اللغة والصرف

الآية الخامسة والثلاثون إلى الآية التاسعة والثلاثين من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

المسألة الأولى: حول كلمة " الرغد " " الرغد " رغد يرغد رغدا: طاب واتسع، فهو رغد ورغد ورغيد. وفي " الأقرب ": استرغد العيش: وجده رغدا، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد العيش (1). وفي " مفردات الراغب ": أرغد القوم: حصلوا في رغد من العيش (2). وفيه نظر، فإن ما في " الأقرب " معناه الدخول في الأرض المخصبة التي فيها النعم والمطلوبات، وبذلك يختلف معنى الآية الشريفة.

المسألة الثانية: حول كلمة " أكل " اعلم أن مادة الأكل واضحة المعنى إلا أن هنا احتمالا يحتاج إلى الفحص الدقيق، وهو انقلاب معناها اللغوي إلى الأعم، بحيث صارت حقيقة في الأعم، للكثرة المعتنى بها في القرآن العزيز باستعمالها في التصرف والانتفاع والاستفادة، فلا يجوز دعوى اختصاص الآية في قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (3) بالأكل الخاص، ولا قوله تعالى: (أن تأكلوا من بيوتكم) (4)، ولا كثير من الآيات، من غير حاجة إلى القرينة، أو دعوى إلغاء الخصوصية والقياس والاستحسان. والمسألة بعد تحتاج إلى التأمل والتدبر.

المسألة الثالثة: حول كلمة " حيث " المشهور أن " حيث " تأتي مكانية، لا زمانية. ويظهر أن الأخفش ابتكر القول بالزمانية (5)، وفي " الأقرب " تأتي زمانيا (6)، ثم تمثل بشعر الشاعر مع إمكان كونه للمكان فيه أيضا، ولقرب المعنيين الزماني والمكاني يشكل التفكيك. وفيه لغات بتثليث الثاء وبالواو أيضا مثلثة الثاء، وقال ابن مالك: وألزموا إضافة إلى الجمل * حيث وإذ وإن ينون يحتمل (7) وسكتوا عن إضافته أنها لفظية أو معنوية أو قسم ثالث، لكون المضاف إليه هي الجملة. وهذا إشكال على النحويين حيث لم يستقرئوا أنواع الإضافات، فليتأمل.

المسألة الرابعة: حول كلمة " الشجر " قال في " الأقرب ": الشجر - محركة -: ما قام على ساق من نبات الأرض، وأما ما لا ساق له فهو نجم وحشيش وعشب. وقيل: الشجر: ما سما بنفسه دق أو جل قاوم الشتاء أو عجز عنه. وقيل: هو ما كان له ساق صلب كالنخل ونحوه (8). وفي " المفردات " هو من النبات ما له ساق (9). ويستفاد من القرآن خلاف ما هو المشهور (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) (10)، والمعروف أن الشجرة المنهية هي الحنطة، ولا تعد هي من ذوات السوق، والمتبادر اليوم من الشجرة ماله ساق صلب، ولكن المتبع هو القرآن العربي المبين، مع أن شجرة الحنطة لها ساق، فسائر الأقوال باطلة، كما أن الاستعمالات الاخر لا تدل على خصوصية المعنى.

المسألة الخامسة: حول كلمة " الزلل " " الزلل " ليس معناه الذنب، وإنما استعير له لاستلزامه الذنب، ولذلك تنسب إلى الأقدام: زلت الأقدام، وتزل فيه قدمي بعد ثبوتها، فهو في الأصل التزلق والتخطي، ويقرب من الظلم الذي هو التجاوز عن الحد المقرر في كل شئ هو بحسبه، وتكرار حرف اللام يشعر بالزلق البطئ في معناه.

المسألة السادسة: حول كلمة " الاستقرار " قضية باب الاستفعال أن يكون " الاستقرار " بمعنى الطلب إلا أنه خرج عن هذه القاعدة الصرفية، لمجئ هذا الباب أحيانا بمعنى الثلاثي، ومنه المستضعفون. واستشهد في سبيل الله، أي قتل، إلا أنه يجوز أوله إلى معناه الأصلي، وتضعيف الراء يشعر بالنقل في المعنى.

