وجوه البلاغة والمعاني وأسرارها

الوجه الأول: انسجام الآيات إن نهاية الانسجام، وغاية التناسق بين الآية والآيات السابقة حاصلة، فإنه بعد ما تبين أمر آدم (عليه السلام) للملائكة الذين سلوا سيوفهم على جعله خليفة في الأرض، مع أنه كان من مجعولاته تعالى، ولكنهم مع ذلك ذهلوا عن النسبة الإصدارية، والتفتوا إلى نفس الصادر والمجعول في الأرض فظنوا في حقه ما مر، وبعدما ظهر موقفه وموقفهم، حان وقت الخضوع له والسجود، وحان زمان الاعتراف العملي بما صنعه الله تعالى، وأنه أحسن صنعه، بعدما اعترفوا قولا، حيث (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) فأمر الله تعالى بالسجود الذي هو غاية الخضوع ونهاية الخنوع لآدم، وهم امتثلوا أمره تعالى بحمد الله وله الشكر.

الوجه الثاني: حول التعبير ب? " قلنا " في كلمة " قلنا " - مضافا إلى نحو التفات من الغائب إلى المتكلم، فإن الآيات السابقة كلها مسبوقة بالفعل الماضي - أنه تهيئة لأحسن الطرق في إفادة الأمر، فإن الأمر المتعقب لابد وأن يصدر عن الجناب الإلهي، الذي هو في محل الآمر العظيم اللازم اتباعه وامتثال أمره، ولأجل ذلك وغيره قال الله تعالى: (قلنا للملائكة اسجدوا)، وهذا كثير التكرر في الكتاب الإلهي أمرا ونهيا (وقلنا يا آدم أسكن) (1) (يا نار كوني) (2) (وقلنا لهم لا تعدوا) (3)... وهكذا. وفي كون الضمير هنا للشأن، أو باعتبار أن القول هنا مستند إليه تعالى باستناد أمر آخر يستند هو إليه، كلام يأتي في محله.

الوجه الثالث: حول اتحاد الملائكة في قصة آدم (عليه السلام) لا شبهة في أن هذه الملائكة هم الملائكة الذين عرض آدم (عليه السلام) عليهم وطلب منهم الإنباء، وأيضا هي الطائفة الأولى في قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة) نظرا إلى سياق الآيات ومفادها وانسجام معانيها، وإلى أن المحرر في الأدب: أن الاسمين إذا كانا متعاقبين، وكانا معرفين باللام، فالأظهر أنهما يحكيان عن الواحد، بخلاف النكرتين، فإن الأظهر عندي أن الثاني في قولنا: رأيت رجلا، وضربت رجلا، مع قطع النظر عن القرائن الاخر غير الأول. وأما كون " الملائكة " عاما فقد مر مرارا عدم دلالة اللفظة على العموم الأفرادي إلا بمقدمات الحكمة، وهي هنا منتفية، فإنه يكفي بهذا المنهج، ويجوز لهذا كون جماعة وثلة من الملائكة، مورد الكلام والخطاب والاعتراض والعرض، فالعموم غير ثابت إلا بالدليل، فاغتنم. وتكفى قرينة المحاجة الموجودة لعدم تمامية المقدمات، ضرورة أن في الملائكة من لا يدري خلقا من خلق، وهم في فناء الله تعالى مهيمون مستغرقون في ذات الله، غافلون عن أنفسهم مسبحون ساجدون دائما أزليا أبديا - رزقنا الله تعالى ذلك - ولعل إليهم الإشارة في قوله تعالى: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) (4).

