وجوه البلاغة وعلم المعاني
الوجه الأول: حول عدم التفريع في (علم آدم) كان الأنسب في بدو النظر أن يقال: فعلم آدم الأسماء، فإنه متفرع على جعله خليفة في الأرض. وفيه: أن الأمر كما تحرر لو كان المراد من الخليفة شخصا خاصا، لا نوع بني آدم في قبال بني الجان، وأما لو كان من علمه غير المجعول خليفة بحسب الإرادة، وأن من علمه فرد وشخص خاص في هذه الطائفة من الخلق، فلابد من إفادته بكلمة تشعر به، ولو كان مسألة التعليم على وجه يأتي في بحوث فلسفية، فهناك وجه آخر لإتيان كلمة الواو: وهو أن في نفس جعل الخليفة، جعل كل شئ حسب القوى وكمون الاستعداد، وليس التعليم متأخرا عنه إلا بمعنى ظهور العلم بعد خفائه، ولأجل ذلك أتى بكلمة الواو. أو يكون الوجه تأخر التعليم عن أصل الخلقة زمانا كثيرا فإليه يؤمئ ذلك، فلا تخلط.
الوجه الثاني: حول حذف فاعل " علم " من وجوه البلاغة حذف الفاعل، نظرا - أحيانا - إلى أن المعلم والتعليم كان تدريجيا، لأن من هو المتصدي له هو الله بصفة الربوبية، وقد قال في الآية السابقة: (وإذ قال ربك للملائكة) وقد مرت الإشارة حول الربوبية.
الوجه الثالث: الاستخدام في " عرضهم " من الصنائع البديعية صنعة الاستخدام، وربما تكون هذه الآية من ذلك الباب، فاريد من " الأسماء " شئ، ومن قوله تعالى: (ثم عرضهم) شئ آخر. وقد أوضحنا في الأصول وجه المناقشة في إمكان الاستخدام وعدمه مع جوابه، وذكرنا هناك: أن الاستخدام من شواهدنا على ماهية الاستعمال، وأنه هو استثمار علقة الوضع، والاستفادة من علاقة الربط الاعتباري الحاصل بين قافلة الألفاظ وسلسلة المعاني (1)، فاغتنم. وحول هذه الآية من هذه الجهة بحوث تناسب المباني الاخر الآتية في محالها إن شاء الله تعالى. ومن هنا يظهر حال إضافة " أسماء " إلى " هؤلاء " في قوله تعالى: (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) فإنه دليل على تعدد المراد حسب الظاهر، وإلا تلزم إضافة الشئ إلى نفسه.
الوجه الرابع: شرافة العلم على العبادة ربما يخطر ببال القاصرين، هناك نوع خدعة وقعت، ومن هذه الجهة احتجبت الملائكة وصاروا محجوبين، ضرورة أن الظاهر من الكتاب: أن الله تعالى علم آدم، ولم يعلم الملائكة، وفهمهم بعد ذلك أنهم جاهلون بما يعلمه آدم، ولو كان الأمر ينعكس فينعكس الأمر وتعلو الملائكة على آدم بالضرورة بعد علوهم بحسب ظاهر الخلقة، فهذا خلاف البلاغة، وتكون الآية بصدد تعظيمه تعالى في إنزال الكتب السماوية، وتنتج عكس مطلوبه. أقول: سيمر عليك حقيقة الأمر في ذيل بحوث فلسفية ومباحث عرفانية، وأما بحسب فهم المبادئ في الأمر والمبتدئ في العلم - مع بعض المناسبات الخاصة - أن الملائكة افتخروا بالتسبيح والتقديس، مع أن العبادة من الصفات العامة لجميع الأشياء (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) (2) وهم كانوا أحيانا عالمين ببعض الأمور إلا أن تمسكهم بالعبادة في موطن الترجيح كان من التمسك المبتذل، فاريد هنا أن يتوجه الملائكة وسائر الخلق إلى أن الشرافة بالعلم، والقداسة بالمعرفة والإدراك الصحيح الواقعي، النظري كان أو العملي، فعلم الله تعالى آدم كما علم الملائكة، إلا أنه ليس تعليمه تعالى إلا كتعليمه بالنسبة إلى سائر الموجودات المتحركة نحو العلم حسب قيامهم وجدهم، وليس هو جزافا وباطلا وترجيحا بلا مرجح، فالنظر الأساسي كان إلى تلك الطريقة في البحث والافتخار والاستكبار.
