بعض البحوث العرفانية والمسائل الإيقانية

البحث الأول: في تعليم الأسماء اعلم أن هذه الآية الشريفة، لاشتمالها على ضمير المفرد والمؤنث مع كون مرجعه الأسماء، وعلى ضمير الجمع المذكر للعقلاء مع أن مرجعه ذاك المرجع، تشير إلى مائدة سماوية ومقالة عرفانية، وبها تنحل مشكلة الآية وإنما اختلفت أرباب التفسير والقشريون فيما ليس من شأنهم التدخل فيه، وسيمر عليك: أن ما في بعض الأخبار المنسوبة إلى أئمة الهدى (عليه السلام) أيضا يؤكد هذا النمط الشريف وهذا المنهج المنيف. قد تبين أن آدم أنموذج الموجودات السوائية الحاوية لكل الكمالات الإمكانية على نعت القوة البالغة في طينته أحيانا إلى حد الفعلية وأن جميع أفراد هذا النوع من الخلق فيه تلك الفطرة الإلهية و (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) (1) إلا أن بعضهم محجوبون، وبعضهم واصلون، وهم قليلون (وقليل من عبادي الشكور) (2) المتحرك نحو ما فيه من الكمالات الإلهية والأسماء الكلية، التي مرت كيفية تقسيمها إجمالا في سورة الحمد، وحيث إن المسمى بتلك الأسماء هو الله تعالى لا غير، وإن حقيقة الله تعالى تليق بأن تسمى بشئ يعرب عنه، ويكون مظهرا له دون غيره إلا ثانيا وبالعرض ومجازا وقنطرة، فالأسماء في قباله تعالى وفي وجهه النظر المتعدد، وفي اللحاظ الكثير تكون غير ذات العقول، لأنه تعالى هو عين العقل والعاقل والمعقول، وهو عين العلم والعالم والمعلوم، فلا يصح إلا أن تعتبر غير ذات العقول، وتلك الأسماء هي الخطوط والروابط والصراط الخاص، بين كل موجود في نشأة الكثرة وذلك الوجود البحت البسيط و (إن ربي على صراط مستقيم) وينادي كل إنسان في كل يوم مرات (إهدنا الصراط المستقيم)، فهذه الأسماء أجنبية عن الألفاظ، وبعيدة عن خواص الأشياء والأدوية والكيماوية والآثار والأبنية والمواد والهيئات في الأرضين والأمور السماوية التي توجد في كلمات العلماء القشريين الإسلاميين والحكماء اللبيين القاصرين، بل هي واحدة في الذات الأحدية، وكثيرة في الواحدية الجمعية، التي من المناكحات الكلية والجزئية تحصل اللا متناهية وتجر الخلائق نحوها، وإذا قيل: عرضهم، فهم عين العقل والعقول، لأنهم عين الوجود الجامع بين الغيب والشهود، ولا تنجذب نحوها إلا ما هو أكثر ارتباطا بها وأظهر فيها، تلك الموهبة التي منها الموهبة الشيطانية الكلية الوهمية، فإنها أيضا معروضة على آدم الكلي السعي، وعلى جميع أفراد الآدم الكلي الطبيعي، وحيث إن الملائكة محدودة، غير واجدة للقوة الراقية نحو تلك الأسماء على الإطلاق، بقيت متحيرة وعاجزة عن الجواب حسب التكوين المشعر به القرآن، من غير أن تكون مقاولة لفظية، أو مباحثة خاطرية أو ملاحمة وهمية، أو هواجس فكرية، فلا عرض بحسب ما هو معروض المعلم عند المتعلم، مع أنه عرض أقوى منه بما لا يتناهى، وحيث لا يكون في عالم الألفاظ والخلقة الصوتية ما يؤدي حقه يتشبث بتلك التعابير القاصرة الموجبة للانحطاط، الذين هم غير واردين وردها وغير متشبثين بأذيالها وهم أئمة التوحيد (عليهم السلام) وتوحيد الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين. وبالجملة: هذه الألفاظ أسماء لكونها تعرب عن أشياء، وهذه الأشياء أسماء لكونها معربة عن المسيرة، وتلك المسيرة اسم لكونها كاشفة عن جهة السير إلى الله تعالى، وتلك الجهة اسم لكونها موضحة لوجود المبدأ السيري في المبدأ الأعلى، وهو اسم لأنه نور يكشف عن البسيطة الإطلاقية، وإن تلك الكثرة الأسمائية تنتهي إلى الوحدة الذاتية، وهذا هو أحد معاني الأسماء الخمسة الإلهية الدارجة في لسان العارفين القائلين: بأن الحمد لله تعالى بالألسنة الخمسة أو بالحضرات الخمسة. فما هو مورد تعليم الله آدم (عليه السلام) هي الأسماء بما لها من الإعراب والإيضاح، وما هو المعروض هي المسميات التي هي عين الأسماء، فالمرجع واحد ذاتا في الضميرين ومختلف اعتبارا، وغير ذات العقول في القياس إليه تعالى، وكل العقول في القياس إلى أنفسهم وأنفس الملائكة. وغير خفي: أن من تلك الأسماء هي الملائكة ذواتها، إلا أن ما هو المعروض عليهم هي الجهات الأسمائية في الذات الإلهية، الراجعة إلى أنفسهم الجاهلين بها وبعودها إليها، أو صدورها منها على وجه لا يلزم صدور الكثير من الواحد البسيط.

