التفسير والتأويل على مسالك مختلف ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: عن علي بن جعفر (عليه السلام)، قال: " سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تيما وعديا وبني أمية ليركبون منبره أفظعه، فأنزل الله تعالى قرآنا يتأسى به: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر) ثم أوحى إليه: يا محمد إني أمرت فلم اطع، فلا تجزع أنت إذا أمرت فلم تطع في وصيك " (1) غير معتبر. وعن موسى بن بكير قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الكفر والشرك أيهما أقدم؟فقال لي: ما عهدي بك تخاصم الناس! قلت: أمرني هشام بن سالم أن أسألك عن ذلك فقال لي: الكفر أقدم، وهو الجحود، قال الله عز وجل: (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) " (2) غير معتبر. وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سئل عما ندب الله الخلق إليه أدخل فيه الضلال؟قال: نعم، والكافرون دخلوا فيه، لأن الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسجود، فدخل في أمره الملائكة وإبليس، فإن إبليس كان مع الملائكة في السماء يعبد الله، وكانت الملائكة تظن أنه منهم، ولم يكن منهم، فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة عند ذلك أن إبليس لم يكن منهم. فقيل له (عليه السلام): كيف وقع الأمر على إبليس، وإنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟فقال: كان إبليس منهم بالولاء، ولم يكن من جنس الملائكة، وذلك أن الله خلق خلقا قبل آدم، وكان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله الملائكة فقتلوهم، وأسروا إبليس، ورفعوه إلى السماء، وكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق تبارك وتعالى آدم " (3). معتبر جدا. والكليني بسند معتبر جدا - عن جميل، قال: " كان الطيار يقول لي: إبليس ليس من الملائكة، وإنما أمرت الملائكة بالسجود لآدم، فقال: إبليس لا أسجد فما لإبليس يعصي حين لم يسجد، وليس هو من الملائكة؟قال: فدخلت أنا وهو على أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: فأحسن والله في المسألة. فقال: جعلت فداك ما ندب الله عز وجل إليه المؤمنين من قوله: (يا أيها الذين آمنوا) أدخل في ذلك المنافقون معهم؟قال: نعم والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة، وكان إبليس ممن أقر بالدعوة الظاهرة معهم (عليهم السلام) " (4). وفي حديث العياشي عن رجل من أهل الشام، قال: قال أمير المؤمنين - صلوات الله عليه -: " أول بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة لما أمر الله تعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم، سجدوا على ظهر الكوفة " (5). غير معتبر. وفي المسألة روايات اخر تقرب مما مر.

وعلى مسلك أرباب الحديث: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) فعن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقا فقال: (أسجدوا لآدم) فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم نارا تحرقهم، ثم خلق خلقا آخر، فقال: (إني خالق بشرا من طين) (أسجدوا لآدم) فأبوا، فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء فقال: (أسجدوا لآدم) فقالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم (6). (فسجدوا إلا إبليس) فعن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط (7). وعن ابن عباس: أن من الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يوسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما (8). (أبى واستكبر وكان من الكافرين) فعن أبي العالية: وكان من العاصين (9)، وعن قتادة: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له الملائكة إلا إبليس (10)، وهو الحارث في قول، وعزازيل في قول آخر، والكل غير مسند.

