بعض البحوث العقلية والمسائل الفلسفية

المسألة الأولى: حول كيفية التعليم اختلفت كلمات أرباب الفلسفة العليا والحكمة العامة في أن تعليم المعلمين إفاضة العلم، لقبول في المادة النفسية والهيولي الموجودة في الطبيعة والطينة، أم المعلمون يرفعون الحجب عن تلك الصور العلمية، الموجودة في الطبيعة بنحو من البساطة والاندماج. هذه المسألة - مضافا إلى أنها محط الخلاف ومحل النقض والإبرام والقيل والقال وإن قلت قلتات - من المشاكل الإلهية والمعاضل الطبيعية، لارتباطها بالمسائل المختلفة، ولم يتبين لأصحابها مرامهم حقه ومرادهم واقعه، ولأجل ذلك نجد في هذه الآية الشريفة ما يفي بالمسألة حقها ويتبين بها حقيقتها، إذ يقول الله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)، فإنها ظاهرة في أن طينة آدم كانت مجرد القابلية، لأنها قد تحركت بالحركة الطبيعية من المادة السفلية ومن الأرض الأولى إلى طبقات السماوات من العلقة والمضغة... وهكذا إلى أن تهيأت لنزول الصور العلمية فيها كلها، وحيث كان الفيض عاما والفاعل تاما، نزلت عنده الصور برمتها والأسماء بأجمعها، فلا يكون المعلم إلا الله تعالى، فالقول بأن التعليم رفع الحجب عن تلك الهيولي والمادة غير مصيب في وجه. وحيث قد عرفت أن آدم المعلم ليس هو الآدم الشخصي الخارجي البالغ سنين، بل هو جهة كلية آدمية موجودة في كل إنسان وفي بني آدم كلهم، فتلك الطينة فيها العلوم كلها على نحو البساطة والاندماج، وعلى نحو الاختفاء، وأن الأسماء مفاضة عليها من ذي الأسماء، لما فيه من تلك القابلية الخاصة، بخلاف الملائكة المتكيفة البالغة حدها الوجودي، يتبين لك بعد ذلك أن المعلم يرفع الحجب ولا يفيض، فإن الإفاضة حق الله تعالى، ولا يعطي الصورة، بل هو مذكر ما سلف في معراج آدم، وينبه على ما عنده المكتوم من القديم البعيد، فالقول بأن المعلم يفيض باطل عاطل من وجه، وكلا القولين حق، نظرا إلى ما حررناه وقربناه، وقرأنا لك فاستمع لما يوحى إليك، ولا تكن من الجاهلين، والحمد لله رب العالمين.

المسألة الثانية: حول تجرد النفس من المسائل التي تستنتج - حسب الموازين العقلية - من هذه الآية أن آدم فيه من القوة في قوس الصعود إلى أن يصير جامعا للأسماء الإلهية والصفات الكلية والسعة الوجودية على وجه به يتم القوس، (فكان قاب قوسين أو أدنى) (1) فهذه المادة القابلة للتعليم بالخروج من الضعف إلى القوة ومن النقص إلى الكمال ومن الهيولي إلى الصورة المطلقة، بالحركة الجوهرية الذاتية الطبيعية العشقية السجلية، فليس تعليمه تعالى خارجا عن قوانين العلة والمعلول، وعن مسائل العالم الإلهية والطبيعية، وتعليمه تعالى كتعليمه لي ولغيري، إلا أن المواد تختلف باختلاف القابلية، التي تستند إلى العلل السابقة والمعدات الموجودة على ما تحرر في محله. وقد اشتركت الطينة الكلية الآدمية في تلك القابلية العامة، واختلفت في الاحتجابات اللاحقة من قبل العلل والمعدات والآباء والأمهات - كما ترى - حسب الافراد والأشخاص، فإذا كانت فيه القابلية العامة للأسماء الإلهية والصفات الكلية - بنحو العموم والاستغراق - يتم قوس الصعود بوصوله إلى مقبض الوجود ومبسطه، وهذا مما لا يتيسر إلا للمجرد الكلي المتجاوز عن حد المادة إلى تلك الحدود الكلية السعية، ويثبت بذلك تجرد آدم أولا وقابليته للتجرد التام الذي فيه من الأسماء كلها، وربما فيه أيضا السر المستسر والاسم الخاص الذي أستأثر به الله تعالى لنفسه، فإنه أيضا فيه حسب هذه الآية الشريفة العامة، كما نشير إليه في بحوث عرفانية إن شاء الله تعالى. وبالجملة: مقتضى هذه الآية لزوم التجرد للنفس، الذي هو محل الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين، مع أنه تجرد بالغ غايته واصل نهايته، فالعجب من المتكلم المتشرع كيف يرضى بمادية النفس، وبأن الروح شئ لطيف وجسم ظريف، أو أنها كالريح، غافلين عن هذه الآية المباركة، والله هو المستعان على ما يصفون.