الوجه الرابع: الترتيب بين تعليم الأسماء وسجود الملائكة مقتضى ظاهر الوحدة السياقية، أن قصة سجود الملائكة كانت بعد قصة تعليم الأسماء. والفخر استدل على العكس، بأن قوله تعالى: (إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (5) ظاهر في أن السجود قبل التعليم (6). وفيه منع واضح، فإن التعليم ربما كان مندمجا في نفخ الروح، من غير أن يكون مبدعا، كما مر، ولا تنافي بين الآيتين، كي يلزم خروج الكتاب عن البلاغة، ويحتمل أن يكون قوله تعالى في هذه الآية: (وإذ قلنا للملائكة) - بتغيير الأسلوب السابق في الآيتين، وباتباع الآية الأسبق، وهي قوله تعالى: (وإذ قال ربك) - دليلا على أن التقديم والتأخير في النزول ليس شاهدا على التقديم والتأخير في الخلق، وبه يتبين وجه الإتيان بكلمة " إذ " ثانيا مع أنه لم يتم بعد حديث آدم (عليه السلام)، ويلزم تقدم السجود على التعليم، إلا أنه بعيد بحسب الذوق، مع أن الملائكة في هذه الآيات طائفة واحدة، وإذا كانوا ساجدين لمثله ما كان حاجة إلى الحوار بينهم وبين آدم، كما لا يخفى. فالأقرب هو الأول فتأمل. وقيل: إن أمر السجود له قبل خلقه، لما يأتي إن شاء الله تعالى.

الوجه الخامس: حول الأمر بالسجدة لآدم من الأمور التي لا يحسها الإنسان إحساسا مستقيما ولا يدركها العقل إدراكا صحيحا، وربما يعد من الغرائب في الكتاب الإلهي، ولا يليق بشأن هذه المجموعة البليغة الفصيحة، حديث الأمر بالسجدة لآدم، مع أنه الشرك الممنوع في شريعة العقل والشرع، وقد جاهر الإسلام في إبطاله وجاهد، وتكبد الخسائر المالية والروحية في هدم ذلك، وكان مما كثر فيه أذى الرسول الإسلامي، وقطع حبال الشرك في العبادة، فضلا عن توجيه العبادة إلى الغير، فإن الأصنام والأوثان والملائكة والأنبياء والموجودات - في هذه المرحلة - على نعت سواء، بالقياس إلى رب الأرباب وخالق الأسباب والكل مستمد من مدده، بلا فرق بينهم بالقياس إليه تعالى، لأن الإمكان على وجه واحد مشترك بينهم، وهذا الفقر سواد الوجه في الدارين. وبالجملة: كيف يرتضي الإنسان بأن القرآن يحكي أنه تعالى أمر بهذا الأمر المنكر الممنوع، فيلزم - عندئذ - التضاد. والذي هو الحق: أن حديث السجدة لآدم والسجدة لله تعالى على نهج واحد من القبح والحسن، ولا شبهة في أن عنوان العبودية من العناوين القصدية في بعض المواقف، والانتزاعية القهرية في موقف آخر، مثلا: القيام بعنوان العبودية موضوع لاعتبار العبادة، بخلاف السجدة على التراب في مقابل آدم (عليه السلام)، أو على غيره من سائر الأشياء بقصد التكريم والتعظيم، فإنه ينتزع منها عنوان العبادة قهرا وإن لم يقصدها، فإن العبادة ليست إلا هذه الحالة التي من مقولة الوضع، بمعنى كفايتها لانتزاعها وإدراك كل عاقل منه ذلك. ومما لا يخفى أن كل شئ إذا كان صالحا لانتزاع عنوان الحسن والقبح منه، وكان جامعا لشرائطه فلابد من التدقيق في جهة خاصة مغفولة، وهي النظر إليه بما هو هو، من غير إضافة إلى حيثية أو شخصية، فعندئذ نقول: العبودية بما هي العبودية: إما حسنة أو قبيحة. وبعبارة أخرى: عبادة الإنسان لنفسه مما لا معنى له، والعبادة بما هي عبادة ليست إلا مفهوما، وأما عبادة الغير بمعناها التصديقي - أي أن يعبد الإنسان غيره - فهي قابلة لأن تكون موضوعا لإدراك الحسن والقبح، وحيث لا سبيل إلى كونها مجمع العنوانين، ولا موضوعا للحسن، فهي قبيحة بما هي هي، فإن العقل يأبى عن ذلك ولو كان الغير هو الله تعالى. نعم لا منع من إدراك العقل لزومها له تعالى، لجهة تقوم الكمالات النفسية به، ولأجل القيام بالشكر على اختلاف التعابير الناشئة من اختلاف الناس في الأفهام، واختلاف السائلين في الروايات والأحاديث في مراتب الإدراك والتعقل والتفكير، وقد فصلنا هذه في موسوعاتنا الأصولية والفقهية، ويتبين من ذلك مواضع فساد آراء القوم، كما تظهر مشكلة البحث هنا. وعلى هذا يسقط الأقوال المفصلة من أن المراد من السجود ليس السجود العبادي بالاتفاق، فهو إما بمعنى التحية والتعظيم كالسلام، أو كان آدم (عليه السلام) قبلة الملائكة، أو أن المراد منه هنا هو مطلق الانقياد والتخضع التكويني ولا تشريع، أو مطلق التشريعي الأعم من معناه الاصطلاحي، وقد فصلوا بما لا يرجع إلى محصل. والذي هو التحقيق: وإن كان يمكن حمل السجود هنا على العبادة كما عرفت، إلا أنه بمناسبة مجازية المقاولة بين الرب والملائكة، وبمناسبة مجازية الحوار بين الملائكة وغيرهم، وبمناسبات اخر مخصوصة بالملائكة، يكون المراد هنا هو التخضع الطبيعي، وأن عدم خضوع إبليس أيضا - كما نجد في أنفسنا، فإنه مسيطر علينا أيضا - طبيعي.

