التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى
فعلى مسلك الأخباريين: (وعلم آدم الأسماء كلها) أسماء أنبياء الله وأسماء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من ذريتهم وأسماء خيار شيعتهم وعتاة أعدائهم (ثم عرضهم) عرض محمدا وعليا والأئمة (عليهم السلام) (على الملائكة) أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلة (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) إن جميعكم تسبحون وتقدسون، وإن ترككم هاهنا أصلح من إيراد من بعدكم، أي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم، فالحري أن لا تعرفوا الغيب الذي لم يكن، كما لا تعرفون أسماء أشخاص ترونها. (قالوا) قالت الملائكة: (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم) بكل شئ (الحكيم) المصيب في كل فعل. (قال) الله: (يا آدم أنبئهم) أي هؤلاء الملائكة (بأسمائهم) أسماء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) (فلما أنبأهم بأسمائهم) فعرفوها، أخذ عليهم العهود والميثاق بالإيمان بهم والتفضيل لهم (قال) الله تعالى عند ذلك: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) وما كان يعتقده إبليس من الإباء على آدم إذ أمر بطاعته (1) إلى آخر الرواية التي غير ثابتة عندنا. وقريب منه: أن الله تبارك وتعالى (علم آدم الأسماء كلها) أسماء حججه كلها (ثم عرضهم) وهم أرواح (على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (قال) الله تبارك وتعالى: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم) وقفوا على عظم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه في بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم، واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم، و (قال) لهم: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) (2). وفي رواية قال: " سألته عن قول الله (وعلم آدم الأسماء كلها) ماذا علمه؟قال: الأرضين والجبال والشعاب والأودية، ثم نظر إلى بساطه تحته، فقال: وهذا البساط مما علمه " (3). وعن الفضل بن العباس، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته عن قول الله عز وجل (وعلم آدم الأسماء كلها) ما هي؟قال: أسماء الأدوية والنبات والشجر والجبال من الأرض " (4). وعن داود بن سرحان العطار، قال: " كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدعا بالخوان فتغدينا ثم جاؤوا بالطست والدست سنانه، فقلت: جعلت فداك قوله: (وعلم آدم الأسماء كلها) الطست والدست سنانه منه؟فقال: العجاج والأودية، وأهوى بيده كذا وكذا " (5). وعن حريز، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، فقالت الملائكة أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا، فنحن جيرانه، ونحن أقرب الخلق إليه، فقال الله: (ألم أقل لكم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فيما أبدوا من أمر بني الجان، وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش " (6). وهذه الروايات في تفسير العياشي، الذي هو من أقدم التفاسير الموجودة بين المسلمين، ويكفي لصحتها سندا متانة متنها، مع أن بعضها قوي جدا. وفي رواية " إكمال الدين " مسندا عن الصادق (عليه السلام): " أن الله تبارك وتعالى علم آدم أسماء حجج الله - كلها، ثم عرضهم - وهم أرواح - على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) (قال) الله تبارك وتعالى: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم) بها وقفوا على عظم منزلتهم عند الله تعالى ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم " (7). وفي " البصائر " مسندا عنه (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن الله مثل لي في أمتي في الطين، وعلمني أسماءهم، كما علم آدم الأسماء كلها " (8). وعن محمد بن مسلم، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: إن جبرئيل أخبرني: أن الله علمك اسم كل شئ كما علم آدم الأسماء كلها " (9).