المسألة الثالثة: حول حديث النفس اختلفوا في أن النفس روحانية الحدوث والبقاء، أو جسمانية الحدوث وروحانية البقاء على أقوال (2)، بعد اتفاق أرباب العقل على أنها روحانية البقاء، كما تحرر في المسألة الثانية. وقد اشتهر القول بروحانية الحدوث والبقاء بين الإشراقيين والمشائين، إلا أن الطائفة الأولى قالوا بقدم النفوس (3)، والثانية قالوا بحدوثها بمجرد حدوث البدن القابل لتعلق الروح به (4)، وقال معلم الحكمة المتعالية ومؤسس المناهج الجديدة: بأنها جسمانية الحدوث وروحانية البقاء (5). وعند ذلك ربما يستشم من الآية الشريفة بانضمامها إلى الآية السابقة: أن آدم في قوس النزول علم بالأسماء وعرضها على الملائكة، وأن الله تعالى قاول مع الملائكة في هذه القصة، برفع الحجب وبإبراز ما في آدم من الفساد، ثم إعلام ما فيه من علم الأسماء... وهكذا، فعلى هذا كانت النفس الآدمية قبل أن تتعلق بالبدن، وتصير خليفة في الأرض، كانت مورد التعليم الإلهي، ومهبط الأسماء السماوية، فتكون روحانية الحدوث، ويؤيد بها قول الأسبقين والمشهور بين العقلاء والمتفكرين من الإشراقيين المشائين. أقول: إن المحاجة والمقاولة كانت على نهج الرمز بين الملائكة وربهم الأعلى، وأما الملائكة فهم كانوا يتوجهون إلى فساد آدم حسب تخيلهم، من جهة ما كانوا يشاهدون من أبناء النسناس والشيطان أو من أمور اخر، ومنها مناسبة الأرض والمادة المركبة والسفك والإفساد كما مر، فلا يلزم إلى هنا تقدم خلقة آدم بحسب الروح على البدن، ثم بعد ذلك يمضي مدة مديدة حتى تصلح المادة البدنية لنزول الصورة الآدمية والإنسانية، وتحركها نحو الكمال اللائق بحاله، وتعلمه الأسماء الإلهية، وتعينه بالصفات الرحمانية، وبلغ حين الاحتجاج على الملائكة، والتفاتهم إلى جهالتهم في النقاش بالعرض عليهم، ما حصلت له من الصفات والكمالات التي لا تنبغي للملائكة، إلا من شذ منهم، وكان ذلك الحصول في قوس الصعود، لإمكان أن يشاهد البشر ملائكة الله وهو متعلق بالبدن روحا، كما كان كثير من الصديقين والأنبياء والأولياء، ويتكلمون معهم، وقد ورد في مواضع من الكتاب ما يصرح بذلك، قال الله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة) (6)، ومن الآيات الشاهدة على هذه المقالة من البدو إلى الختم قوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم) (7)، فيكون آدم الكلي السعي والطينة والمخمرة بيدي الرب الجليل، لورود الأمر بالسجود، كما أن الخلق قبل التصوير والإكمال - مع وحدة الخطاب - يشهد على جسمانية الحدوث، وأن النطفة قوة الإنسان وإنسان بالقوة، فيخاطبه الله بأنه خلقكم، ثم صوركم بنفخ الروح فيه، حيث إن جميع صور العالم بنفخ الله تبارك وتعالى، الا الله أن تعظيم شأنه اقتضى الاختصاص المذكور، فدلالة هذه الآية الشريفة - والآيات السابقة - على أن النفس روحانية الحدوث، محل منع، كما تمنعه العقلاء.