الوجه السادس: حول الاستثناء المنقطع في الآية من الأمور المتوهم أنها تضاد البلاغة هو الاستثناء المنقطع، وقد ذكروا: أن هذه الآية من الاستثناء المنقطع، فيلزم خلاف لا يمكن الالتزام به، فلابد من دفعه وذبه. والإنصاف: أنه ما أنصف من توهم: أن الاستثناء المنقطع خلاف البلاغة، ضرورة أن المتكلم يتمسك لتأكيد كلامه ولتثبيت مرامه بأنحاء شتى من أقسام التأكيد: اللفظية والمعنوية والصريحة والكناية، ومن ذلك الاستثناء المنقطع، فإنه به يورث صراحة المستثنى منه، وأنه تمام المرام ومتأكد، ولا شك فيه، ولا شئ خارج عنه، ولو فرضنا أنه هنا شئ خارج فهو لابد أن يكون من غير جنس المستثنى منه، وهذا أحسن وجوه البلاغة والفصاحة والأدب. قال الله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) (7)، فأنت إذا تدبرت في الآية، بعدما أمعنت النظر فيما أبدعناه وأزمعت فيها، تجد أن سبل القرآن العظيم وسبل الأرواح اللطيفة والنفوس الظريفة واحدة، ولا تفرق بينهم، وأن الكتاب التدويني عين التكويني في الحقائق الروحية والذوقية وغيرها، وهما عين العترة الإلهية، والتفصيل في مقام آخر، وقال الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (8). وغير خفي: أن الالتزام بكون هذه الاستثناءات من المتصلة وإن كان يمكن، إلا أنه يوجب تغليظ القرآن، بل وتغليطه على وجه سيئ وإن كان مطابقا للنحو الأعم، فافهم. وأما هذه الآية فلا دلالة فيها على أنه من المنقطع، وقضية الأصل هو الاتصال. وتوهم: أن البيان المذكور لا يأتي في هذه الآية، لأن المتكلم استثنى إبليس، وحكم عليه بأنه أبى واستكبر، وكان من الكافرين، فليس النظر تأكيد المستثنى منه، فاسد، فإن التأكيد يحصل، ضرورة أنه لو كان في الملائكة من لم يسجد لاستثناه، لأنه أولى، فيكون الكلام لأجله متوغلا في المرام والمطلوب الغير القابل للتخصيص والتقييد، ولذلك منعنا جواز تخصيص الآية الشريفة (لا تأكلوا أموالكم...) إلى آخره. نعم الآية وإن كانت ساكتة، إلا أنه بعد النظر إلى الآيات الاخر الراجعة إلى خلق الشيطان، يظهر الانقطاع، ولكن بعد لفت النظر إلى خلق الملائكة وأصنافها وأقسامها، وأن إبليس منها، وأن الشياطين أيضا باعتبار من الملائكة حسب ما عرفت، تصير النتيجة أن الاستثناء متصل، ولعل الآية تدل على هذه الجهة، فيأتي البحث حوله في بعض المسائل الكلية الآتية إن شاء الله تعالى.