وعلى مسلك أصحاب الحديث: (وعلم آدم الأسماء كلها) فعن ابن عباس: أسماء ولده إنسانا والدواب، فقيل: هذا الحمار، وهذا الجمل، وهذا الفرس (10). وعن الضحاك عن ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودواب وسماء وأرض وسهل وبحر، وأشباه ذلك من الأمم. وعن سعيد بن معبد، عن ابن عباس، قال: علمه اسم الصحفة والقدر قال: نعم حتى الفسوة والفسية. وعن مجاهد: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شئ. وعن أمثال ابن جبير وقتادة: أنه علم اسم كل شئ. وفي رواية الربيع عنه: أسماء الملائكة (11)، ثم عرضهم علي الملائكة المسميات، كما عن قتادة (12). وعن جماعة منهم: ثم عرض الخلق (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين). فعن مجاهد بأسماء هذه التي حدثت بها آدم. وعن ابن عباس: إن كنتم تعلمون من جعل في الأرض خليفة (13). وعن ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن كنتم صادقين)، أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) فعن الضحاك، عن ابن عباس: تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك (لا علم لنا إلا ما علمتنا) تبرؤا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم. (إنك أنت العليم الحكيم) فعن ابن عباس: العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمه. (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم) فعن ابن عباس: أخبرهم بأسمائهم. (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) وفي رواية عن ابن وهب قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء، فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته، فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني. قال: وسبق من الله: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (14) قال: ولم تعلم الملائكة ذلك، ولم يدروه. قال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا لآدم بالفضل (15). وقال زيد بن أسلم: قال: أنت جبرائيل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل... حتى عدد الأسماء كلها، حتى بلغ الغراب (16). (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فعن ابن عباس: ما تظهرون، وأعلم السر كما أعلم العلانية، وما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (17). وعن ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: قولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها) فهذا الذي أبدوا (وما كنتم تكتمون) أي ما أسر إبليس في نفسه من الكبر (18). وهكذا في رواية عن سعيد بن جبير. وعن قتادة: أسروا بينهم، فقالوا: يخلق الله ما يشاء أن يخلق، فلن يخلق خلقا إلا ونحن أكرم عليه منه (19).
وعلى مسلك أرباب التفسير: (وعلم) أي أعطى آدم كثيرا من العلم، وأعطاه العلم الشديد المستجمع للكثير أو رباه بالتعليم (آدم) الذي هو مخلوقه تعالى، ومجعوله خليفة، والذي هو مورد سؤال الملائكة، والمنسوب إليه أنه يسفك كذا ويفسد، وكان بحسب التاريخ مبدأ هذه السلسلة من بني آدم، وهو الأب الأول (الأسماء كلها)، أي كل واحد مما كان له الاسم علمه، وما لم يكن له الاسم فلا تعليم بالنسبة إليه، أو علم مجموع الأسماء بتعليم واحد، فيكون الواحد محتويا على الكثير، فالعام على الأول استغراقي وأصولي، وعلى الثاني مجموعي. والنتيجة: أن التعليم يجوز أن يكون على نعت الكثرة، ويجوز أن يكون على نعت الوحدة الاستجماعية. (ثم) بعد مضي زمان طويل لتدريب آدم على تلك المعلومات، ولصيرورتها ملكة راسخة في وجوده، كي يخلص من الامتحان والافتتان على أحسن وجه عند الملائكة، أو كان ذلك التأخير حكميا، لأن المتعارف بعد التعليم بحسب النوع هو التأخير في العرض. (عرضهم)، أي الأسماء باعتبار إضافة طائفة منها إلى ذوي العقول، اكتسبت الأسماء منها التعقل، فجاز عود الضمير العاقل إليها، أي عرض آدم اسم كل واحد من الملائكة وبني آدم وسائر أسماء الأشياء، وباعتبار عرض المسميات فتكون