بعض البحوث الفقهية

البحث الأول: حول حرمة العداوة يستظهر من قوله تعالى: (بعضكم لبعض عدو) أن العداوة ممنوعة تشريعا شرعا ومنهي عنها ومبغوضة جدا إلا بالدليل. اللهم إلا أن يقال: إن الآية الشريفة حكاية عن العداوة الخارجية التي وجدت بنفس قوله تعالى: (بعضكم لبعض عدو)، بمعنى أنه لم تكن عداوة حسب الفطرة، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم تكونت تلك العداوة لمصالح شتى غير خفية على ذوي الألباب، فلا تدل الآية - على هذا - على مبغوضية العداوة. نعم تجوز دعوى أنه يمكن الجمع بين كون العداوة مرادة تكوينيا وبين كونها منهيا عنها تشريعا، وقصة الجبر وكيفية الجمع بين الإرادة التكوينية والتشريعية المتخالفة موكولة إلى محله وأهله، وقد تحررت في هذا السفر الصغير والكتاب القصير رشحة من هذه المسألة، وتفصيلها بمبادئها يطلب من " القواعد الحكمية " التي حررناها في البحوث العقلية والمسائل الفلسفية.

البحث الثاني: إباحة المكان الكلية يستفاد أحيانا من قوله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (1) إباحة المكان الكلي والاستمتاع. ويمكن دعوى: دلالة الآية على ممنوعية تلك الإباحة، لمكان التنوين الداخل على قوله تعالى: (مستقر ومتاع) حيث يفيد المهملة التي في حكم الجزئية. ودعوى اختصاص الإباحة الخاصة بآدم وزوجه والشيطان غير ظاهرة، لما عرفت أن الآية الآتية: (اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى...) إلى آخره دليل على أن المخاطب غير محصور بجماعة خاصة، وهكذا قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا...) إلى آخره، فإن هذه الآيات مرتبطة بعضها مع بعض، كما عرفت في بعض البحوث السالفة. ثم إن استدلال جمع من المفسرين للإباحة الكلية بالآية الأولى (2) من هذه الآيات، واستفادة التوسعة مكانا وأكلا، مبني على إلغاء الخصوصية، وهو غير تام، لكونه يشبه القياس بالمقام.