البحث الثاني: ثبوت الشعور لكافة الموجودات إن من المسائل المبرهنة عند أصحاب الكشف واليقين والمشاهدة، عند أرباب الذوق المستقيم والإيمان القويم، شعور جميع الموجودات بمعنى العلم بالعلم، وأنهم ذوات الحياة المشككة، لأن الوجود عين الحياة والعلم ولا ينقص ولا ينفد، ولا ينسلب عنه شئ في المدارج والمراتب التوهمية، ولا في الكثرة التخيلية التي هي عين الواقعية، كما مر مرارا في هذا المضمار، فبعد ما تبين معنى قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة) يتبين أن جميع الأسماء التي هي عين التكوين، وهي ألفاظ بالقياس إليه تعالى، وأعيان بالنسبة إلينا، عين العقول والشعور والحياة والعلم بالعلم، فلا يصح رجوع غير ذوي العقول إليهم وتفصيله يأتي إن شاء الله تعالى عند قوله: (كل قد علم صلاته وتسبيحه) (3) وقوله تعالى: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (4) وإليه يشير الشاعر: نطق آب ونطق خاك ونطق گل * هست محسوس حواس أهل دل (5) ويرمز إلى هذه المائدة تسبيح الحصاة في يده (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي إحدى معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه ليس إلا برفع الحجب عن سمع الحاضرين. والله هو الحق المبين. فحديث التغليب فيما نحن فيه من قصور أصحاب التفهيم، ولنعم ما ورد في تفسير العياشي، كما يأتي عن الصادق (عليه السلام): " أنه سئل عماذا علمه؟قال: علمه الأرضين والجبال والشعاب والأودية. ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: هذا البساط مما علمه " (6) روحي وروح العالمين لتراب قدمه الفداء، فانظر كيف أنه (عليه السلام) كشف النقاب - بمقدار فهم السائل - عن هذه الحقيقة التي خفيت على مدعي فهم القرآن الكريم ؟! والعن اللهم من حجب بين الملة الإسلامية وعباد الله تعالى وبين أهل بيت الوحي والتنزيل والأئمة الهداة المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين - وسيأتي إن شاء الله تعالى - الأخبار الخاصة حول الآيات الثلاث في مبحث التفسير والتأويل.