وعلى مشرب أصحاب التفسير: (وإذ) واذكر يا محمد (قلنا للملائكة) أي يا أيتها الملائكة الموجودون في أنحاء العالم والعوالم السفلية والعلوية، حتى جبريل وميكال (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) (أسجدوا) وانقادوا، ولتكونوا خاضعين (لآدم) المعروف عندهم والمذكور لديهم قبل ذلك، والمستحق للسجدة، كما علمتم، لمكانته العلمية وسموه الأعلى وارتقائه عليكم. (فسجدوا إلا إبليس) مع أنه كان مأمورا بالأمر التشريعي الشامل لكافة الملائكة (أبى واستكبر) وترك السجدة وعصى، واستكبر عن إطاعة الله بالسجود لمثله، (وكان من الكافرين) والجاحدين في مخالفة الرب بترك السجود للمربوب. وقريب منه: (وإذ قلنا) نحن مريدون ذلك وباعثون بالأمر الجدي والبعث السلطاني الإلهي عن علو واستعلاء (للملائكة) المسانخة والمناسبة لأن يؤمروا مثل هذا الأمر، فما كانت شؤونهم أعلى، أو كانوا أرذل وأسفل، فهي خارجة طبعا وعقلا، فلا أمر بالنسبة إلى القديسين، ولا بالنسبة إلى غير الشاعرين العارفين (اسجدوا) يا أيتها الملائكة الذين هم في كفة آدم وفي عرضه وأرضه (لادم) أبي البشر والإنس (فسجدوا) وأطاعوا وامتثلوا ذلك الأمر بالسجدة بجانب آدم، كالسجود بجانب القبلة والكعبة، فعبدوا الله تعالى وهم واقفون إلى آدم (إلا إبليس) وهما أن الأمر متعلق بالسجدة لآدم والعبادة له والخضوع للخلق، و (أبى واستكبر) زائدا على التوهم المذكور (وكان من الكافرين) قبل أن يأبى ويستكبر، وإنما ظهر كفره وجحوده في المقام. وقريب منه: (وإذ قلنا للملائكة) القاطنين في الدنيا سمائها وأرضها، القابلين لذلك: (اسجدوا لادم) ولا يخطر ببالكم أنه غير جائز، فإن الامتثال خير من الأدب، واختضعوا لمثله فإن فيه كمالكم اللائق بحالكم، وفيه خيركم وشأنكم، وبذلك رقاؤكم، وأن السجدة والعبودية على نعت الكلي قبيح عقلي، وجائز باعتبار ما فيه من الكمال والجمال للعبد السالك إلى الله تعالى ولكافة الأشياء (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) (فسجدوا) طويلا حتى قيل: بلغ إلى خمسمائة عام، وقيل: كانت السجدتان، وكانوا قد ائتمروا فورا، لمكان الفاء (إلا إبليس) حتى مسخ، وصار وسخا، وقد كان عصيانه معلوما، فلا يتوجه إليه الأمر بالسجود لامتناعه، ولذلك قال الله تعالى: (أبى واستكبر وكان من الكافرين) فكان خارجا عن الأمر، لما يعهد امتناعه وإباؤه واستكباره، لكونه كان من الكافرين سبقا قديما وخلقا بعيدا. وقريب منه: (وإذ) كانوا ينقادون ويطيعون (قلنا) بوسائط الوحي والإلهام، لا بالمباشرة، وأخطرنا في وجودهم وذواتهم بطائفة من الملائكة الأعلين المتصدين لمراحل الفكرة والابتكار (للملائكة) المتسانخين مع مقام آدم في النشأة الظاهرة المادية البدنية الجرمانية (اسجدوا) ولتكونوا مسخرين بين يدي آدم وخاضعين تكوينا له، كقوى النفس بالنسبة إليها، فإذا أراد أن يبصر يبصر ويسمع يسمع.. وهكذا في الأفعال والحركات والسكنات (فسجدوا) وأطاعوا الأمر التكويني بالخشوع الطبيعي له. (إلا إبليس) فإنه يفعل على خلاف مفعولاتهم، ويحرك على ضد الخيرات، ويبعث على مقابلة الشرائع السماوية، فلم يسجد طينة وخلقة ولم يحضر للخضوع، نظرا إلى ما في نفسه من التسويلات وتخيلا بعض الأمور، وغافلا عما فيه صلاح الإنسان وآدم، فإن من تضاد الحركات والمتحركات تصل الحقيقة النازلة إلى المراحل الراقية، ويتبين حدود القوى والنيات، وتظهر ماهية البشر وسجلاتها، وإلا فلا يعرب المؤمن من الكافر والمنافق فبعلي (عليه السلام) يعرف المؤمنون، وبإبليس يعرف الكافرون المنافقون. وأما إبليس ف? (أبى واستكبر) ويعرف كفره بما في وجوده، وربما إليه الإشارة بقوله تعالى: (وكان) من الابتداء (من الكافرين).

