النحو وإعراب الآيات

قوله تعالى: (أسكن أنت وزوجك الجنة) في محل النصب، لكونه مقول القول، ويعد مفعولا به. والحق: أنه جملة لامحل لها من الإعراب، وتفصيله في النحو. وأما ضمير الفصل فهو ضمير عماد، يعتمد عليه المتكلم كي يستحسن له عطف الجملة الاسمية على الاسمية، دون الفعلية، وهو يعد ضمير التوطئة للجملة المتأخرة، وربما يشعر بأن الجنة لكما ولا شريك فيها، وليست " الجنة " مفعولا به، بل هي ظرف مكان. وربما يتوهم أنها مفعول به، كما قال بعضهم في " دخلت الدار "، وهذا غلط لا ينبغي أن يختفي. قوله تعالى: (رغدا) مصدر يتسوي فيه الواحد والاثنان، فيكون حالا، أي كلا منها واسعين في الجنة، أو أكلا واسعا وفيه السعة، ويجوز أن يكون حالا من (أسكن أنت وزوجك الجنة) رغدا، لأن معنى الرغد هو الخصب، أي أسكن الأرض الخصبة من الجنة، وقد مر معناه. قوله تعالى: (فتكونا) احتمال التفريع - كاحتمال الجزاء - لجملة محذوفة تدل عليه الجملة المذكورة، أي إن تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، وأما احتمال كون الفاء عاطفة، أي " لا تقربا فلا تكونا " فهو بعيد عن العروبة، ومجرد إمكان التصحيح غير الصحة السليمة.

