بعض المسائل الأصولية والكلامية

المسألة الأولى: دلالة الجمع المحلى باللام على الاستيعاب التأكيد خلاف الأصل، فقوله تعالى: (الأسماء كلها) دليل أو مؤيد لمقالة القائلين: بأن الجمع المحلى بالألف واللام لا يدل على الاستيعاب، كما هو الحق عندنا، فيكون الاستيعاب ثابتا من كلمة " كلها "، فليتدبر.

المسألة الثانية: الاستعمال في أكثر من معنى تدل الآية على جواز استعمال الواحد في الأكثر، فيريد من الأسماء نفس العلائم وذات المسميات باستعمال واحد. وتوهم: أن المسميات أريدت من ضمير الجمع العقلائي الراجع إليها، فاسد، فإن الضمائر ليس لها شأن إلا الإشارة إلى ما سبق، وليس هي موضوعة حسب التحقيق إلا كأسماء الإشارة. اللهم إلا أن يقال: إن الأسماء استعملت أولا في العلائم والمشخصات، ثم أريد من الضمير معنى آخر من الأسماء، وذلك لأن حقيقة الاستعمال، ليست إلا استيفاء معاني الألفاظ واستثمار معاني اللغات، وهذا كما يمكن أن يتحقق حين إلقاء الكلمة، يمكن تحققه بعد الإلقاء، وقد تحرر منا في الأصول ذلك بما لا مزيد عليه، فلا يلزم استعمال الواحد في الأكثر، لأن الاستعمال غير الإلقاء، فلا تخلط (1).

المسألة الثالثة: تكليف العاجز اختلفت آراء علماء الكلام والأصول في جواز تكليف العاجز بما لا يطاق ولا يقدر عليه، واستدل بعضهم بهذه الآية على جوازه، ضرورة أن الملائكة عاجزون عن الإنباء بالأسماء، وهو تعالى عالم بذلك (2). وقول الفخر وغيره: إنها للتبكيت والاعتراف بالعجز، بشهادة قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) (3)، غير تام، بل ظاهر قوله تعالى أيضا هو الشك والشبهة كما مر، مع أنه يشهد على جواز التكليف المذكور ويؤكده. والذي هو الحق: أن هيئة الأمر ليست موضوعة للتكليف، بل هي موضوعة للبعث والإغراء والتحريك الاعتباري، وإنما الكلفة وغيرها مستفادة من الأمور اللاحقة بالكلام، الخارجة عن حدود دلالة الأمر والنهي وصيغتهما. هذا، وقد عرفت أنه لا يستفاد من هذه الآيات جهالة الملائكة، لإمكان اطلاعهم على عدم جواز إبراز العلم في هذه الساحة. نعم تبقى الدلالة على حالها. والجواب ما أشير إليه، ولا شبهة أنه يعلم من القرائن أن الامر هنا ليس موضوعا لاستفادة التكليف منه.

المسألة الرابعة: حول الحروف التامة اختلفت كلمات الأصوليين - تبعا لطائفة من النحاة - في أن الحروف والأفعال، كما تكون ناقصة ومحتاجة إلى الخبر، وتكون طائفة منها متوغلة في النقص كما قال ابن مالك: وما سواه ناقص والنقص في * فتى وليس زال دائما قفي (4) فهل منها ما يكون تامة، كما ينقسم " كان " إلى التامة والناقصة، فهل ينقسم في جانب السلب إلى التمام والنقص، فيكون مثل " لا " تاما، أو مثل " ليس " تاما، خلافا للنحاة، أم لا؟وربما يستدل بقوله تعالى: (لا إله إلا الله) كلمة التوحيد على ذلك، نظرا إلى أنه لا يمكن فرض الخبر المحذوف على الوجه الصحيح، حتى يلزم من الشهادة المذكورة الشهادة على الوحدة الذاتية الوجوبية، المانعة عن التعدد والشرك وتفصيله في الأصول وفي محله الذي يأتي إن شاء الله تعالى. ويمكن أن يستدل على التمام بقوله تعالى هنا: (لاعلم لنا إلا ما علمتنا) فإن المعروف أن " ما " موصول، فيكون كناية عن العلم المنفي ب? " لا "، فلا يكون له خبر، وليس الاستثناء مفرغا، بل المستثنى مذكور، وهو طبيعي العلم، فيكون كلمة " لا " تامة غير محتاجة إلى الخبر. أقول قد تحرر منا في محله: أن المراد من التمام وعدم الحاجة إلى الخبر إن كان الأعم من الخبر المصطلح عليه في النحو، فهو ممنوع، بل ممتنع، وإن كان المراد منه مفاد القضايا الثلاثية والجعل التركيبي، فهو في محله وعين الصدق، مثلا: إذا قلنا: كان زيد، وأريد منه الكون التام، لأن خبره المحذوف موجود، فهو صحيح في قبال ما إذا كان الخبر " قائما " و " عادلا " وأمثال ذلك مما يتعلق به الجعل التركيبي، وأما إذا أريد منه عدم الاحتياج إلى قوله: كان زيد موجودا، فهو ممتنع، ضرورة أنه محذوف، ولا يعقل في مثل " ليس زيد ": لأن زيدا بوجوده التصوري موجود في النفس، فكيف يعقل السلب المطلق، فالسلب خاص، أي ليس زيد موجودا في الخارج، فالنقص لا يعقل بهذا المعنى، ويعقل بذلك المعنى. ومن هنا يتبين قوله تعالى: (لا علم لنا إلا ما علمتنا)، أي لا علم لنا بشئ، فيكون المحذوف ما لا ينطبق على علمهم بأنهم لا يعلمون شيئا، فيكون السلب إضافيا، لا إطلاقيا، لما كانوا يعلمون أنهم لا يعلمون. نعم المستثنى هو اسم " لا " وهذا مما لا بعد فيه ولا شبهة تعتريه، ولا منع من جعل مثل هذا من السلب التام في قبال السلب الناقص، أي لا علم لنا بأن زيدا يفعل كذا، فإنه يعد من السلب الناقص حسب الاصطلاح فلا تغفل، ولا تكن من الخالطين.