المسميات ذوات العقول وغيرها، ويكفي أشرفيتها لجواز إرجاعه إليها كلها، ويجوز أن يختص العرض بذوي العقول، أي عرض ذوي العقول، فلا يكون جميع الأشياء مورد التعليم لهذه الجهة ولتلك القرينة، ويجوز أن يكون التعليم عاما صغيرا وكبيرا عاقلا وغير عاقل، والعرض خاصا ولذلك فصل بين الضميرين. (على الملائكة) عمومهم أو الملائكة الذين يجوز أن يحاجوا الله تعالى، ويصدر منهم هذه المخاصمة والافتراء والكذب، وغير ذلك مما يستظهر بدوا. (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) فخاطبهم الله بالإلهام والتحدث، أو بالإيحاء بواسطة سائر الجنود الإلهية وملائكة الوحي، وقال: أنبئوني وأبرزوا وأخبروا بهذا الخبر العظيم، فحثهم الله تعالى على أن يأتي كل واحد منهم أو مجموعهم - بمعاضدة بعضهم بعضا - بأسماء هؤلاء الموجودات العامة أو الخاصة، المعروضة بين أيديهم على نعت الكثرة الاندماجية أو التفصيلية، وفي اعتبار بالخصائص والمزايا من كل هؤلاء، التي منها الألفاظ الموضوعة لها، أو توضع لها بعد ذلك في الدنيا. (إن كنتم صادقين) أي القادرين فيما خطر ببالكم بالنسبة إليه، أو فيما صدر منكم ونسبتموه إليه في الآية السابقة، أو فيما تدعون من التسبيح والتقديس في تلك الآية الشريفة. وقريب منه: (وعلم آدم الأسماء كلها)، أي أظهر الله في آدم العلم بالأسماء كلها، بعد ما كانت طينة آدم وخلقته جامعة للقوى القابلة للحركة نحو الكمال، فيكون جميع أفعال الآية مجردة عن الأزمان، إما على ما ذهب إليه بعض محققي الأصوليين (20)، أو لكونه مستندا إلى الله تعالى الذي هو فوق الزمان، ولا يقاس بالنسبة إلى الماضي والحال والاستقبال، فلا يكون أدم شخصا خاصا في هذه الآيات، بل هي طينة خاصة قابلة لظهور الفيض عليها. (ثم عرضهم على الملائكة)، فيكون هذا العرض هو الخروج التدريجي من النقص إلى الكمال الذي يشاهده ملائكة الأرض والسماء، وتشاهده المربوبات بمشاهدة أنفسهم. (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) بعد وصوله إلى الكمال، وبعد عبوره قنطرة القوى والملائكة القائمة في الطريق، والمؤيدة له في الوصول إلى منتهى المقصود، فعند ذلك تعجز تلك الملائكة، ويصح - حينئذ - أن يقال: (إن كنتم صادقين)، لأنه كلمة تتعارف في موارد التعجيز من غير نظر إلى صدق المقال وكذبه. وقريب منه: (وعلم) تدريجا، وتربى تربية في الحجر متدرجا، وفي لواز الزمان والحركة (آدم) أي طبيعة آدم، لا الآدم الشخصي المعين، ولا كل فرد من أفراد بني آدم، فإن الآدم الأول لا يصح إسناد السفك والفساد إليه، وليس كل واحد من بني آدم مظهر جميع الأسماء القابلة للحركة والمتحركة إلى مرحلة الفعل والكمال على الإطلاق (الأسماء كلها) وهي أعم من الألفاظ والأصوات والمسائل والأفعال... وهكذا. (ثم) بعد طول الأزمنة المتحركة فيه نحو الكمال اللائق بشأنه (عرضهم على الملائكة) فإن تلك الكمالات عين العقل في قبال الملائكة، وإن كان كل شئ معدوما وهالكا بالنسبة إلى الله تعالى، وبالقياس إلى الصقع الربوبي، ولذلك أتى بضمير الجمع لذوي العقول في قبال الملائكة وفي المخاطبة معهم. (فقال) الله تعالى، أو الرب المطلق، أو الرب المقيد لقوله في الآية السابقة: (إذ قال ربك للملائكة): (أنبئوني) واجعلوني في معرض الخبر والاطلاع من غير حاجة إليه، فلا يكون الأمر للتكليف الحقيقي، وإنما اعتبر فيه تعجيز الملائكة وسوء تفكيرهم في هذه المسألة (بأسماء هؤلاء) الذين هم معلومات آدم التي هي المعقولات التي هي متحدات مع العقل، لاتحاد العاقل والمعقول بناء على اختصاص هؤلاء بذوي العقول. (إن كنتم صادقين) في الوجود وعين الصدق في الخواطر والذهنيات، فإن الوجود البسيط يوصف بالصدق والكذب، كالفجر الصادق والكاذب، وحيث لا يكون وجودهم عين الصدق والحق، كما حكي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أصدق شعر قالته العرب شعر لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم - لا محالة - زائل (21) فلابد ألا يكون ما خطر ببالهم عين الحقيقة.