الوجه الخامس: وجه الإتيان بقوله: (إن كنتم صادقين) من المناقشات الظاهرة في هذه الآية: أن قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) أجنبي عن الآيات السابقة، ولم يعهد من الملائكة إلا نسبة السفك والفساد إلى الخليفة، دون الجهالة حتى يقال: (إن كنتم صادقين). وقد وقعت آراؤهم في هذه المسألة في حيص بيص وكل أخذ مهربا، وأقرب ما وقع عنهم: أن النظر هنا إلى ذيل الآية، وهو قوله تعالى: (وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فيعلم منه أنهم كانوا يعتقدون ما هو الكذب، وهي دعوى الأعلمية والأخبرية، وأن هذا الخليفة جاهل غير عارف بسبل السلام والفضائل والغيب والحقائق، فبهذه المناسبة والملاحظة قيل: (إن كنتم صادقين). وفيه: مضافا إلى أنه خلاف الظاهر، أن الخطورات الذهنية والتخيلات النفسانية والتسويلات الوهمية، لا توصف بالصدق والكذب اللذين من أوصاف الكلام والجملة الحملية المظهرة، فما في كتب القوم كله خال عن معرفة الواقع الفارغ عن الوصول إلى مغزى المرام في المقام. والذي هو الحق: أن الصدق والكذب كما يوصف بهما الكلام، يوصف بهما الأشياء الخارجية كالحق والباطل، فيقال: فجر صادق، وفجر كاذب، وباعتبار صدور الصدق والكذب يقال: إنسان صادق وكاذب، وتحقيقه في محله. فالصدق والكذب هي الواقعية في قبال الرياء والسمعة والبطلان والشيطان، وغير ذلك مما له حظ من الواقعية النسبية، وعلى هذا تكون الملائكة كاذبة، لما نسبوا إلى خليفة الله من سوء القول وكذبه، ولأجل ما تخيلوه فيه من الفساد والسفك على الإطلاق، من غير ملاحظة الأهم والمهم والمصالح العالية الجابرة للمفاسد الصادرة عنه أحيانا، حسب اختلاف الأفراد والأزمان والأعصار والأمصار. ومما يشهد على ما ادعيناه من اتصاف الكلام لأجل كونه باطلا بالكذب ولو كان كلاما إنشائيا، قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون) (3). وقد تحرر في محله: أن الصدق والكذب من طوارئ القضايا الإخبارية، ولا يعقل اتصاف الإنشائية بما هي إنشائية بها. وإرجاعها إلى لوازم القضية الإنشائية، خروج عن ظاهر الكلام ومحط البحث، فلا تخلط واغتنم.
الوجه السادس: حول التأكيد بقوله " كلها " إن المعروف تأكيد الجمع المحلى بالألف واللام بكلمة " كلها "، غافلين عما تحرر منا في الأصول من عدم دلالة ذلك الجمع على الاستيعاب، فأتى بها لإفادة الاستيعاب، وتدل الآية على هذا المسلك أحيانا، كما أن المراد من الملائكة في هذه الآية، عين أشخاص أريد بهم في الآية السابقة (وإذ قال ربك للملائكة)، واحتمال الاختلاف ممكن، لاشتراك الكل في هذه المنقصة، فلا يلزم اتحادهم في الآيتين. نعم قد تحرر في النحو: أن الاسمين المتكررين إذا كانا محلين بالألف واللام، يراد بهما معنى واحد، وربما تدل الآية على صحة هذه المقالة، فتأمل.