البحث الثالث: حقيقة التعليم من الرب العليم لو فرغنا في هذه النظرة عن الزمان والمكان، ووجدنا أن الخلق والخالق في هذه اللحظة الجمعية بعيدان عنهما، نجد مسألة لطيفة عرفانية فلسفية، وهي أن تعليمه تعالى عين الإيجاد على نعت الفطرة في قوس النزول، وكان ذلك في المراحل الفارغة عن الغيب والشهود، ثم بعد حركة آدم (عليه السلام) في قوس الصعود، تبين للملائكة - الذين خطر في ذواتهم بعض ما لا ينبغي - أنه كان مستجمعا للأسماء الإلهية والكمالات الأسمائية، البالغة في الحركة الصعودية إلى مرحلة الوجوب والوجود المطلق، فالعرض عرض تفصيلي في قوس الصعود، والتعليم تعليم إجمالي في قوس النزول، وتلك المقاولات كلها أصوات بلسان الذوات، فيعلم منه تجرد الإنسان والنفس حتى يتم القوس الثاني، ويصل إلى المجرد المطلق والكامل على الإطلاق، وإلا فيلزم الخلاء. وهذا أحد الوجوه المستدل به - في بعض الكتب العقلية - لتجرد النفس البشرية، نظرا إلى لزوم تطبيق القوسين وتكميلهما. فهذه المحاكمة بين الله تعالى والملائكة، وهذه الاستعراضة الجامعة لجميع الاستعراضات العصرية العسكرية وغير العسكرية، وهذا الفريق الأول والإسبهبد الإلهي الآدمي، كلها في هاتين النشأتين الغيبية، والشهودية، بعد تجردهم جميعا عن الزمان والمكان وسائر الأبعاد المتصورة، لكونها كلها داخلة في الأسماء التعليمية، وواردة في قلب الكون الجامع. والله العالم. وربما يشير إلى هذه المائدة السماوية من الآية الشريفة قوله تعالى: (كما بدأكم تعودون) (7).

البحث الرابع: حول التعبير بالإنباء فيه من العرفان الإلهي والحكمة الربانية، وهو السر المستور حول قوله تعالى: (أنبئهم بأسماء هؤلاء)، ولم يقل الله تعالى: علمهم، كي تتوجه الملائكة إلى جهالتهم الذاتية ودنوهم الواقعي، مع أنه معلمهم، والله تعالى معلم آدم، فهم مع لفت نظرهم في هذه الصورة إلى أكملية آدم (عليه السلام)، كيف خوطبوا بالإنباء والإخبار بهم دون التعليم؟وهل يمكن التفكيك بين الإخبار هنا والتعليم، أو يستلزم الإنباء والاستماع والاطلاع علمهم بعد ذلك ؟! وذلك أن الفيض الإلهي في مرحلة الكثرة يتعلق بالماهيات المختلفة في الحاجة إليه، فمنها القواهر الأعلون، والعقول العرضية وهي القواهر الأدنون والمثل النورية فإنها يكفي لوجودها ولنزول الفيض عليها مجرد الإمكان الذاتي، ولا رقاء لها ولا حالة استكمالية تتصور فيهم طبعا، ولا جهالة لهم بالنسبة إلى جميع ما دونهم، لكونهم العلل أو ممر الفيوض الإلهية، ومنها الموجودات والماهيات المحتاجة إلى الإمكان الذاتي وإلى التقديرات الكمية والأبعاد الخاصة والكيفيات المتخصصة من قبل عللها، فهم أيضا أنواع ولا أفراد لها ولا حالة انتظارية تتصور في حقهم. وأما ما اشتهر بين حكماء السلف من الحاجة إلى المادة المحضة دون لواحقها، فهو مجرد تخيل لا أصل له عندي، كما حررناه في " قواعدنا الحكمية "، فإن جميع ما في عالم السفليات - سماويات كانت أو أرضيات - محتاجة إلى المادة والمدة والهيولي والإمكان الاستعدادي والحركة وحصصها، كي تصل إلى منزلها أحيانا. وما اشتهر من تقسيم المادة إلى الأثيرية والعنصرية، لا أصل له، بل كلها عنصريات. ومنها ما هو المحتاج إلى المادة والمدة، زائدا على الإمكان الذاتي والمقدار المتخصص له من قبل علته أو الحاصل له بعد حركتها إلى غايتها، وتسمى الأولى مبدعات، والثواني مخترعات، والثوالث كائنات حسب الاصطلاحات، نظرا إلى قصور اللفظ وخوف الإطالة. وهذه المسائل تستنبط من هذه الآيات، كما مر الإيماء إليه، فإن آدم كان فيه الحالة المنتظرة وإمكان الحركة الذاتية نحو الوجوب الإطلاقي والوجود الحقيقي، فكان فيه الإمكان الاستعدادي والقابلية المتقدرة بالفيض الأقدس، فعلمه الله تعالى ما لم يعلم بخلاف الطائفة الثانية الكاملة في بدو الخلقة، المنزهة عن قابلية الحركة إلى ما هو الأكمل عنهم فلذلك أنبئهم بأسماء ولم يعلمهم وما أمر آدم بالتعليم لفقدهم شرط التعلم. هذا، ولكن الظاهر من هذه الآيات، أن هذه الملائكة من ملائكة الأرضين والقوى الحافة الشاعرة المسبحة والمقدسة، المسخرة للغيب القابلة للمحاجة والمكافحة، التي هي مخالفة للأدب ونوع فساد منهم، وقابلة للعرض والإنباء والمقاولة حسب طبائعهم، فتكون على هذا هي من الطائفة الثالثة، ولكن على جميع التقادير تكون المقاولة والمجاوبة والاستعراض شبيهة صفحات " السينما " وشاشة " التلفزيون "، ولأجل ذلك لا يلزم أن يتعين الملائكة الجاهلون بالمصالح والأسماء بتلك الأسماء والكمالات والصفات والوجودات الخاصة، الراجعة في القوس إلى وجوب الوجود على الإطلاق. وبالجملة: لا يلزم بمجرد رؤيتهم تلك الآثار والغيوب والخواص والأسماء ومبادئها البسيطة من شاشة " التلفزيون "، أن تصير ذواتهم مستكملة لكونها مستكفية بحسب الطينة والخلقة، ولا تزيد بذلك الاستعراض ذواتهم، ولا تتعين بأعيان الكمالات الواقعية الأسمائية.

