وجوه البلاغة والمعاني

الوجه الأول: حول تكرار الصفة الواحدة بلفظها يخطر بالبال أن تكرار الصفة الواحدة بألفاظ وجمل مكررة خلاف البلاغة والإعجاز، مثلا: جملة (وإذ قلنا للملائكة) قد تكررت في سورة البقرة والأعراف (1) والإسراء (2) والكهف (3) وطه (4)، وجملة (يا آدم أسكن أنت...) (5) إلى آخره في سورة البقرة والأعراف (6)، وجملة (إهبطوا...) إلى آخره في سورة البقرة في مواضع، وجملة (بعضكم لبعض عدو...) إلى آخره في طه (7)، والبقرة (8) والأعراف (9)... وهكذا في كثير من القصص المشتركة في تكرر الألفاظ والجمل، وكان ينبغي ذكر القصة مرة واحدة من الابتداء إلى الانتهاء، كي لا يلزم تكرار الجمل، كما هو كذلك في قصة يوسف. نعم قد مر في وجوه إعجاز القرآن: تكرار القصة الواحدة بتراكيب مختلفة، كي يلتفت أهل الأدب والبلاغة إلى حدود عجزهم عن الإتيان بمثله، كما هو كذلك في كثير من مواضع تكرار قصة موسى وإبراهيم وغيرهما. وأما تكرار الجملة الواحدة فيوجب توهم عجز القرآن عن الإتيان بمثل تلك التراكيب في البلاغة والفصاحة، ولا يقاس ما نحن فيه بالتكرار المشاهد في سورة الرحمن والقيامة والفتح، فإن هناك تركيزا للمعنى المقصود، وتسجيلا لحقيقة روحية، كي لا تغفل ولا تسهى، ولا يكون من الناسين. أقول: لا يمكن إنكار انحصار بعض الألفاظ بالفصاحة الخاصة، وبعض التراكيب بالبلاغة المرغوب فيها، فعلى هذا إذا كان غرض القرآن تعجيز الناس بعجز واضح وبليغ وهو ينحصر بأن يكرر قصة رسول واحد على التراكيب المختلفة والألفاظ المتفاوتة، مع تكرار جمل منها، لعدم وجود أجمل منها وأبلغ وأفصح، فلابد من التكرار لحصول العجز عن الإتيان بمثله طبعا، وإلا فأول سؤال يتوجه إلى الإسلام: أنه لأية علة أرسل رسلا منهم من قصصنا عليك مرارا، ومنهم من لم نقصص عليك ولو مرة واحدة، وما ذلك إلا لأن مدعي البلاغة والفصاحة، يتوجه إلى حدود عجزه عن الإتيان بمثله، وأنه أتى بقصة واحدة مرارا، ولا يتمكن جميع الفصحاء والبلغاء عن الإتيان بمثلها مرة واحدة، فاغتنم جيدا.

الوجه الثاني: حول عدم الإتيان بكلمة " إذ " لم يأت بكلمة " إذ " في صدر هذه الآيات، إشعارا - حسب الاحتمال - بأن السنخية المعنوية قوية جدا بينها وبين الآية السابقة المصدرة بكلمة " إذ "، مع أن الترنم الخاص الموسيقي الثابت عند أهله لا يناسب هذه الكلمة.

الوجه الثالث: حول الإتيان بضمير الجمع في " قلنا " حيث أريد بالأمر آدم بقوله: (أسكن) وكان أمرا شخصيا، أفاد ذلك بقوله: (وقلنا) بصيغة الجمع وبالشأن، كي يلتفت أهل النظر إلى أن السنخية مفقودة بين الرب الواجب الوجود والمربوب الممكن، وإنما الحامل للقول الشؤون المتوسطة بينهما، من جبريل وغيره، وأنه كان يستمع هذه المقالة من الشجرة والجدران، كما سمع موسى (عليه السلام).