الوجه السابع: تعليق الأمر على الشرط المحال في إتيان جملة (إن كنتم صادقين) وجه من البلاغة واللطف المخفي عليهم، وهو أن الأمر الجدي بالمحال المعلوم للآمر غير مقدور، فيكون الأمر باعتبار إفادة العجز والتعجيز، من غير كونه استعمالا فيه خلافا للمشهور بين أهل الفضل. وأما إذا علق الأمر على شئ غير متحقق، يحصل الجد بالنسبة إلى الآمر إلا أنه لا يمكن حصول المعلق عليه، ويفيد بذلك أنه أمر ليس للتكليف بالمحال حتى يتمسك به - كما تمسكوا بهذه الآية - على جوازه، وسيجئ بعض الكلام حول بحوث أصولية إن شاء الله تعالى. وغير خفي: أن من المحتمل أن يكون النظر في نسبة الصدق إلى الملائكة - على وجه القضية الشرطية - إلى أن الملائكة ارتكبوا مناقضة في القول، وهي أنه تعالى في موقف يصلح للسؤال عن جعله من يسفك الدماء ويفسد في الأرض، مع أنهم يقولون: (نحن نسبح بحمدك ونقدس لك) فيعلم منه أنهم كاذبون في هذا التحميد والتقديس، كالكذب الذي مر في الآية المذكورة في الوجه الخامس.
الوجه الثامن: توصيف الملائكة له تعالى في إتيان كلمة (سبحانك) نهاية اللطف والحسن، نظرا إلى التوهم المذكور المستشم من كلام الملائكة، ومؤيدين بها صدق مقالتهم: إنهم يسبحون الله ويقدسونه، وفي نفي العلم من أنفسهم نهاية الخضوع اللازم عقيب الاستكبار المشاهد بدوا عنهم، وفي عدم نسبة الجهل إلى أنفسهم أيضا، بعض نكات تأتي في المسائل العقلية إن شاء الله تعالى. وفي إتيان الجملة المؤكدة بذكر " الحكيم " بعد " العليم "، إشعار بأن أفعاله تعالى غير جزاف، ولا يجعل هو تعالى مفسدا وسفاكا، بل مقرونا بالمصالح العالية، أو لا يجعل رأسا وبتاتا، وتقديم العليم على الحكيم تقديم الطبع في الأسماء. هذا، مع أن المذكور سابقا هو العلم، فيناسب التقديم، بل لما كان البحث حول العلم، ولم يكن حول الحكمة إلا حسب الدلالة الالتزامية، يناسب ذلك، وفي اعتراف الملائكة بالحكمة، اعتذار من ناحيتهم بالنسبة إلى أصل البحث، وبالنسبة إلى تعليم آدم وعرضهم على الملائكة.