وعلى مسلك الحكيم: (وعلم) الله تعالى بالوسائط الموجودة في قوس الصعود على أن تكون الوسائط ممر الفيض وتكون معدات، فإن واهب الصور هو الله تبارك وتعالى، ضرورة أن العلم في هذه النشأة، يحصل بالتدريج على جميع المسالك، ولا وجه لتوهم الإبداع. نعم التدريج بين بطئ وسريع يتوهم أنه من الإبداع (آدم) الذي هو مبدأ إعدادي لبني آدم، وهذه خاصية كل آدم، فإنه أبو الأوادم وأبناؤه بنو آدم بالضرورة، والكل مخلوق من الطين، فإن الطين مبدأ تكونه ومأكله ومشربه وملبسه... وهكذا. (الأسماء كلها) والكمالات بأجمعها من الأقسام الثلاثة: الكمالات الاعتقادية والكمالات الأخلاقية والعملية، فإنما " العلم ثلاثة: آية محكمة وفريضة عادلة وسنة قائمة " (22). وعلى هذا يكون نزول العلم تدريجيا بتدريجية الحركة الذاتية الطبيعية الخارجية، الواقعة في عينه وجوهره. (ثم عرضهم على الملائكة) فإن للعرض عرضا عريضا، من شروعه في الحركة إلى أن تنتهي الإمكانات الاستعدادية، والقوى التي تحملها المادة المصاحبة، فعلى هذا كان العرض عليهم في عرض الحركة نحو التعين بتلك الأسماء، إلا أن تمامية العرض لما كانت بعد تمامية الحركة، يصح استعمال كلمة " ثم " التي للتراخي وللتفصيل بالانفصال. وهناك اعتبار آخر مر سابقا، واعتبار آخر باختلاف الملائكة المؤيدين لتلك الحركة، وثالث وهو أن الملائكة الملاصقة والقوى المحركة تفنى طبعا، كي تصل الطبيعة الإنسانية في تلك الحركة إلى غايتها ومأمولها. وهو (الذي خلق الموت والحياة) فإن موت طائفة من الموجودات والقوى والأحياء، دخيل في حياة طائفة أخرى فلا عرض بالنسبة إلى الملائكة التي تفنى، وإنما حقيقة العرض، بعد استقرار العلوم واستكمال آدم (عليه السلام) وإن كان بعد يشتد كماله، لأن كل من يلازم الحركة والمادة يشتد كمال ما فيه حركته. (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) وفي ذلك استكمال للملائكة بظهور ما عندهم عليهم، كظهور الله في العوالم، فإنه الباطن والظاهر، وليس استكمالا اصطلاحيا، أو هو استكمال حقيقي، لكونها الملائكة الخاصة الاستخدامية لحل المشاكل في النشأة الدنيا، فيأمرهم الله تعالي فضلا عليهم لسماعهم الأسماء بالشهود لا بالقرع والانتقال، وفيه تعجيزهم عن الوصول إلى ما يكون آدم فيه (إن كنتم صادقين) في إمكان وصولكم إلى تلك المرحلة أو في وجدانكم للقوة والإمكان الاستعدادي مثل ما في آدم، وإلى بعض ما أشير إليه يشير الشاعر الفارسي: گر وحى به پشه أي رساند * صد مرتبه بيشتر بداند غافلا - خذله الله - عن أن هذا هو عين ما خطر ببال الملائكة: من أن بعد تعليم آدم (عليه السلام) كيف تصح المباهاة والجلسة الامتحانية والمشاجرة الصحيحة؟وعن جوابه. ولك دعوى: أن ما كان يخطر بباله كان بإمداد الملائكة، وهذا هو عين ما في الآية الشريفة، فملائكة آدم (عليه السلام) الذين وكلوا عليه في التعليم والتربية، كانوا يقولون هكذا، فاغتنم.