الوجه الرابع: في كيفية إلقاء الكلام إلى زوجه بالعطف فيكون هو مستقلا في الإدراك مثل آدم وعطفه عليه، فيكون فيه تعظيم بالنظر الأول وتفخيم، وفيه إشعار بتأخره الواقعي والطبيعي عن آدم، نهاية البلاغة واللطف، مع اشتراكهما بعد ذلك في الخطاب في صورة الحياة الاجتماعية، وأنهما بحسب التكليف الإيجابي والتحريمي مشتركان، من غير حاجة إلى دليل آخر في استفادة شركة النساء مع الرجال في التكاليف، كما قيل في الأصول والفقه على خلاف التحقيق، ومع اشتراكهما في تبعات الخطاب، وهو الخروج عن الحدود، والدخول في الظلم الذي باطنه جهنم ودركات البرازخ.

الوجه الخامس: حول إرجاع ضمير (منها رغدا) إلى الجنة إرجاع الضمير في قوله: (منها رغدا) إلى الجنة مع أنها لا تؤكل لا خلاف فيه من نظر، وتوسعة من جهة الأكل، ولا سيما مع تأكيدها بقوله: (رغدا) من جهة أخرى، وبالأخص بعد تنصيص الآية من جهة التوسعة المكانية بقوله: (حيث شئتما) مع أنه لا حاجة إلى هذه التذكرات من جهات شتى، بعد كفاية إطلاق الأمر الإباحي. وأما النهي عن التقرب فقد تعارف في الكتاب العظيم، مثل قوله تعالى: (لا تقربوا مال اليتيم) (10) وقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) (11)، وهذا فيه أيضا تأكيد بليغ، ويجوز حمل الأمر هنا على التعبد والإيجاب، لاستلزام التقرب أحيانا عصيان المولى، ولازمه تعدد العصيان لو تقرب من مال اليتيم وأكل، وهكذا في مشابهات المسألة. ويجوز أن يكون النهي عن التقرب، كناية عن التفكر عن كيفية الولوج في الخلاف وكيفية الاستعانة بالغير في الوصول إليه، ويكون نهيا كنائيا عن أنحاء الأمور الموجبة للعصيان، من التفكير الوحداني والاجتماعي، والاستعانة بالغير من الآلات والأناسي، وغير ذلك، وهذا هو الأقرب إلى البلاغة ووجوه المعاني الرادعة عن التحاقهما بالظالمين. والله هو المعين.

الوجه السادس: ترتب الظلم على العصيان في إتيان فاء " فتكونا " بعد النهي الإلزامي إشعار بأنه مترتب عليه بلا اختيار، وأن المناهي الإلهية تستتبع المفاسد الأخلاقية، بل وتصير الطينة محجوبة، بعد ما كانت (فطرت الله التي فطر الناس عليها) (12)، فقوله تعالى: (فتكونا من الظالمين) في نهاية البلاغة والفصاحة، بإشعاره بأن صيرورتهما من الظالمين قهرية وغير اختيارية، والإتيان بصيغة اسم الفاعل المتحد مع الذات - على ما تحرر في الأصول - إيماء إلى ما أشير إليه، فبين كلمه الفاء وكلمة " تكونا " وكلمة " من الظالمين " نهاية السنخية والارتباط، وأن هذه الأمور خارجة عن الاختيار بسوء الاختيار، وهو التقرب من الشجرة الملعونة المنهية.

الوجه السابع: حول ارتباط الآيات إن في هذه الآية صدرا في نهاية الارتباط بالآيات السابقة، المشتملة على تفخيم آدم وكماله وتعظيم الإنسان وجماله، وأنه لشرف العلم سجد له الملائكة وأسكنه الله تعالى الجنة، وخلق له زوجا لانسه من جنسه وليسكن إليه، وأنعمهما منها على العموم والإطلاق المكاني والزماني ومن الأنواع وأجناس الأشياء والفواكه. وفي هذه الآية - مع كونها في نهاية الانسجام مع الآيات السابقة من هذه الجهة - انسجام مع الآية اللاحقة في الجهة الأخرى، وهي سقوطه وتخلفه عن أمر الله، وهبوطه من الجنة، وإزلال الشيطان إياه، وارتباطه معه في الإصغاء إلى كلامه بالتخلف عن قانون الله تعالى، والخروج عن تلك الجنة، لأجل صيرورته ظالما، لتقربه من الشجرة المنهية الملعونة، فتلك الآية الواحدة مشتملة على الجهتين المتخالفتين المتباعدتين صدرا وذيلا. وهذا في نهاية الاستحسان والبلاغة، وفي غاية اللطف، فتكون كهمزة الوصل بين الآيات السابقة واللاحقة في الصفة الواحدة.