المسألة الرابعة: حول مسألة التشكيك في الوجود من البحوث الراقية - في الحكمة المتعالية - حديث التشكيك في الوجود، بعد الفراغ عن أصالة الوجود والاشتراك المعنوي، ومن القواعد الواصلة إلينا، وقد حررتها في حواشينا على " الأسفار الأربعة "، وفي قواعدنا في الحكمة المتعالية المسماة ب? " القواعد الحكمية ". قاعدة كل شئ في كل شئ، وقد اختلفت العبائر الواصلة: ففي بعض الكتب يعبر عنه: بقاعدة الكل في الكل، وفي تعبير ثان: كل شئ في كل شئ، كما في " شرح مفتاح الغيب " لابن الفناري، وفي تعبير ثالث: كل شئ فيه معنى كل شئ، وتفصيل المسألة في محله، كما هو معلوم لأهله (8). وإجماله: أن هذه الآية الشريعة (وعلم آدم الأسماء كلها) تشعر بهذه القاعدة، حيث إن وجود الأسماء والعلوم عند آدم والإنسان، يكون على وجه القوة - حسب ما عرفت فيما سبق - وليس شئ يفقده آدم (عليه السلام)، فيكون هو ورب الأرضين والسماوات في الاتحاد المذكور على نهج واحد في الجامعية، إلا أن فيه تعالى بالأصالة والذاتية، وفيه بالإفاضات والمجازية. وأما قوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة)، فهو بعد خروج تلك الأسماء من القوة إلى الفعل، وفي الإتيان بضمير المفرد المؤنث عند قوله تعالى: (كلها) وبضمير الجمع لذوي العقول في قوله تعالى: (ثم عرضهم)، اسرار، ومن تلك الأسرار هذه اللطيفة الرحمانية، فإن تلك الكمالات - التي لا يشذ عنها آدم (عليه السلام) - إذا كانت في مرحلة القوة والاندماج، فهي واحدة مؤنثة، وإذا بلغت إلى مرحلة الكمالات الفعلية والكثرة الجامعة، تصير من ذوي العقول، وتليق بإرجاع ضمير الجمع إليها. والحمد لله.

المسألة الخامسة: نسبة الأفعال إليه تعالى من المسائل التي لابد من لفت نظر المفسرين إليها، مسألة نسبة الأفعال والأعمال إلى الله تعالى وإلى غيره، وملاحظة الضمائر والنسب مما تعطي كثيرا من المعارف والحكم. مثلا في هذه الآيات نسب تعليم العلم إليه تعالى، وهو ظاهر في أنه تعالى قد تصدى لذلك مباشرة، ورب آدم (عليه السلام) في ذلك بالملاصقة، على وجه لا يلزم منه خروج الممكن عن حد الإمكان فيما لا يزال، ولا يلزم منه نزول الواجب عن حد وجوبه، وقد مر، وذلك لأن الوسائط الموجودة في البين موجودة بإيجاده تعالى ومستندة إلى إرادته، فيستند إليه تعالى ما هو المتأخر بنحو الأولوية والأحقية، لأنه المفيض حقيقة، والوسائط ممر الفيض، فنسبة الأفعال المتوسطة إليه تعالى جائزة حسب الموازين العقلية، ويستكشف من هذه الآيات كيفية وجود النسب، وحمل الانتساب على المجازية خلاف الأصول الأولية، وهكذا نسبة العرض إليه تعالى، وغير ذلك مما ترى في هذه الآيات الثلاث. كما أن تخيل: أنه تعالى مباشر لهذه الأفعال - كما عن جماعة من القشريين - نظرا إلى ظواهر الآيات الشريفة باطل عاطل عند ذوي الألباب والنهى والأبصار والهدى.

المسألة السادسة: الكينونة السابقة للأشياء إن قوله تعالى: (إني أعلم غيب السماوات والأرض) يشير إلى مسالة عقلية، وهي الكينونة السابقة لجميع السماوات والأرضين، ولو كانت على نعت الكثرة في الوحدة، والغيب الذي يعلمه الله تعالى هنا، بعد مقايسة هذه الجملة إلى الآيات السابقة، هو الباطن والأسرار التي في الأشياء، بعد نزولها إلى دار الكثرة، ويكون لكل شئ غيب، وذلك الغيب هو سر ذلك الاسم المعلوم، ومن تلك الأشياء هو آدم (عليه السلام)، فإنه كان في الفيض الأقدس، وفي مقام التقدير الذاتي، جامعا لجميع الأسماء وشاملا لكل الشتات في المراحل المتأخرة، فليلاحظ جدا.


1- النجم (53): 9.

2- راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 353 - 355، وشرح الإشارات 3: 260 - 263، والأسفار 8: 325 - 380.

3- راجع الأسفار 8: 331، وشرح المنظومة (قسم الحكمة): 216.

4- راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 353 - 355، وشرح الإشارات 3: 260 - 263.

5- راجع الأسفار 8: 325 - 380، والشواهد الربوبية: 221 - 224، والمبدأ والمعاد: 223.

6- فصلت (41): 30.

7- الأعراف (7): 11.

8- راجع " تعليقات على الحكمة المتعالية " للمصنف (قدس سره) حول علم البارئ، الفصل الثاني.