البحث الخامس: حول غيب الأشياء يستظهر من قوله تعالى: (غيب السماوات والأرض) أن لكل شئ غيبا، فإن العموم استغراقي، فلا شئ فيهما إلا وله غيب وباطن زائدا على هذا الظاهر، وسر وراء هذا المرئي، ويستظهر أن ذلك الأمر المغيب واحد شخصي، لأن كلمة " غيب " واحدة شخصية، وإنما يتكثر ذلك الواحد الشخصي بالإضافات إلى ما في الأرض والسماوات، كما أضيف في اللفظ، فعلى هذا ما هو حقيقة موجود - وهو الصادر - واحد، وهذه الكثرة الظاهرية كثرة خيالية وهمية، وما به الشئ شئ هو السر والغيب، والمختفي تحت جلباب هذا العنوان وتلك العناوين المتكثرة في الكثرة الإضافية: كل ما في الكون وهم أو خيال * أو عكوس في المرايا أو ضلال (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) (8). وبالجملة: تحصل إلى الآن أن ما هو معلوم الله في النشأة الظاهرة واحد بالذات، وهو علمه الفعلي، وهو الوجود المنبسط على رؤوس الماهيات الإمكانية والأعيان الثابتة، التي يتشكل بها السماوات والأرض، وليس لكل شئ غيب متباين الوجود عن الغيب الآخر تبعا للتباين التوهمي المترائي في القشر والصورة، فإن القشريين - بما هم قشريون - حيث لم يصلوا إلى مغزى الحقيقة ومخ الوجود ولب الواقعية، ظنوا كثرة واقعية وتباينا أصيلا، يرجع إلى كثرة الإرادة الفعلية والصفتية طبعا، الراجعة إلى الكثرة في الذات الأحدية، التي تصبح كفرا وإلحادا وظلمة واستبعادا. والله من ورائهم محيط، وله الحمد والشكر.


1- الروم (30): 30.

2- سبأ (34): 11.

3- النور (24): 41.

4- الإسراء (17): 44.

5- مثنوى معنوى، دفتر أول، بيت 3279.

6- راجع تفسير العياشي 1: 32 / 11.

7- الأعراف (7): 29.

8- الفرقان (25): 45.