البحث الثالث: حرمة الموجبات للظلم اختلفوا في الشجرة - كما يأتي في ذيل المباحث الآتية - والذي يظهر للمتدبر ويتبين للمتفكر: أن كل شجرة يدرك أن التقرب إليها يوجب الظلم الممنوع - عقلا، والواضح عرفا وشرعا وعند العقلاء ولدى العقول الفطرية - تكون تلك الشجرة منهيا عنها. فما في كتب جمع من أصحاب التفسير من تعيين الشجرة الخاصة، أو في مثل كتاب الفخر: أنه لا حاجة إلى تعيينها (3)، غير جيد، بل قوله تعالى: (فتكونا من الظالمين) يعين تلك الشجرة الخبيثة، ضرورة أن الشجرة المباحة - ظاهرا - شرعا لا توجب الظلم، وكل ما يستتبع الظلم ممنوع، سواء كان مبغوضا مادة وذاتا أو عنوانا ذاتيا أو عرضيا وثانويا، فالشجرة المغصوبة هي المنهي عنها، لعموم التعليل، فإنه يستفاد من قوله تعالى: (فتكونا من الظالمين) أن الظلم ممنوع عنده تعالى، ويوجب صحة العقوبة عليه، سواء كان ظلما كالغصب والقتل والجرح بلا حق، أو كان تجاوزا بالنسبة إلى حقوق البشر والحكومة الإسلامية، وغير ذلك مما يدرك العقل أنه ظلم، وهذا لا يرجع إلى أن الظلم بعنوانه الذاتي محرم كي يقال بامتناعه - كما حررناه في الأصول - بل يرجع إلى استفادة جواز العقوبة على ما يدرك العقل أنه ظلم، وربما يشهد لما ذكرناه ظهور الفاء في التفريع دون التعليل، مع أن المحرر عندنا في موارد التعليل: أنه لا يعقل أن يصير عنوان العلة محرما، فإذا قيل: لا تشرب الخمر لأنه مسكر، يكون التعليل دليلا على أن الفقاع مثله محرم، لأنه مسكر، ولا يرجع إلى أن عنوان المسكر محرم، فاغتنم. وبالجملة: تبين شرعا أنه لا يختص النهي بالشجر الخاص كي يختلفوا فيه، ولا بأصل الشجرة، بل النهي يعم جميع الموجبات للظلم وكافة المنتهيات إلى التجاوز، بل النهي يشمل عموم ما يورث الأمر القبيح الذي منه الظلم، فإنه ممنوع، لكونه قبيحا، فما هو التعليل في الحقيقة هو قبح الظلم، فليتدبر جيدا. إن قلت: تشخيص ما يوجب الظلم عما لا يوجب، خارج عن قدرة الإنسان، فالشجرة المنهي عنها شجرة خاصة، ويدل عليه قوله تعالى: (هذه الشجرة) بصورة الإشارة، فاختلافهم في محله، وعدم تعرض الكتاب الإلهي لتعيينها، لأن القصة غير لازم أن تكون جامعة لجميع مزاياها، ولا سيما ما لا مدخلية له في روح القصة وبنيان القضية. قلت: اختلفوا في أن النهي تحريم شرعي، أو إرشاد عقلي، بعد الاتفاق على أن المنهي عنه ليس التقرب من الشجرة، بل هو كناية عن الاستفادة منها أكلا، كما في بعض رواياتنا عن الباقر (عليه السلام) (4)، أو عن مطلق الانتفاع، وإنما الأكل أثر واضح، فذكر في الرواية. والذي هو الظاهر: أن النهي ليس تحريما إلهيا وتشريعيا، لكونه معللا بقوله تعالى: (فتكونا من الظالمين) في هذه الآية، وفي سورة طه: (إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) (5). أقول: اختلافهم في خصوص تلك الشجرة أمر، والمستفاد من الآية الشريفة أمر آخر، فإن أريد من الخلاف حصر المفاد فيه فهو خبط وغلط، وإن أريد به فهم مسألة خارجية تأريخية فلا بأس، والضرورة قاضية بأن القوة المدركة قاصرة عن فهم جميع موجبات الظلم، ولذلك يحتاج البشر إلى العقل الحادي عشر، وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والرسول المنذر والمبشر، إلا أن جمعا من المسائل مورد الإدراك التعقل الفطري، حتى قيل: الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية (6). فعلى هذا يتبين: أنه يجوز دعوى أن النهي تحريم بالنسبة إلى خصوص شجرة، والتعليل يورث عموم التحريم، لما مر من عدم تجاوز النهي من محطه إلى محط آخر، وهو الظلم أو القبيح، ولا يشهد على الإرشاد شئ مما ذكر، كما أن كونه كناية عن الأكل قابل للمنع لولا الرواية الصريحة، لأن التقرب إلى الشجرة ربما يحرك إلى المبغوض الذاتي، فيصير قابلا للتحريم النفسي، مع أن في التقرب ربما يكون الانتفاع من ظل الشجرة، وهو غير مطلوب، فليلاحظ.

تنبيه

حول كون حرمة الظلم نفسية أو تبعية ربما يستظهر من فاء (فأزلهما) أن المبغوض واللا مطلوب للمولى العزيز الكريم ليس الظلم بما هو هو، بل هو مبغوض لرجوعه إلى الإزلال، لظهور هذا الفاء أيضا في التفريع والتعليل، دون العطف كما قد يتوهم، بل يستفاد من فاء (فأخرجهما مما كانا فيه) وهي السعادة، أن جميع هذه الأمور مبغوضة بالعرض، لانتهائها إلى الإخلال بالمحبوب الذاتي والواجب الفقهي، وهو الحفاظ على السعادة، فلو كان الظلم في الأول منتهيا إلى الإزلال، وهو أيضا من الظلم بالنفس، مع تجويز تدخل الشيطان في شؤون خليفة الله وصفوة الإله، ببسط يده وتسليطه على ما لا ينبغي، والإزلال المذكور ينتهي إلى الخروج عن السعادة، وهو الظلم الثالث المعانق أيضا لبسط يد الشيطان، وهو عدو الله وعدو خليفته، ولكن كل ذلك مورد سخطه تعالى وغضبه، للزوم الإخلال، بما هو المطلوب الأصلي، وهو سعادة خليفته. فعلى هذا يشكل استفادة حرمة هذه الأمور تشريعا، وإنما ترشد الآية الشريفة إلى لزوم الاتصاف بالسعادة المنتهية إلى الجنة ودوامها، كي لا يخرج منها بالإزلال المسبب عن الظلم، المسبب عن التخلف عن النهي، بارتكاب الأكل والانتفاع من الشجرة المنهي عنها، الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

البحث الرابع: عدم دلالة الآية على السكنى المصطلح وأمثالها القرطبي (7) وبعض آخر دخل في بحوث السكنى والرقبى والعمري، وأشباه ذلك مما يرجع إليها، غافلين عن أن الآية الشريفة أجنبية عن السكنى المصطلح عليه في الفقه، لعدم تحديد الإسكان بالمدة. هذا، مع أن كونه تعالى مالكا بالملكية الاعتبارية لشئ، زائدا على الملكية الحقيقية التكوينية، محل خلاف محرر عندنا في الفقه، لأن ملكيته التكوينية دائمة مقدمة على الاعتبارية، فكيف يعتبر له هذه الملكية، مع أن له سلب تلك الملكية لأجل الملكية الحاكمة الحقيقية ؟! فاغتنم.