الوجه التاسع: علم الملائكة بجهلهم ربما يخطر بالبال أن قوله تعالى: (قالوا سبحانك...) إلى آخره، كان ينبغي أن يكون متأخرا عن الآية اللاحقة، وذلك لعدم ثبوت علم آدم بالنسبة إلى الأسماء، ومقتضى الترتيب هو أن تكون الآيات هكذا: (إن كنتم صادقين) (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم) (قالوا سبحانك...) إلى آخره، (قال ألم أقل لكم...) إلى آخره. أقول: الأمر ولو كان بحسب بادي النظر كما تحرر، إلا أن الأظهر خلافه، ضرورة أن الملائكة بعد ما توجهوا إلى جهالتهم بالأسماء، واحتجاجه تعالى عليهم، وكانوا يعلمون أنه تعالى حكيم عليم، سبقوا إلى إبراز العجز والاعتذار عما كانوا يحتملون من أن آدم أيضا مثلهم في الجهالة كي يصبروا ولا يسبقون في الاعتذار. ثم إنه مما لا ينبغي أن يختفي: أن من هذه الآيات لا تستفاد جهالة صريحة للملائكة بالنسبة إلى الأسماء، ولكن من الممكن عجزهم عن إظهار تلك الأسماء أو صرفهم بالتعجيز عن الإبراز وكان الصرف مثلا من الله تعالى، كما قيل في إعجاز القرآن، وقوله تعالى: (لا علم لنا إلا ما علمتنا) لا ينفي علمهم بالأسماء، بل هي قاعدة كلية، فلا تغفل، بل قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) يرمز إلى عجزهم لما أن المتعارف في مقام التعجيز استعمال أمثال هذه الجمل، كجملة (إن كنتم صادقين) وغيرها. بقي شئ: وهو أن كلمة " إن " الشرطية - حسب ما يستظهر من موارد استعمالها - مخصوصة بموضع الشك، ولا معنى لشكه تعالى في صدقهم. والذي يظهر لي: أن أداة الشرط يختلف مفادها حسب موارد الاستعمال، كما صرح به بعضهم في الجملة، إلا أن كلمة " لو " لإفادة الامتناع على الوجه المحرر في محله، وكلمة " إذ " و " إذا " لإفادة التحقق في الاستقبال، وكلمة " إن " لإفادة إمكان تحققه دون الشك والجهالة، وكأنها وضعت لإفادة الإمكان واطلاعه عليه، فلا تلزم الجهالة.
الوجه العاشر: خضوع الملائكة له تعالى في حذف المستثنى منه إشعار بأن الملائكة خضعوا لله تعالى غايته، وقالوا: لا علم لنا بجنسه وبعنوانه، ولا معنى - حينئذ - لإضافته إلى شئ بذكر مفعوله، لأن المقصود نفي الطبيعي بجميع معناه، فليسوا في مقام نفي العلم بالشئ، بل في هذا الموقف ليس النظر إلى الشئ، ففي كون الاستثناء مفرغا، كما هو ظاهر النحويين، أو يكون كلمة " لا " لنفي الجنس، كما قال به سيبويه في كلمة الإخلاص، فيكون من النفي التام والسلب الكامل غير المحتاج إلى الخبر المحذوف، حتى يلزم الإشكال المعروف في حصول التوحيد بالإقرار بكلمة الإخلاص، وجهان، بل قولان محرران في الأصول (4)، وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب في موضع منه، وأنه لا يعقل نفي الطبيعي عقلا، والسلب التام ممتنع ثبوتا إلا بحسب الادعاء والتخيل، وعندئذ لا بأس بكون الاستثناء متصلا، والمستثنى منه مذكورا، وهو مفهوم العلم، وعندئذ يكون الموصول إشارة إلى العلم، أي لا علم لنا إلا علما علمتنا، وحذف العائد أيضا من وجوه بلاغة هذه الآية، ولو كان كلمة " ما " وقتية، أي إلا في وقت علمتنا، فلا يضرهم أيضا بما هو مقصودنا، فافهم واغتنم.
الوجه الحادي عشر: جواز إظهار الشك بالنسبة إلى العقائد اعلم أن من وجوه اللطف ومظاهر الحسن والبلاغة في هذه الآيات الثلاثة، توجيه الناس إلى أن التصديق والإذعان والإيمان والإيقان، لا معنى له إلا بالدليل والبرهان، وأنه لابد لكل ممكن في كل موطن من المناقشة وإظهار ما في قلبه من الشك والشبهة، حتى تزول الشكوك والشبهات، وينجو من التسويلات والتخيلات، وجميع المشاكل حلها بيد الله تعالى، ولا خصوصية لحل هذه المشكلة، وكما أن مشاكلنا تنحل بإذنه، من غير كون المواجهة بالاستقلال حتى يلزم الكفر والإلحاد، كذلك حل معاضل الملائكة، فلا يجوز لأحد توهم المقابلة بينهم وبينه تعالى، فإنه عين التحديد والإشارة وعين الخلو والتفريغ، وهي عين الكفر والزندقة.