المسألة السابعة: حول كلمة " متاع " قال في " الأقرب ": المتاع كل ما ينتفع به من الحوائج، كالطعام وأثاث البيت والأدوات والسلع، وقيل: المتاع - في اللغة - كل ما ينتفع به من عروض الدنيا كثيرها وقليلها سوى الفضة والذهب، وعرفا كل ما يلبسه الناس ويبسطه. وقال في " الكليات ": المتاع والمتعة: ما ينتفع به انتفاعا قليلا غير باق، بل ينقضي عن قريب، وأصل المتاع ما يتبلغ به من الزاد، وهو اسم من متع بالتفعيل جمعه: أماتع، ويأتي المتاع اسما للتمتيع (11). وفي نفسي أنه كان الفيروزآبادي يفحص عن اللغة، ويحب أن يعرف معنى المتاع، فإذا بصبية طردت قطعة شئ في الكنيف، فسئلت ماذا صنعت فاستحيت عن الجواب، فإذ أصر السائل قالت: كان متاع، فعجلت أن أراه، فإذا هي قطنة الطمث، وكأنها معناها الحقيقي، ثم استعير لكل شئ، مثل الدنيا في نظر أهل الآخرة. والله المعين.

المسألة الثامنة: حول كلمة " تاب " تاب إلى الله: رجع عن المعصية، تاب الله عليه: رجع عليه بفضله (12). وفي " مفردات الراغب ": تاب إلى الله: تذكر ما يقتضي الإنابة (13). وهذا بلا وجه، بل التوبة هي الرجوع والرجعة، فإن كان إلى شئ فطبعا يكون من شئ، وهو عيبه ونقصانه وذنبه، وإذا كان على شئ فلا يلزم أن يكون من شئ، ولأجل إفادة ذلك تعدت ب? " على " وإلا فبحسب اللغة الأخرى تكون التعدية بحرف واحد، وإنما يستفاد اختلاف المقصود من خصوصيات الكلام الحافة بها، ككون الفاعل عبدا ذليلا، أو الرب العزيز.

المسألة التاسعة: حول كلمة " الهبوط " الهبوط من الجبل: النزول. متعديا، أي أنزله. وهبط البلد: دخله وأدخله، لازم ومتعد (14)، ومعانيه ترجع إلى واحد بحسب المادة، وبحسب الهيئة قد يجئ لازما ومتعديا، وهما معنيان مختلفان ذاتا، وفي القرآن العزيز لم يستعمل إلا لازما.

المسألة العاشرة: حول كلمة " حين " " الحين ": وقت مبهم طال أو قصر، وقيل: الدهر. وفي " الأقرب " أيضا: حان حينه: قرب وقته. والسنبل: يبس وآن حصاده. وأحين الرجل بالمكان: أقام به حينا (15). والذي يظهر من مجموع موارد الاستعمالات والاشتقاقات: أن " حين " لوقت مبهم قريب، لا الأعم، مثلا: إذا يكتب الراقم: " يأتيك الكلام بعد حين " يستظهر منه القرب جدا، ويناسبه القرآن العزيز، حيث إن الاستقرار والتمتع إلى حين قريب عند قارئه ومنزله. والله العالم.

المسألة الحادية عشرة: حول كلمة " آيات " الآيات جمع الآية. وفي أنها على وزن فعلة، فأعلت العين، وسلمت اللام شذوذا كما قال به الخليل وسيبويه، أو العكس كما هو القياس، وعند الكسائي فاعلة، وعن الفراء: فعلة فأبدلت العين ألفا استثقالا للتضعيف، كما أبدلت في قيراط وديوان، وعن بعض الكوفيين: فعلة فاستثقل التضعيف (16)، خلاف شديد بين علماء الصرف مذكور فيه. والحق عندي: أنها ليس من المشتقات ولا أصل لها، بل هي لفظة بمعناها المتعارف، وهي العلامة، فلا وقع لخلاف الصرفيين، والقياس أنها مهموزة على فعل، وجاءت من مشتقاته " الآي "، وهو ليس جمع " الآية، بل هو جنس يطلق على الواحد والكثير، أو شبه جمع، وجمعها " الآيات "، فما في كتب اللغة والصرف اشتباه جدا، واس المسألة وأبحاثها يطلب من علم الصرف.


1- راجع أقرب الموارد 1: 415.

2- راجع المفردات في غريب القرآن: 199.

3- البقرة (2): 188، النساء (4): 29.

4- النور (24): 61.

5- راجع مغني اللبيب: 69.

6- راجع أقرب الموارد 1: 248.

7- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث الإضافة، البيت 15.

8- أقرب الموارد 1: 571.

9- راجع المفردات في غريب القرآن: 255.

10- الصافات (37): 146.

11- أقرب الموارد 2: 1181 - 1182.

12- راجع أقرب الموارد 1: 81.

13- المفردات في غريب القرآن: 76.

14- راجع أقرب الموارد 2: 1367.

15- أقرب الموارد 1: 250.

16- البحر المحيط 1: 160.