وعلى مشرب أهل الذوق والعرفان: إن الواو في قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) حالية، أي (وإذ قال ربك للملائكة) إلى قوله تعالى: (قالوا أتجعل فيها) إلى قوله تعالى: (قال إني أعلم ما لا تعلمون) (و) الحال (علم) في الأسبق الاعتباري التوهمي (آدم الأسماء كلها) فآدم هو الظهور الأول المستجمع لجميع الكمالات الوجودية الوجوبية الظلية، وقد مد ظله على رؤوس كافة الموجودات والأعيان الثابتة. ولأجل هذا يصح قوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة) لتأخر الملائكة في الظهور تأخرا فاحشا، لأنهم بعيدون عن الظهور التام للقلم الجاف بما هو كائن إلى يوم القيامة، بل ظهورهم في الحقيقة ظهور آدم الأول، وهو الكون الجامع والحضرة الخامسة من الحضرات الخمسة الأسمائية، وحيث إن تلك الحقيقة وذلك الظهور الأول في قوس النزول في الوهم، عين الحقيقة الآدمية في الصعود في التوهم، فإن القوسين خياليان، كان طرفهما بحسب الصورة هذا الأخيرة الذي هو الخليفة في الدنيا، الذي هو إجمال من ذلك الخليفة المنبسط على الأشياء بقضها وقضيضها وبغتها وسمينها، ولأجل هذا يصح قوله تعالى: (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء)، وما يأتي بعد ذلك من الآيات يدور حول هذه المرحلة من التشريع التكويني والإبداع الإلهي، وحيث إنهم رأوا أنفسهم بعد ذلك عاجزين تجلى آدم في أنفسهم بأعيانهم، فوجدوا أن الامر وراء ذلك صح قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) في جميع ما عندكم من الخطورات والكمالات والوجودات. وقريب منه: (وعلم آدم) جميع مقتضيات (الأسماء) وكافة شؤونها في العلم الربوبي، وتعلم عين الثابت الآدمي بذلك التعليم (كلها) من اللوازم والآثار في مرحلة الثبوت، وفي نشأة التعين الذاتي، وكان ذلك حسب اللسان الذاتي بمراجعة العين الثابت الآدمي، الذي هو جامع للأعيان إلى الاسم " المريد " الذي هو في الاعتبار متأخر، وطلب منه الظهور في الكثرة، وحيث إن الاسم " المريد " تابع " للقدير " أرجعه إليه، وحيث هو تابع في بلاطه تعالى ومملكته الأولية، المتظاهر بها الفيض الأقدس للاسم " العليم " أرجعه إليه كي يتبين ذلك في نشأة العلم الذي هو مقدم عليه اعتبارا، وحيث إن مقتضى " العليم " تابع مقتضى " الحكيم " أرجع إليه، فشرعت العين الثابت من المتكلم إلى الحكيم بالتردد في تلك الغرف وشؤونها، نظرا إلى جلب المبادئ الملازمة في تحققه، فجاء - بحمد الله وله الشكر - الدستور الأزلي حسب الأسماء الإلهية، التي تعلمها آدم وتعلم آثارها وشعبها وحدودها. (ثم عرضهم على الملائكة) كي يبرزوا بلسانهم الذاتي والتكلم الوجودي ما هو لوازم الأسماء الإلهية في الحضرة الواحدية (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) وأعرب الرب المتصدي للآدم، وأمر الملائكة بالإعراب والإيضاح والتكلم عن تلك الآثار والأعيان اللازمة للأسماء والصفات (إن كنتم صادقين) على الإطلاق وعين الصدق والحقيقة بحسب الوجود التشخص. هذا كله حول الآية الأولى من الثلاث، بقي الكلام حول الآيتين الأخيرتين:
فعلى مسلك المفسرين وأصحاب الرأي وأرباب التدبر: (قالوا سبحانك) قياسا ونظارة على توهم سوء الأدب المستشم من محاجتهم وحوارهم، أو بالنظر إلى نسبة الخلاف - كالفساد والسفك - إلى مصنوعه تعالى وخليفته، أو بالنظر إلى لوازم ذلك من الجهالة وخلاف الحكمة، أو بالنظر إلى توهم علمهم بشئ زائدا على ما علمهم الله تعالى، فعند هذه الأمور ينبغي التسبيح والوفاء بما ادعوا، وإنا نحن نسبح بحمدك ونقدس لك (لا علم لنا) على الإطلاق بنفي الطبيعي، فلا خبر وراء الاستثناء، ومن ذلك النفي هو العلم بعدم العلم فسراية المستثنى إلى المستثنى منه صحيح وجاز قولهم (لا علم لنا إلا ما علمتنا) أي في وقت علمتنا، أو الشئ الذي علمتنا، أو شيئا علمتنا (إنك أنت العليم الحكيم) بالضرورة، واختيار