس عدم الاهتداء وعدم إتيان الهدى إياه بالضرورة، فهذه الآية قرينة على أن قوله تعالى: (فمن تبع هداي) أعم من الاتباع القلبي والقالبي والذهني والعيني.


1- البقرة (2): 61.

2- راجع كشف المراد: 349، والتفسير الكبير 3: 7.

3- راجع شرح المواقف 8: 265.

4- التفسير الكبير 3: 7، البحر المحيط 1: 161.

5- كشف المراد: 349، التفسير الكبير 3: 7.

6- راجع طه (20): 121.

7- التفسير الكبير 3: 12، شرح المواقف 8: 269.

8- التفسير الكبير 3: 7، البحر المحيط 1: 162.

9- التفسير الكبير 3: 7، شرح المواقف 8: 265.

10- البقرة (2): 124.

11- انظر التفسير الكبير 3: 17.