مسألة: حول جواز العطف على الضمير المستكن اختلفوا في جواز العطف على الضمير المستكن في مثل " قم وزيد " فقال الكوفيون: هو جائز، وذهب البصريون إلى عدم جوازه، والأول هو المعروف (1)، والاستدلال بوقوعه في كلمات المعربين، مرمي عندهم بحذف الجملة المستدل بها بالجملة المذكورة، فيكون قولك: قم وزيد، أي قم وليقم زيد، أسكن ولتسكن زوجك... وهكذا. ومما يستدل به على صحة ممنوعية العطف هذه الآية، فإن إتيان ضمير الفصل شاهد على عدم جواز العطف على ذلك الضمير المستكن، وربما يقال: بأنه لا يجوز العطف ولو مع الضمير المنفصل، فيحذف الجملة أيضا، أي أسكن أنت وزوجك. والإنصاف: أن نصوص كلمات النحويين تشهد - أولا - على الجواز. وثانيا: هذه المسائل لا تحتاج إلى النصوص بعد ما نجد صحة الاستعمال وأنسه، وتأويله للفعل الثاني تبعيد بما لا ينبغي، وإلا فدعوى أنه مفعول معه أقرب، أي أسكن أنت مع زوجك، فيقرأ منصوبا. وهذا قريب بحسب المعنى، لأن النظر إلى السكونة معا في الجنة، فيكون بينهما نحو ارتباط. قوله تعالى: (فأزلهما) في الفاء احتمالات: التفريع والزينة والعطف والجزاء، والأول هو الأنسب، لأن المعنى متفرع على المعنى السابق، ومجرد إمكان تشكيل القضية الشرطية لا يكفي لصحة كونها للجزاء. قوله تعالى: (إهبطوا بعضكم لبعض عدو) يجوز أن تكون الجملة بيان محذوف، أي اهبطوا جميعا، ويجوز أن تكون في محل النصب على الحالية على خلاف الأصل، لاحتياج الجمل الحالية إلى الواو الحالية نوعا، وأن يكون في موضع الرفع صفة للضمير. ومن الغريب ما في كلام ابن حيان: أن كلمة " كل " و " بعض " بحكم المعرفة (2)، مع أنهما يضافان، بل كلمة " بعض " توغلت في التنكير. نعم غريب دخول الألف واللام عليهما، وليس منه أثر في كتاب الله تعالى وشعر الجاهلية، ولكن - مع الأسف - كثيرا ما يدخل عليهما الألف واللام عوضا عن المضاف إليه في كلمات أبناء العصر، وهذا يشهد على وقوع حركة أدبية في الاستعمالات القومية، فإذا شاع ذلك جاز بالضرورة. قوله تعالى: (ولكم في الأرض) يجوز فيه الظرفية اللغوية والمستقرية، لجواز أن تكون الواو استئنافا وعطفا، أي اهبطوا لكم في الأرض، وتأتي الاحتمالات السابقة على العطف في هذه الجملة، ويحتمل أن تكون الواو حالية، وهو أحسن لما فيه الزجر عن العداوة. قوله تعالى: (فتلقى) يجوز أن يكون تفريعا على قوله تعالى: (متاع)، لأن هذا التلقي أيضا نوع تمتع لآدم بعد ما صنع، ويحتمل العطف على قوله تعالى: (فأخرجهما)، أي فإذا أزلهما الشيطان فأخرجهما، فإذا أخرجهما فتلقى، فإذا تلقى فتاب عليه، ويحتمل الاستئناف بالفاء، نظرا إلى سبق الفاءين ولحوق الفاء الآخر، فاجتمعت الفاءات الأربع، وربما يكون النظر إلى الفاءات الثلاث في الآية الآتية، والذي يسوغه الذوق السليم، أن الفاء لبيان نزول المعاني على الترتيب بفصل قليل: الفاء للترتيب باتصال * و " ثم " للترتيب بانفصال (3) قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا) قد يشكل رجوع الضمير إلى آدم، وهو واحد، وربما يستدل بهذه الآية على جواز ذلك لما فيه الخلاف بين أهل الأدب، فذهب الجمهور إلى عدم الجواز في ضمير الغائب، وإلى الجواز في ضمير المتكلم، والأكثر على المنع في الخطاب، ولو ورد في مورد فهو لأجل نكتة. وقد تعرض لهذه المسألة التفتازاني في " المطول " (4) والزوزني في " شرح العقدة "، حيث قال امرؤ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل حيث أتى بالتثنية وأول بعض الشراح بحمل الألف على الإلحاق أو عوض النون المخففة من المثقلة، لاقتضاء المقام للتأكيد (5)، وأن ضرورة الشعر لا يتبع جوازه في النثر. ويؤيد الجواز قوله تعالى: (رب ارجعون) (6) فإنه بعد صراحة كلمة " رب " في الخطاب إلى المفرد، تكون الجملة صريحة في المقصود، وأما خلاف المفسرين في أنه خطاب إلى الاثنين والثلاثة - كما يتبين في المسائل الآتية - فهو بحث تفسيري خارج عن حدود الأدب وظاهر الآيات، حيث إن المكالمة متمركزة مع آدم. وربما تشعر هذه الآية وبعض ما مر بما أبدعناه: من أن كلمة " آدم " ليست موضوعة للفرد الشخصي، بل هو علم جنس يصدق على بني آدم في قبال بني الجان والملائكة، وأن ما مر في الآيات - من الكمالات والمسائل الطبيعية الراجعة إلى خلق طينة آدم - كله مربوط بمجموع الأناسي أو مخصوص بالرجال دون النساء - ولذلك ليس في الأنبياء قاطبة نبي من النساء - وما فيها من النواقص والزلات يشمل بني آدم (عليه السلام) على نعت الإهمال والإجمال، ولا يخص بفرد خاص، فإن قصة آدم - من البدو إلى الختم - من مرموزات مسائل الربوبية ولطائف القضايا الإلهية والحكايات السماوية والأرضية، فعلى هذا يتعين الخطاب بشكل الجمع مؤكدا بكلمة جميعا، كما يأتي تفصيله من ذي قبل إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (فلا خوف عليهم) ربما يشكل الأمر بإعادة ضمير الجمع الاستغراقي إلى الموصول المفرد، الصادق على كل واحد على البدل، وقد مر تفصيل هذه المشكلة - المستعصية على أرباب الفضل - وحلها في ذيل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) بناء على كون الألف واللام موصولا. قوله تعالى: (فإما يأتينكم) قد اتفقوا على أن " إما " مركبة من " إن " و " ما " الزائدة للتوكيد. ويتوجه عليهم: أن المعروف في موارد التقاء الساكنين هي الحركة بالكسرة، فتكون الياء مكسورة علامة على جزم " إن " الشرطية، ولا دليل على وجوب فتح ما قبل النون المثقلة، كقوله تعالى: (فإما ترين من البشر أحدا) (7)، وقوله تعالى: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا) (8) وهكذا. وعلى هذا يجوز أن تكون " إما " هنا للتفصيل، ويستغنى عن " إما " الثانية بذكر ما يغني عنها، كقولك: إما أن تتكلم بخير، وإلا فاسكت. وهنا يكون الأمر هكذا: (فإما يأتينكم مني هدى) وإما لا يأتينكم، ويكون الذين كفروا وكذبوا... إلى آخره. وتوهم: أن " الذين كفروا " أتاهم هدى، غلط، لأن هدى الله هي الهداية الموصلة، وإذا لم يهد الناس فليس أتاهم الهدى، كما لا يخفى. هذا مع أن كلمة " إن " الشرطية هنا غير جائز، لما مر أنها كلمة ترديد وشك، كما صرح به الباقلاني في البلاغة، وهذا لا يناسبه تعالى، فإن الهداية تأتيهم قطعا، وليس فيها شك، مر تفصيل معاني " إما " في بحوث الصرف واللغة. ثم إن أساس تركب الحروف وإرجاعها إلى الحرفين، من الأغلاط غير الداعية إليه مسألة ومشكلة، كما عرفت في هذا الكتاب مرارا. مع أن حذف حرف نون " إن " الشرطية على خلاف الأصل، واختلفوا في جواز إثباته وحذفه، كما في الكتب المفصلة. اللهم إلا أن يقال: إن " ما " الزائدة تكف " إن " الجازمة عن العمل، كما في سائر الموارد المشابهة، ولأجل ذلك قرأت الآية بفتح الياء المذكورة، مع أن مقتضى " إن " الجازمة حذف الياء وكسر التاء، ومجرد قول بعض النحويين برجوع الياء المحذوفة عند دخول النون التأكيد (9)، غير كاف، لأنه خلاف القواعد. قوله تعالى: (فلا خوف عليهم) إذا قرئت على التنوين - كما عن الجمهور - فتكون من " لا " المشبهة ب? " ليس "، وهكذا على الضم، كما في كتب النحو، وإذا قرئت على النصب تكون شبيهة ب? " إن " قال ابن مالك: عمل إن اجعل للا في النكرة * مفردة جاءتك أو مكرره (10) والإنصاف أن الأخير أقرب إلى الأدب، والأول أقرب إلى ما هو الأظهر من معاني الآية الشريفة، كما تأتي إن شاء الله تعالى.