الوجه السابع: حول (أبى واستكبر) في تقديم جملة " أبى " على جملة " استكبر "، رعاية الجانب الموسيقي الطبيعي الموجود بين الحركات، وهذا هو أساس لطف الكتاب الواقع في السماع، مثلا: انظر إلى الألف من " الملائكة " ومن " لآدم " ومن " إلا "، فإنه يجب أن يؤتى ب? " أبى " قبل استكبر، حتى يقع الفصل اللازم بينهما، وهكذا بين ألف " أبى " وألف " كان " وألف " الكافرين " مع أن اجتماع السينات الأربعة من " اسجد " و " فسجدوا " و " إبليس "، يقتضي الفصل بينها وبين السين الرابع من " استكبر "، ففي كل من التقديم والتأخير لطف خاص يدركه أهله. ومن هنا يظهر وجه ضعف توهم القائل بأن حق الترتيب أن يقال: " كان من الكافرين واستكبر وأبى " نظرا إلى أن الكفر سبب الاستكبار، وهو سبب الإباء (9)، وقد تشبث بعضهم لحل هذا بما لا يعتنى به. فما في " تفسير المنار " (10) وأمثاله بعيد، غافلين عما أوضحنا، ذاهلين عن أن البلاغة هي المقتضية للتقديم والتأخير في اللفظ ما لا تقدم له بالطبع. ومن اللطائف في قوله تعالى: (وكان من الكافرين) رمز تقدم الكفر طبعا، بإتيان الفعل الماضي، أي هو كان قبل الإباء والاستكبار من الكافرين، وكان ذلك واضحا ومعلوما غير خفي. نعم إن كا معنى الكفر مقرونا بالفعل والعمل والعصيان فيتأخر.

الوجه الثامن: أثر نقل سجود الملائكة لآدم حيث امتلأت النفوس الإسلامية ونفوس المتشرعة - من ابتداء ظهور الإسلام إلى زماننا هذا - من أفضلية الملائكة، فالأمر بسجدتهم له خلاف البلاغة، وأنه يوجب الارتباك وتقديم المرجوح على الراجح. وفيه جهات من النظر: أن طائفة منهم أفضل، وهم المهيمنون وأن آدم فيه من القوة المتحركة إلى مقام " أو أدنى "، فالسجدة حين الأمر موجبة لارتقائه المتأخر، وأن في بدو الإسلام وإن كان الأمر كذلك، نظرا إلى ما كانوا يسمعون من بعض الكتب السالفة، ولكن بعد الحركة الإسلامية وجهود الرسول الأعظم، التفتوا إلى مقام آدم ومرتبته ومنزلته، وأن أفضليتهم عليه غير واضحة، مع أن في الآية إشعارا بأن آدم مسجود الملائكة، فكيف يرتضي بالسجدة للأوثان والأصنام ؟! وعلى كل تكون السورة مدنية، والمسلمون ملتفتون إلى بعض المسائل العالية بتوجيه القرآن العزيز، فلا معنى لاشمئزازهم من سماع السجدة لآدم، بل يفتخرون ويندمون على ما كانوا يصنعون.


1- البقرة (2): 35.

2- الأنبياء (21): 69.

3- النساء (4): 154.

4- الأنبياء (21): 20.

5- ص (38): 71 - 72.

6- راجع التفسير الكبير 2: 212.

7- الدخان (44): 56.

8- النساء (4): 29.

9- تفسير المنار 1: 226.

10- راجع نفس المصدر.