حول اللغة والصرف

الآية الرابعة والثلاثون من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾

وهناك أمور:

الأمر الأول: حول كلمة " السجدة " قال في " الأقرب ": سجد يسجد سجودا خضع وانحنى وانتصب. وقيل: يفرق بين السجود والركوع: أن الراكع ينحني واقفا، والساجد يخر على الأرض جاثيا، فلا يترادفان (1). وفيه: أيضا أن أصل المعنى في هذه المادة الانحناء (2). وفي " مفردات الراغب ": أصله التطامن والتذلل، وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله وعبادته (3). أقول: قوله: " وانتصب " في غير محله، ولعله زيادة من غيره، وتوهم الفرق على الوجه المزبور ممنوع، لقوله تعالى: (يخرون للأذقان سجدا) (4)، (خروا سجدا) (5). وما في " المفردات ": أنه مخصوص لله تعالى، في غير محله، وإلا لا يتعلق النهي به لغيره، فهو اختصاص تشريعي، لا لغوي. نعم لا يبعد الحقيقة الثانية فيما هو المتعارف في الحالة الخاصة في الركوع الصلاتي والسجود الصلاتي، بحيث ينصرف إلى تلك الحقيقة عند الإطلاق في محيط المتشرعة، دون العرب على الأظهر الأقرب. وربما يتوهم المتوهم: أن السجود مخصوص بالإنسان، وأنه خضوع عن شعور إنساني، وفي سائر الأماكن الاستعمالية يعتبر مجازا وتوسعا، والظاهر أنه مطلق التخضع، والالتزام بالمجازية للقرينة غير ممنوع جدا.

الأمر الثاني: حول كلمة " إبليس " أبلس: قل خيره، وانكسر وحزن، ومن رحمة الله يئس. لازم ويتعدى (6)، وظاهر اللغة أنه لم يأت منه الثلاثي المجرد، وهذا شاذ. وفي مواضع من القرآن الكريم استعمال الإبلاس ومشتقاته دون الثلاثي. وفي " الأقرب ": إبليس علم جنس للشيطان، وقيل: هو من أبلس، بمعنى يئس وتحير. جمعه: أباليس، أبالسة. والصواب أنه أعجمي بدليل امتناعه من الصرف (7). وفاقا لما نسب إلى الزجاج. ويشهد لكونه علما عدم استعماله بالألف واللام، إذ هو لا يدخل المعرفة، والأعلام معارف. والذي يظهر لي: أنه عربي لغاية التصاق معناه مع معنى الإبلاس، ولعل أصل الكلمة من " پلاس " الفارسية التي انتقلت إلى العربية، وصارت " بلاسا "، وهو معنى البساط النازل الموقوف للجلوس عليه، ومن الأمور المندرسة، فاشتقت منه العروبة، وعند ذلك لا يلزم امتناع صرفه أيضا إلا أن وجه الامتناع ربما كان العدول من المبلس - الذي هو الجنس - إلى " إبليس "، فصار علما، ويكفي ذلك للامتناع، والالتزام بأن " إبليس " علم شخص خاص، وإنما الاختلاف في كيفية وجوده، ممكن، وعند ذلك يعرب امتناعه عن الصرف بلا وجه عن امتناعه عن السجدة بلا جهة عقلية وعقلائية. ولعل أصل كلمة " البوليس " وكلمة " انجليس " من هذا الأصل، لقوة اقترانهما معنى ولفظا، ولا سيما الثاني معنى.

الأمر الثالث: حول كلمة " أبى " الإباء والاستكبار معلومان لغة، ولا اصطلاح لخصوص الأول، وبحسب اللغة ليس هو مجرد الترك، بل هو الترك المقرون بعدم التقبل المقرون بالعلة، وهي التأنف والتكبر، فيكون الاستكبار أحيانا منشأ الإباء. وأما الاستكبار فربما يتوهم أن له اصطلاحا في الكتاب العزيز المساوق للكفر والإلحاد والزندقة، ولا يستعمل في موارد الفسق بترك الواجب أو المحرم مع الإذعان بالحكم. وهذا وإن كان بحسب كثير من الآيات هكذا، إلا أنه غير ثابت، وغير بالغ عندنا إلى حد اكتست اللفظة حقيقة ثانوية أو اصطلاحا قاطعا، وللتدبر والتأمل مجال واسع. وقد مر سائر شؤون الآية لغة وهيئة وصرفا في الآيات السابقة. وغير خفي: أن " أبى يأبى " من الشذوذ في الصرف، إلا أنه قد ذكر الصرفيون موارد عديدة على فعل يفعل، ربما تبلغ أربعة عشر، مع أن ما توهم أبو القاسم السعدي أن " أبى يأبى " بفتح العين بلا خلاف (8) في غير محله، فقد حكى صاحب المحكم بكسر العين (9).


1- أقرب الموارد 1: 495.

2- نفس المصدر.

3- راجع المفردات في غريب القرآن: 223.

4- الإسراء (17): 107.

5- مريم (19): 58.

6- راجع أقرب الموارد 1: 58.

7- نفس المصدر.

8- البحر المحيط 1: 151.

9- نفس المصدر.