توصيفه تعالى بهما معلوم بما مر، كما أن اختيار هذه التأكيدات اللفظية واللغوية، وإظهار العجز بلسان الذات، تنبئ عن حدود الملائكة وكيفية وجودهم ومرتبتهم. (قال يا آدم) أبو البشر المخلوق الشخصي المادي الأرضي، غير المسبوق بآدم آخر هو أب له (أنبئهم بأسمائهم) انكشف لهم ما خفي عليهم من الأمور الكثيرة بإنباء آدم، وامتثل آدم أمر ربه بإظهار ما يعلم من الأخبار العظيمة والمعلومات الكثيرة، أو أنبئهم بأسماء الملائكة من بين سائر الأشياء، لأنهم إذا التفتوا إلى عدم عثورهم على خواص وجوداتهم، وأسماء أشخاصهم، وآثارهم وكمالاتهم وطريقتهم في الآتي، ينتبهون إلى سعة علم آدم الذي هو ليس منهم، فإذا ينبغي التسبيح لآدم والسجدة لمثله بالاستحقاق واللياقة. وبالجملة: إذا قيل له أنبئهم بأسمائهم أنبأهم بها، (فلما أنبأهم بأسمائهم) أي مطلق الأسماء والخواص والحدود، أو خصوص ما يتعلق بشؤونهم مما يتوجهون إذا أنبأهم آدم بها، فيزداد علمهم بإنبائه، أو يلتفتون، ويزول الأمر بعد ذلك. (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض) فتكون المسألة مربوطة بمسائل الغيب وبغيب السماوات والأرض، وأنه يتبين وجود الغيب لكل شئ وحصول الباطن وراء هذا الظاهر، وأنتم لا تعلمون إلا القليل، فإن العلم قليله مقسوم، والخطاب فيه التأكيد والحدة، كي يتوجه القارئ إلى عدم التجاوز عن حدود عرفانه وعلمه. وإن شئت قلت: قال الله تعالى في الآية السابقة: (إني أعلم ما لا تعلمون)، ومما لا يعلمون هو مسائل غيب السماوات والأرض بأجمعها، والله تعالى يعلمها بأجمعها، وعنده خزائن كل شئ، كما قال: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه) (23). (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) وطبعا يكون نوع توحيد وسنخية بين ما كانوا أبدوه وما كانوا يكتمونه، فقد ظهر منهم فيما سبق ما لا ينبغي، وكتموا في ذواتهم العداوة والبغضاء أو أبدوا عجزهم، وكتموا تقديرهم لآدم وسجدتهم وخضوعهم الذاتي له، أو أبدوا تسبيح الله تعالى وأن ما عندهم من العلم فهو من الله، وكتموا ما خلج ببالهم من مشاكل السجدة لآدم والابتلاء بإبليس، وأنه سيظهر على كافة الخلق أكملية آدم، وهو شديد عليهم.
وعلى مسلك الحكيم: (قالوا) أي الملائكة، وأفهموا وأعربوا عما في أنفسهم بالتجلي (سبحانك لا علم لنا) بسيطا ومركبا، ولا وجود لنا، فإنه عين العلم، والعلم عين الوجود (إلا ما علمتنا)، أي في وقت أوجدتنا وأبدعتنا، ولا حركة في هذه الطائفة من الملائكة، إلا ظهور وتجل هو يفسر بما في الكتاب الإلهي (إنك أنت العليم) فلا عالم فوقك، فان فوق كل ذي علم عليما، فتأمل (الحكيم) مؤكدا، فإن حكمته تعالى كسائر الصفات الأولية والعوارض العامة. (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم)، ويا خليفة الله أبرز ما وصلت إليه من الكمالات، وأظهر وحقق الحقائق الموجودة بوجودك، البالغة إليك بالحركة الذاتية الطبيعية، بخلاف تلك الملائكة الذين هم متعلمون بالإبداع، (فلما أنبأهم بأسمائهم) وبما في حقائقهم ومصالحهم ومفاسدهم، وبما فيه من حدود وجودهم وتعين صراطهم، وبما لا يحيطون ولم يحيطوا ولن يحيطوا، (قال) الله تعالى أو الملائكة المتوسطة التي هي الوسائط وتجوز نسبة أمورهم إلى الله وتجلى الإله عندئذ (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فلما تبين الأمر لكم أيها الملائكة العرضية المتوسطة بين الطوليات والسفليات، والعقول المتكافئة الناظرة بوجه إلى ما يقع في السوافل، أني عالم بما في غيب السماوات كلها والأرض، وبكل شئ، علما تابعا للعلم الذاتي المتعلق بنفس ذاته الأزلية، فأعلم الغيب المضاف بالغيب المطلق، ونعلم المشاهدة المضافة والمطلقة بهما، فنعلم الغيب المقيد والمشاهدة المقيدة، وهو ما تبدون وما تكتمون بالضرورة وبالأولوية القطعية، فلا يعزب عن علمه مثل ذرة في الأرض والسماوات.