الوجه الثاني عشر: رعاية التراكيب للتأثير في النفوس ما ترى في هذه الآيات من إتيان الواو وثم والفاء، وترك الواو وثم والفاء، أو إتيان الفاء في بعض الجمل المتأخرة، فكله يرجع إلى إنشاء التراكيب الدخيلة في كيفية الأصوات المنسجمة مع الأرواح، فإنه من أهم المسائل الملحوظة في الآيات الشريفة، وبه كانت العرب خاضعة، ولديه يخضع كل شرقي وغربي، وما في كتب التفسير - ومنها ما بين يديك - وإن كان لا يخلو أحيانا عن اللطف، ولكن الألطف الأحسن ذلك.
الوجه الثالث عشر: في الإتيان بالضمير أو الظاهر قد عرفت أن إثبات كون " آدم " المنادى في قوله تعالى علما شخصيا غير ظاهر بعد بمثلها، ويحتمل كونه علم الجنس، وأن طينة " آدم " تكون كذا وكذا، فما في تفاسير القوم من أن نداء " آدم " بعلمه الشخصي، لكونه كسائر الأنبياء والرسل غير نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، غير تمام. وفي قوله تعالى: (أنبئهم بأسمائهم) - مع أن ما يظهر في بادي النظر هو أن يقال: أنبئهم بهم أو بها مثلا - يلزم تكرار الاسم الظاهر، وهكذا عند قوله تعالى: (فلما أنبأهم بأسمائهم)، فإن في هذه الإعادة - مضافا إلى تركيز المسألة حول الأسماء وتعظيم عالم الأسماء - إشعارا إلى ما يأتي من أن الإتيان بضمير التأنيث في صدر هذه الآيات فقط دون غيره، لأجل خصوصية مخفية على الأعلام، وسيظهر إن شاء الله تمامه. وفي توجيه الخطاب في الآية الأولى إلى الملائكة بقوله: (أنبئوني) بضمير المتكلم، وهنا بضمير الغائب، أيضا لطف، لأن " آدم " لم يكن طرف المخاصمة، فإذا التفت الملائكة إلى جهلهم وعجزهم، تنحل الدعوى والشكوى، وأما في الآية الثالثة، فلابد من الضمير الغائب، لأن هناك محاضرة ثلاثية، وتكون الآية برهانا على الملائكة، وفيه غلبة الله تعالى عليهم، والله هو الغالب الدائم. ومن الممكن - كما أشير إليه - أن في محافل الافتتان والامتحان قلما يخلص الأوحدي الألمعي، فضلا عما إذا كان الممتحن هو الله تبارك وتعالى، فربما في أمره تعالى تلك الملائكة تعجيزهم، ولا سيما في إضافة ضمير المتكلم، وكان في هذا التعجيز حكمة إتقان، وأما في أمره تعالى آدم مضافا إليه ضمير الغائب، فصرف له عن الحضور عنده تعالى، وتوجيه له إلى الملائكة المخلوقين، فانصرف عنه آدم، فأجاب بأسمائهم. والله هو العالم.