الوجه الثامن: حول المراد من اتباع آدم لإبليس ربما يخطر بالبال أن إبليس والشيطان، بعدما كانا واحدا وإن اختلفا اعتبارا، بمعنى أن إبليس اسم ذات، والشيطان اسم الذات المعتبر معها صفة الشيطنة والوسوسة، إن إبليس ترك السجدة - حسب ما مر - لكونه غير موافق لها، ولا يمكن الأمر بالنسبة إليه، وإنما الاستثناء منقطع يشهد على أنه بطينته متخلف عن أمثال هذه الامتثالات، وإن كان يؤمن بالله ويتبرأ من المتمردين، ويقول: (ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي...) (13) إلى آخره، فعلى هذا كيف كان في الجنة؟وكيف يناسب أن يصغي إليه خليفة الله تعالى، حيث صرح الكتاب العزيز (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه). وهذا خلاف البلاغة في الخطابة ونقل الحكاية والقصة، لظهور التنافي بين خلافة الله والإصغاء إلى مثل إبليس، بعد كونه عالما أعلم من الملائكة، وبعد ما كان عارفا بتخلف إبليس، مع أن ظاهر الآية الشريفة أنهما في الجنة، أي آدم وزوجه. أقول: اختلفوا في فهم هذه المعاني، ولم يصل إلى مغزى المرام إلا من شذ، فإن العلم بالأسماء غير العمل والاتباع عن العلم، وغير الملكة والرسوخ، فإن أفراد آدم مختلفة في هذه المرحلة نهاية الاختلاف وغاية التفاوت، فآدم الذي طينته من الرحمة والشيطان المتركب من القوة اللا متناهية والاستعداد الكثير، البالغ في العلم آخر مراتبه، ربما لا يتمركز في قلبه العلم والعرفان، ويتخلف مثل إبليس عن الأمر والنهي، فلو كان إبليس فاقد جميع مراحل الخير والرحمة لما خلقه الله تعالى، وما كان يؤمن بالله العزيز حتى يتبرأ عمن يغره ويمكر به، كما نص عليه الكتاب العزيز، فهو أيضا يستحق الجنة بمرتبة منها، ولو لم يكن خليفة الله فيه من الشيطان ووسوسته، ومن مرتبة من إبليس وقوته، لما كان ينهاه الله تعالى عن التقرب، لعلمه بما فيه من الفساد، وقد علم آدم الأسماء كلها، إلا أنه فيه قوة الاغترار والتمرد، فنهاه الله تعالى عن تلك الشجرة، لما يرى فيه من قوة التمرد والتخلف، وليس في الآيات ما يدل على اختصاص الجنة بهما، بل الجنة ذات عرض عريض في الأرض، وكان فيها إبليس أيضا بنفس كون آدم فيها، لما فيه من جنس الشيطان وإبليس، ومجرد علم آدم بالأسماء غير كاف، بل لابد من اتباع العلم، وهو العمل، ولنعم ما قال العارف الشيرازي: مريد پير مغانم (على (عليه السلام)) ز من مرنج أي شيخ (آدم) چرا كه وعده تو كردى واو بجا آورد (14) فإنه ما وعد علي شيئا إن لا يأكل من الحنطة، وما أكل، وآدم (عليه السلام) عكس أمره. ويكفي شهادة على وجود الشيطان في كل إنسان ما عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) " شيطاني آمن بي " (15)، فلا يتمكن من التصرف في وجوده بالمكر والاغترار، لأنه عالم راسخ في وجوده العلم بالعمل. ومن هنا يظهر شذوذ كلمات المفسرين الأقدمين والمتأخرين، ويتبين أنه لا خلاف ولا تضاد بين الآيات كي تكون على خلاف البلاغة، بل فيها نهاية الانسجام، وغاية الإرشاد والتعليم والتدريس لأهل المعنى وأصحاب الاطلاع، والله هو الموفق المعين. وسيمر عليك توضيح المسألة من جهات اخر في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