وعلى مشرب أرباب الانس والعرفان: (قالوا) بلسان الذات في مرحلة المسمائية في الأسماء والصفات وملازماتها، وهي الأعيان الثابتة والماهيات الإمكانية المعتبرة في عالم الماهوت في وجه واللاهوت في آخر: (سبحانك) عن جميع النواقص بجميع معانيها، حتى هو المنزه عن التنزيه والتقديس، فإنه عين التحديد والتقييد (لا علم لنا) وإن نحن نفس العلم وعين النورانية، بل هم علمه تعالى بما سواه (إلا ما علمتنا) وتجليت في أعياننا حسب ما قدرت لنا بفيضك الأقدس، فإن المقدس من الفيض تابع الأقدس (إنك أنت العليم) ولا شئ وراءك كي يكون هو العالم (الحكيم) ولا حقيقة إلا لك كي هو يوصف بالحكمة. (قال) الله تعالى بلسان الذات من حيث هي هي، وهي الحضرة الأولى، أو بلسان الأحدية النفسية، أو بلسان الواحدية الجمعية، والثالث هو المعرب بالحقيقة: (يا آدم) وبقوله تعالى: (يا آدم) ظهر الوجود والظهور الثاني، لكونه الكون الجامع، وهي الحضرة الخامسة، وباعتبار ظهر الوجود وبرز الظهور الأول، لكونه خطابا إلى العين الثابتة، وهي الحضرة الرابعة (أنبئهم بأسمائهم) فبإنبائه ظهر الكائنات على حدود الناقصة، واتبع الفيض المقدس ذلك الظهور الأول الذي هو الأقدس (فلما أنبأهم بأسمائهم) وبالطريقة المتعينة لهم في الأزل، السالكين فيها في الأبد، والماشين عليها للوصول إلى ذلك الاسم في نشأة الواحدية حتى يصلوا إلى الأحدية، وتبين - عندئذ - حدود القوسين من العظمة غير المتناهية (قال ألم أقل لكم) إني أعلم ما لا تعلمون (إني أعلم غيب السماوات والأرض) الذي هو الوجود المختفي بالآثار والأسماء (وأعلم ما تبدون) من التخيلات والتسويلات (وما كنتم تكتمون) عن الأغيار، غافلين عن أنه ليس في الدار غيره ديار.
1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 217 / 100.
2- راجع كمال الدين 1: 13 - 14.
3- راجع تفسير العياشي 1: 32 / 11.
4- راجع تفسير العياشي 1: 32 / 12.
5- راجع تفسير العياشي 1: 33 / 13.
6- راجع تفسير العياشي 1: 33 / 14.
7- راجع كمال الدين 1: 13 - 14.
8- راجع بصائر الدرجات: 103 / 1.
9- راجع بحار الأنوار 40: 186 / 69.
10- راجع حول هذه الأقوال إلى تفسير ابن كثير 1: 126.
11- راجع تفسير الطبري 1: 216.
12- راجع تفسير ابن كثير 1: 128.
13- راجع تفسير الطبري 1: 218 حول الأقوال وما بعدها.
14- هود (11): 119.
15- راجع تفسير الطبري 1: 222، وتفسير ابن كثير 1: 129.
16- راجع تفسير ابن كثير 1: 129.
17- تفسير الطبري 1: 222.
18- نفس المصدر.
19- راجع نفس المصدر: 223.
20- راجع حول المسألة وأقوالها تحريرات في الأصول 1: 363.
21- راجع السنن الكبرى 10: 237، ومسند أحمد 2: 248.
22- الكافي 1: 24 / 1.
23- الحجر (15): 21.