وعلى مسلك الحكيم: (وإذ قلنا) فيكون القائل مقيدا، كما في قوله تعالى: (وإذ قال ربك) فإنه أيضا مقيد، وقد كان ذلك بعد شهودهم كمال آدم، وكانت الملائكة في قوله تعالى: (للملائكة) عاما كافة إلا أن ذلك حسب مراتب وجوداتهم بحسب مراتب آدم (اسجدوا لآدم) ولتكونوا خاضعين تكوينا بالنسبة إلى كثير من مشتهياته، وتشريعا بالقياس إلى طائفة من متطلباته، وأن له القدرة - على نعت الإهمال والإبهام - على الاستمداد باحضار الملائكة وتسخير الشيطان والأجنة، وليكونوا في محضر أمره وطلبه، كي لا يحتاج إلى التسخير، وقد كان سليمان سخر له ملك الجن والإنس بإذن الله تعالى. (فسجدوا) لله تعالى على خلقه لمثل آدم، أو سجدوا لآدم طولا مع أنهم الساجدون إلى الآن وإلى الأبد طبعا وحقيقة، لما فيه من علم الأسماء، ففي هذه الحركة الصعودية الطبيعية يحتاج آدم إليهم، ويحتاجون إليه في البقاء. (إلا إبليس) والشيطنة الوهمية والقوة الكلية الأوهامية في الإنسان الكبير، كالخيال المنفصل مبدأ القوى الجزئية في الإنسان الصغير الذي هو نموذج ذلك العالم، فإبليس امتنع عن القعود عنده والتخضع له، ولكنه تدخل في جميع عروقه ودمائه وقواه، مصلحة له، ومذلة لنفسه خدمة لآدم ونقمة لمثله (أبى) وتأبى عن ذلك بشكل الانقياد والخدمة المستقيمة (واستكبر) بمناقضة الله في القول والأمر، ومناقشة الأمر في كونه صلاحا وجائزا (وكان من الكافرين) والآن كما كان ويكون كذلك في هذا الأمر، مع أنه برئ من الكافرين المشركين الملحدين، كما قال: أنا برئ منكم (11) في مورد من الكتاب الإلهي.

وعلى مسلك العارف: (وإذ قلنا) في النشأة الأسمائية، وفي رحلة المناكحات الأسمائية (للملائكة) الأعيان التي تلازم الأسماء القدوسية: (اسجدوا) في هذه النشأة كي يصير الخضوع من لوازم وجودهم في النشأة الأعيانية (لآدم) الذي اجتمعت فيه الأسماء بما لها من الآثار والخواص، فهو الاسم الأعظم، وفيه السر المستتر. (فسجدوا) لآدم، وهو مسجودهم، كما تكون العناوين الفانية في الله مسجودهم في جميع سجدات المؤمنين والمسلمين، فلا يسجدون إلا لله تعالى، بل هذه السجدة في وقوعها لله أقرب من سجداتنا، لأن آدم أفني في الله، فالسجدة له أقرب إلى السجدة. وفي تعبير: لا تقع السجدة إلا لله تعالى. والحمد لله. (إلا إبليس) الكلي السعي الشامل للكل بقضه وقضيضه، من السماء والأرض، ويكون في معجون كل مركب أثيري وعنصري وخيالي ومقداري (أبى واستكبر) لكونه مظهر جلال الله تعالى (وكان من الكافرين) حسب اسمه المخصوص.


1- راجع الكافي 1: 492 / 73.

2- راجع الكافي 2: 284 / 6.

3- راجع تفسير القمي 1: 35 - 36.

4- راجع الكافي 2: 408.

5- راجع تفسير العياشي 1: 53 / 18.

6- راجع تفسير الطبري 1: 227.

7- نفس المصدر: 226.

8- نفس المصدر.

9- نفس المصدر: 228.

10- نفس المصدر: 229.

11- الأنفال (8): 48.