البحث الخامس: حول كفاية الندامة في التوبة لا شبهة في وجوب التوبة، وإنما الشبهة في أنه يجب عقلا فقط، أو واجب شرعا. والمسألة مذكورة في محله (8)، وحيث إن الآية أجنبية عن هذه المسألة، فلا ندخل فيها. وإنما هناك خلاف آخر: وهو أن التوبة الواجبة - حسب ما تحرر في الكتب الفقهية، دون ما ينظر فيها الرجل الكلامي وعلم الكلام - هل هي نفس الندامة، بخلاف الاستغفار الواجب في الفقه أحيانا في موارد كثيرة في باب الكفارات، فإنه واجب وله الصيغة والألفاظ، ولابد من الإبراز، أم هي الندامة المقرونة بالألفاظ الدالة عليها، أو الألفاظ المبرزة لها؟وقد ذهب جل أصحابنا إلى كفاية الندامة النفسانية، وربما يستشم من قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) أن هناك ألفاظا تلقاها أولا آدم من ربه، فتعلمها، وما ذلك إلا لإبرازها وإظهارها، فإذا تشبث بها وتاب قبلت توبته، فيعلم منها وجوب الإبراز والإنشاء المقرون بالندامة القلبية كي تقبل التوبة. أقول: ويحتمل أن يكون التلقي لحصول قابلية آدم للتوبة، فإن قوله تعالى: (فتاب عليه) معناه: أنه تعالى تاب على آدم، فتلك الكلمات الملقاة على آدم وتلقاها آدم، دخيلة في إمكان توبته تعالى عليه، فالفيض الإلهي من الجواد على الإطلاق مشروط بحصول قابلية المحل، وهي مادة آدم بعد احتجابها بتلك الشجرة الملعونة، فلا دلالة للآية على وجوب التلفظ بألفاظ خاصة - مثلا - في التوبة الواجبة، وأما أن تلك الألفاظ ما هي؟فهو أيضا بحث خارج عن نطاق هذه المسألة كما لا يخفى. فما في الكتب التفسيرية: أنه سأل الله تعالى بتلك الكلمات، فتاب الله عليه بعد ذلك، غير صحيح. بل الظاهر دلالة الآية - لمكان كون الجملة في حكم الشرطية، ولمكان الفاء - على أن الإبراز بكلمة خاصة وجملة استغفارية، أو إبراز كلمة وجملة مشتملة على التوبة بالحمل الأولي، غير لازم، كما صرح به كثير من الفقهاء العظام - كثر الله أمثالهم - وإن ذهب بعضهم إلى خلاف ذلك، ولأجله احتاط العلامة اليزدي - رحمه الله - بضم الاستغفار إلى التوبة (9)، فليتأمل. وبالجملة: يتوجه - حسب النظر البدوي - أنه لأربط بين قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات)، وبين قوله تعالى: (فتاب عليه)، فإن مقتضى الفرعية والتفريع، وهكذا مقتضى الجزاء، وجود الربط الخاص بين ما قبل الفاء وما بعدها. وعندئذ يتوجه السؤال عن وجه تلقي آدم كلمات من الله - مثلا - ووجه توبته تعالى عليه؟وإذا نظرنا إلى الآية الشريفة نظر فقيه تابع للظواهر الكلامية، يلزم عدم دلالة الآية على وجوب الإبراز، ولا على عدم الوجوب، وإنما يلزم وجود شئ يسمى بالكلمات، سواء كانت قلبية، أو ذهنية وخارجية، وهنا بعض بحوث اخر خارجة عن نطاق الفقه، وستمر عليك إن شاء الله تعالى.


1- البقرة (2): 36.

2- راجع التفسير الكبير 3: 2.

3- راجع التفسير الكبير 3: 5 - 6.

4- راجع تفسير العياشي 1: 35 / 20.

5- طه (20): 117.

6- راجع كشف المراد: 348.

7- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 299.

8- راجع كشف المراد: 417 - 418، وشرح المقاصد 5: 165 - 166.

9- راجع العروة الوثقى، السيد اليزدي 1: 263، في أحكام الأموات.