المسألة الخامسة: إفادة الجمع المضاف للعموم في المسائل الأصولية: إن الجمع المضاف يفيد العموم، وربما يجوز الاستدلال عليه بقوله تعالى: (قلنا يا آدم أنبئهم بأسمائهم)، فإن مقتضى ما عرفت من الآية الأولى أن الأسماء كلها على سبيل العموم الاستغراقي - مرادة ومقصودة، فيعلم منه أن الأسماء هنا أيضا هو العام. وفيه: أن الجمع المضاف لا يفيد إلا ما يفيد الجمع المحلى بالألف واللام، ولا يكون أكثر إفادة منه، لأن وجه إفادته هو أن الألف واللام يفيدان التعريف، وهذا مما لا يحصل إلا بالاستغراق، وإذا كانت الإضافة تفيد التعريف فهي مثله، وإن كانا يفيدان الاختصاص دون التعريف فهو في معزل عن الوجه المزبور، وقد مر وتحرر في الأصول أن الألف واللام ليسا في الجمع للتعريف، وإنما يفيدان التعريف فيما إذا كانا للعهد الذكري أو الحضوري أو الذهني، وإلا فهما غير دالين على شئ. نعم إذا كان الجمع بدون الألف واللام فهو طبعا يدل على التكثير، لمكان التنوين الوارد عليه واقعا أو حكما، وإذا دخل عليه الألف واللام فيمنع عن دخول التنوين، فيكون في حكم المهملة المتوقف دلالتها العقلية على مقدمات الحكمة، كما في المقام. وبالجملة: الآية الأولى قرينة على إرادة العموم من الثالثة، ولا تدل على أن الجمع المضاف موضوع لإفادة العموم الاستغراقي.

المسألة السادسة: دلالة الآية على أن الواضع هو الله اختلف الأصوليون في الواضع: فمنهم من ذهب إلى أنه الله تعالى، ومنهم من ذهب إلى أنه أشخاص معينون. ومنهم من ذهب إلى أن واضع الألفاظ هو نوع البشر، فيكون الوضع تدريجي الوجود حسب مساس الحاجة والأغراض، وبعد انضمام القبائل والطوائف اتسعت دائرة اللغات، وتكثرت الألفاظ بالنسبة إلى المعنى الواحد. وربما يستدل على الأول ببعض الآيات: ومنها قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)، فيعلم من ذلك أنه تعالى تصدى لوضع الألفاظ للمعاني والطبائع الكلية أولا، ثم علم آدم تلك الأسماء، فإذا عرض المعاني على الملائكة، وأبدى لهم تلك الطبائع والحقائق، ما كانوا عارفين بأسمائها، بخلاف آدم (عليه السلام)، ثم بعد تعلم آدم تلك الألفاظ انتقل علمه إلى ذريته وبنيه، فلا وجه لسائر الأقوال. أقول: إن القائلين بهذه المقالة يستثنون أعلام الأشخاص، لقيام الضرورة على أن واضعها آباء الأبناء، وإذا نظرنا - في هذه الأعصار - إلى المعاني الحديثة والألفاظ الموضوعة لها، وإلى الكتب المؤلفة وأسمائها نجد أن واضعها الله تعالى، وهكذا يتبين لنا أن قصة تعليم آدم تلك الأسماء ليست من قبيل هذه الأسماء اللفظية، أو يكون وضع كل إنسان وضع الله تعالى، لأن جميع الأفعال المستندة إلى المعلول، مستندة إلى العلة بالأولوية والأحقية فلا منع من القول: بأن واضع الألفاظ هو الله تعالى، لعدم خروج شئ عن حكومته وقدرته، كما لا منع من كون الواضع هو الشخص لا النوع في طول واضعيته. وأظهر من هذه المقالة قوله تعالى: (لم نجعل له من قبل سميا) (5). وسيظهر لك زيادة توضيح حول مسألة الأسماء والمسميات، ما ينفعك في هذه المرحلة إن شاء الله تعالى.


1- راجع تحريرات في الأصول 1: 300.

2- راجع شرح المقاصد 4: 299، والتفسير الكبير 2: 177.

3- نفس المصدر.

4- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث " كان وأخواتها "، البيت 9.

5- مريم (19): 7.