مسألة أدبية نحوية: حول كلمة " ليس " اختلفوا في أن كلمة " ليس " توغلت في النقص على قولين، فالمعروف عنهم هو التوغل. قال ابن مالك: .......... والنقص في * " فتي " و " ليس " " زال " دائما قفي (11) وقال بعضهم: إن المحذوف في قولهم: جاء القوم لاغير، هو " ليس "، وتكون الجملة بذكر " لا " غلطا، كما صرح به أبو طالب في حواشيه على " شرح الألفية " لجلال الدين السيوطي، فعليه يلزم أن تكون كلمة " ليس " تامة، كما عليه أهل المعقول، بل وجمع من علماء الأصول. وقد مر شطر من البحث حول التمام والنقص - إمكانا وفي مرحلة الثبوت - في موضع من هذا الكتاب. وبالجملة: حيث تكون جملة " عليهم " متعلقة بكلمة " خوف "، فيكون النفي هو الخوف المقيد، وهو خوفهم، وتصير كلمة " ليس " تامة ولنفي المبتدأ بدون أن يكون هناك خبر، وهذا هو الأنسب ببحوث البلاغة، كما يأتي - إن شاء الله تعالى - ولا داعي إلى أن يكون كلمة " عليهم " متعلقة بفعل محذوف في حكم الخبر، أي " فلا خوف يكون هو عليهم "، أي مستقرا وثابتا عليهم، فإنه حذف شنيع، كما لا يخفى. قوله تعالى: (ولا هم يحزنون)، وحيث إن الجملة معرفة تكون شاهدة على أن " لا " مشبهة ب? " ليس "، وليس مثل " ولا حول ولا قوة إلا بالله "، وفي اصطلاح أهل القياس: هو من الشرطيات المركبة بناء على أن يكون " من " موصولة، فيكون الشرطية جواب الشرط، ولكن لا يبعد كونها موصولة محضة، بقرينة قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا)، فتكون الفاء للتفريع، لأن الجزاء لا يكون أمرا غير اختياري، بل الجزاء جعالة للشرط، كما إذا قيل: إن جاءك زيد فأكرمه... وهكذا، بخلاف ما نحن فيه. وعن الكسائي: أن هناك شرطين (12)، وظاهره أن الفاء عاطفة، فلا يكون من الشرطيات المركبة، ومعناه: إن أتاهم الهدى، وإن اتبعوا الهداية، فلا خوف عليهم. قوله تعالى: (والذين كفروا...) إلى آخره قد عرفت أنه بحكم طرف " إما " التفصيلية على ما عرفت منا، وشاهده حذف الفاء من قوله تعالى: (أولئك) وفي محل (أولئك) خلاف على أقوال (13) من كونه مبتدأ و " أصحاب " خبر، والجملة خبر لقوله: (والذين كفروا)، ومن كونه بدلا، ومن كونه عطف بيان، ومن كونه خبرا بعد خبر. قال ابن مالك: وأخبروا باثنين أو بأكثرا * من واحد ك? " هم " سراة شعرا (14).


1- راجع البحر المحيط 1: 156.

2- راجع البحر المحيط 1: 159.

3- الألفية، ابن مالك: مبحث عطف النسق، البيت 6.

4- المطول: 133.

5- راجع لسان العرب 1: 38.

6- المؤمنون (23): 99.

7- مريم (19): 26.

8- الكهف (18): 23.

9- البحر المحيط 1: 167.

10- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث لا التي لنفي الجنس، البيت 1.

11- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث كان وأخواتها، البيت 9.

12- البحر المحيط 1: 169.

13- راجع البحر المحيط 1: 170.

14- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث الابتداء، البيت الأخير.