الوجه التاسع: الرموز المذكورة في الآية في هذه الآيات رمز، وفيه من البلاغة في كيفية الكلام مع الناس في شبه جزيرة العرب، على قدر طاقتهم وحد وجودهم وإطار معرفتهم بالعالم وما فيه، فشرع في الآيات السابقة على أن الحديث والقصة قصة مع شخص واحد، وهو آدم، ويخطر ببالهم أنه واحد شخصي، وبحث وحوار متعارف عرفي بين الله تعالى والملائكة وآدم، ومحط هذه الدراسة، ومدرسة هذه البحوث، هي الأرض في مرحلة ما بعد جعل الخليفة فيها. ثم من غير ذكر قصة معلوم صدرها، شرع في وجود شخص آخر مع آدم، وهو زوجها، فصار مدار المذاكرة على نفرين، ثم بعد ذلك تبين - في أثناء هذه الحكاية وتوضيحها - أن هناك ثالثا معهما، بعد ما أوضح جعل الخليفة في الأرض: (قلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) أوضح ثالثا أن هنا ثلاثة أنفار، فقال: (فأزلهما الشيطان). ثم في أثناء هذه الملحظة والتأريخ، يظهر أنهم جماعة في تلك الجنة، حيث قال الله تعالى: (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) على نعت ضمير الجمع، فإن آدم ليس في حد ذاته عدو شيطان... وهكذا. قوله تعالى: (اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى)، فإنه يفيد - كالنص - أنهم جماعة كثيرون، ولا معنى لأن يخاطب الشيطان بقوله: (فإما يأتينكم مني هدى)، فيتبين أن الحديث في نهاية التقارب العرفي والمقارنة القشرية المتنازلة إلى حد القشريين، ومع ذلك فيه رموز كثيرة، ومن البحوث الإلهية والمسائل الراجعة إلى الفنون العقلية والمعارف الإلهية، وهذا من خواص كتاب الله تعالى، كي يتمكن من النظر فيه كل أحد من الداني والعالي، ويفهم كل فهيم بحد فهمه وقدر إدراكه، وكأنه إذا فرض كل إنسان نفسه آدم - كما هو آدم بالضرورة - تكون هذه الآيات حكاية حالة، وبيان كيفية حياته الفردية والاجتماعية الثنائية، ثم الثلاثية بلحاظ الشيطان الموجود في البين. ويرى أنه مأمور بأن يسكن في محط من الأرض يكون جنة، وفيها أنواع اللذائذ، ويرى أنه ممنوع عن الشجرة الملعونة واتباع الشيطان وفروعه وأغصانه، كي لا يكون من الظالمين، ثم يكون اتخاذ الزوج ليسكن إليه أمرا مفروغا عنه، وحيث فيه الضعف والفتور والطينة المحجوبة، يتبع الشيطان هو وزوجه، ويخرج عن الجنة المرموز فيها الآتي تحقيقه، ويصير مبدأ الأناسي والنسل الكثير، ويكون بعضهم لبعض عدوا، لاتباع الشيطان بحسب الطبع والعادة، وهو تعالى يرسل لهم الأنبياء والكتب ونوع هداية، كما قال: (فإما يأتينكم مني هدى)، فإنه أتى بكلمة " هدى " على التنكير، كي يشمل الهداية العقلية والنقلية والنبوة والرسالة وغير ذلك من هداية الوعاظ والخطباء وأهل الإرشاد والأولياء. وإذا وصلت هذه الآيات في نقل هذا الأمر الشخصي الفردي إلى بيان الحياة الاجتماعية، توضح المسألة بنحو لطيف لبيان حال تلك الجنة، وأنها مبدأ هذه الحياة وتلك الكثرة والتناسل، وأنهم على مناهج مختلفة من الاتباع للحق والكفر، فقال: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، فيظهر أن كل فرد إذا نظر إلى حاله يكون مبدأ هذا الأمر التأريخي التدريجي، ويصير موضوع هذه القصة والحكاية. والله هو الموفق المؤيد، والهادي إلى سبيل الرشاد.


1- الأعراف (7): 11.

2- الإسراء (17): 61.

3- الكهف (18): 50.

4- طه (20): 116.

5- البقرة (2): 35.

6- الأعراف (7): 19.

7- طه (20): 123.

8- البقرة (2): 36.

9- الأعراف (7): 24.

10- الأنعام (6): 152.

11- الإسراء (17): 32.

12- الروم (30): 30.

13- إبراهيم (14): 22.

14- ديوان حافظ: 228.

15- راجع كنز العمال 11: 413 / 31936.