الوجه الرابع عشر: حول إخبار الملائكة من المسائل الخلافية بين فضلاء البلاغة والأدب: أن الأخبار تقوم مورد الإفادة، وإلا فلا إخبار، وإذا لم يكن إخبار فلا صدق ولا كذب، وهذه الآية تدل على قول الخصم حيث أمر الملائكة بالإنباء، وهو الإخبار، مع أنه تعالى كان عالما لا فائدة في خبرهم بالنسبة إلى المخبر له. فقوله تعالى: (أنبئوني) من المجاز، أي أنبئهم، والإضافة إشراقية، لحضوره تعالى في مجلس المخاصمة والمقابلة. وفيه أولا: أنه لا يعتبر الفائدة في المدلول المطابقي، وتكفي في الالتزامي، ويكفي لتحقق الخبر صدور الجزم أو التجزم، وإلا ففي موارد اطلاع المخبر على كذب الخبر، لا يترشح عنه الجزم بالإفادة والإخبار عن المفاد بالضرورة. وثانيا: فيما نحن فيه تكون الفائدة في الخبر وإن لم تكن للآمر - فإن المخبر له في الحقيقة هي الملائكة - وهو الله تعالى، إلا أن بالنسبة إليهم فيه الفائدة دونه تعالى، إلا أن ما يرجع إليه هو أن يتبين للملائكة جهالتهم بالأسماء. وهنا مناقشة: وهي أن الملائكة لو كانوا يعتقدون أن آدم يفسد في الأرض، فلهم أن يدعوا أنه يكذب على الله تعالى، ولا يعلم شيئا من الأسماء، وإن كانوا مستعدين لمعرفة الأسماء وبتعليم آدم، فلا تفوق له عليهم، فإن الله تعالى قد علمه ولم يعلمهم، فليعد المحذور، وإن كان الملائكة يعرفون فالأمر أفسد، لأنهم - مضافا إلى معرفتهم به، فهم يتفوقون - لا فائدة في إخبارهم، ففي الحقيقة هنا عويصة جدا، ومشكلة صعبة. والجواب: أن الملائكة كانوا عالمين بحكمته تعالى وعلمه تعالى، وأنه برئ عن النواقص بأجمعها، فإذا أنبأ آدم بالأسماء فلابد أنه عارف بها، ولو كان كذبا وافتراء لما سكت عنه جنابه تعالى، وفي قوله تعالى: (ألم أقل لكم) تصديق لصدق آدم في الإخبار، فلا منع من عدم خروجهم عن الجهالة بإنبائه، إلا أنهم التفتوا إلى كماله وتقدمه عليهم ولياقته، كما توجهت اخوة يوسف، فاعترفوا بأنه تعالى آثره عليهم.
الوجه الخامس عشر: حول " تبدون " و " تكتمون " حذف العائد جائز وربما يدل على العموم وإن كان فيه إشكال بل منع عندنا، لقصور دلالته على العموم اللفظي بالضرورة، وأما الإطلاق فهو صفة خارجة عن اللفظ، ولا نحتاج في إفادته الإرسال إلى حذف العائد، فلو قال الله تعالى: أعلم ما تبدونه وما تكتمونه يلزم سريان علمه إلى الجميع، فتأمل. والذي هو المهم بحسب البلاغة، عدم ذكر الفعل الماضي عند قوله تعالى: (ما تبدون)، وذكره عند قوله تعالى: (وما كنتم تكتمون) والظاهر أن أرباب التفسير ما التفتوا كثيرا إلى سؤاله، فضلا عن الجواب. والذي يظهر لي: أن في قصة آدم إلى هنا أمرين: أحدهما قصة مذكورة وهو نسبة الفساد والسفك إلى آدم وقصة غير مذكورة، وتكون خيالية وخطورا ذهنيا، وهو أن آدم يفسد، وهو مفضول عملا وعلما، فكيف يجعل خليفة وهذا سر مكتوم، وكانوا يكتمونه ولا يبدونه، فالآية تشير إلى هذا المعنى ظاهرا، ولأجله ورد قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) إلا أن الصدق بالمعنى الذي ذكرنا، لا بالمعنى الذي ذكره المفسرون، لما عرفت أن الخواطر الذهنية لا توصف بما يوصف به الكلام من الصدق والكذب، فافهم واغتنم.
1- راجع تحريرات في الأصول 1: 179.
2- الإسراء (17): 44.
3- العنكبوت (29): 12.
4- راجع تحريرات في الأصول 5: 175.