بعض المسائل الفقهية

عدم إفساد العالم في الأرض: يستظهر من هذه الآيات: أن الإفساد في الأرض قليله وكثيره مورد النفرة، وممنوع في الشريعة، وأن العالم لا يفسد في الأرض، ولو أفسد في الأرض فهو ليس بعالم، ولا يترتب عليه أحكام العالم في الشريعة من الأحكام المختلفة الندبية وغيرها، ولو صدر من عالم فسادا - ظاهرا - في الأرض، فلابد من التدبر والتأمل، لإمكان كونه صلاحا باطنا. وربما يؤمئ إلى الملازمة بين العلم وعدم الفساد، قصة نسبة الفساد إلى آدم وقصة تعليم آدم وتقدمه في العلم على الملائكة، مع أن الفساد لا يظهر إلا عن العلماء صورة وظاهرا، حتى قيل: إن العلم شر والعلم فساد، فتأمل.

ممنوعية الكذب: وأيضا يستشم منها: ممنوعية الكذب، ولو كان دلالتها على حرمته على الإطلاق غير واضحة، بل ممنوعة، إلا أن قضية ما مر: أن الصدق في الآية ليس من صفات الكلام، فتخرج الآية عن الدلالة على هذه المسألة، فلاحظ.

تذنيب

جواز تعليم جميع العلوم بالنسبة إلى الجميع: لو كان المراد من آدم شخصا خاصا فهو، وأما على تقدير كونه طبيعة الإنسان وطينة البشر، فيجوز أن يستدل بها على جواز تعليم جميع العلوم بالنسبة إلى جميع الأفراد من النساء والذكران. وتوهم: أن قوله تعالى: (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) يدل على أنه شخص قبال النساء والمرأة في غير محله، لأن كل فرد من أفراد الإنسان آدم، ولا منع من مخاطبة فرد خاص بعنوان كلي عام، كما إذا قيل لزيد: يا إنسان أسكن أنت وزوجك الجنة. هذا، مع أن آدم في تلك الآية الآتية غير معلوم كونه شخصا خاصا من الأفراد الموجودين في هذه الأرض. وبالجملة: تحصل أنه على الاحتمال المذكور يعلم هذا التعليم العام بالنسبة إلى تلك الطبيعة والطينة، وما هو المحرم شرعا خارج بدليل خاص، فلم يمكن دعوى أن هذه الآيات تشريح لخلق تكويني خارج عن حد التشريع، فلا يستكشف منها حلية التعليم بالنسبة إلى المورد المشكوك، فتدبر.

مسألة فقهية

حول بطلان التنجيم: استدل بعض من لا تحصيل له بقوله تعالى: (لاعلم لنا إلا ما علمتنا) على أن التنجيم باطل (1)، وفي " تبيان " الشيخ الطوسي (رحمه الله): وهذا يمكن أن يكون دلالة على من يقول: إنها موجبات، لا دلالات، فأما من يقول: إنها دلالات على الأحكام نصبها الله، فإنه يقول: نحن ما علمنا إلا ما علمنا الله تعالى أنه الذي جعل النجوم أدلة لنا (2). أقول: أمثال هذه المباحث والاستدلالات كثيرة التكرر في التفاسير، مع أن المنصف الخبير بصير بأنها أجنبية عن الآيات الشريفة، وتلك الآية الكريمة الأنيقة. وقد مر منا في بعض البحوث السابقة: أن تضخم الكتب التفسيرية معلول هذه المسائل والاستدلالات، وفي هذا المقام تجد أن فخر الدين الرازي بمناسبة كلمة العلم، دخل في مباحث العلم وشرافته، وحدود العلم وماهيته، وفي سائر ما يتعلق به في الوجود (3). وأنت خبير بإمكان تأليف كتاب كبير بالغ مائة مجلد حول شعر من الأشعار الجاهلية وغيرها بأية لغة كانت لو سلكنا مسلك الفخر هذا في تفسيره، مع أن وظيفة أصحاب التفسير وأرباب التأويل، هو التفكير في مفاد الآيات الشريفة والأمور المتعلقة بها تصديقا ودلالة لا تصورا وخيالا وخطورا، والدقة في هذه المرحلة مهما أمكنت لازمة، فإن الكلام الإلهي يحتوي على مسائل شتى ورموز كثيرة في مختلف القول والأدب الظاهرية والباطنية والنقلية والعقلية واللبية والقشرية، فإنها ذات بطون بالغة إلى سبع أو سبعين، كما في مختلف الأمور المنسوبة إلى أئمة الوحي والتنزيل. وبالجملة: بطلان الاتكاء على الأحكام المستخرجة عن النجوم شئ، وكونها بحسب الواقع دلائل على المسائل المادية والمعنوية شئ، وأجنبية هذه الآية عن مسألة حرمة التنجيم شئ آخر، أمر واضح، ضرورة أن العلم كسائر الفيوضات من الله تعالى صورة وللغير دخالة مادة.


1- تفسير التبيان 1: 143، التفسير الكبير 2: 209.

2- راجع تفسير التبيان 1: 143.

3- راجع التفسير الكبير 2: 178 - 208.