التفسير والتأويل على مناهج شتى ومشارب مختلفة
فعلى مسلك الأخباريين: (وإذ قال ربك) لما قيل لهم (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) الآية، قالوا: متى كان هذا، فقال الله عز وجل: (وإذ قال ربك للملائكة)، " انبئ هذا الخلق: لكم ما في الأرض جميعا " حين قال ربك للملائكة الذين كانوا في الأرض: (إني جاعل في الأرض خليفة) بدلا منكم، ورافعكم منها، فاشتد ذلك عليهم، لأن العبادة عند رجوعهم إلى السماء تكون أثقل عليهم (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) كما فعلته الجن بنو الجان الذين قد طردناهم عن هذه الأرض (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ننزهك عما لا يليق بك من الصفات، ونطهر أرضك ممن يعصيك. قال الله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) من الصلاح الكائن فيمن أجعله بدلا منكم ما لا تعلمون، وأعلم أيضا أن فيكم من هو كافر في باطنه لا تعلمونه، وهو إبليس لعنه الله. انتهى ما في بعض الأخبار غير المعتبر (1). وفي " تفسير العياشي ": قال: قال هشام بن سالم: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما علم الملائكة بقولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء (2). وفي رواية محمد بن مروان، عن جعفر بن محمد عليهما السلام، قال: " فأخبرني عن هذا الطواف كيف كان؟ولم كان؟قال: إن الله لما قال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها...) إلى آخر الآية، كان ذلك ممن يعصي منهم، فاحتجب عنهم سبع سنين، فلاذوا بالعرش يلوذون يقولون: لبيك ذا المعارج لبيك حتى تاب عليهم " (3). وفي رواية أخرى: قال: " علمني أي شئ كان سبب الطواف بهذا البيت؟فقال: إن الله تبارك وتعالى لما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ردت الملائكة، فقالت: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) فغضب عليهم، ثم سألوه التوبة، فأمر أن يطوفوا بالضراح، وهو البيت المعمور، فمكثوا به ". انتهى ما أردناه (4). وفي رواية عن علي بن الحسين عليهما السلام في قوله: (إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء...) إلى آخره: " وإنما قالوا ذلك بخلق مضى، يعني الجان أبا الجان، (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)، فمنوا على الله بعبادتهم إياه فأعرض عنهم " (5). وفي رواية عن عيسى بن أبي حمزة قال: " قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس يزعمون: أن الدنيا عمرها سبعة آلاف سنة؟فقال: ليس كما يقولون، إن الله خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعا قفرا خاوية عشرة آلاف عام، ثم بدأ الله فخلق فيها خلقا، ليس من الجن ولا من الملائكة ولا من الإنس، وقدر لهم عشرة آلاف عام، فلما قربت آجالهم أفسدوا فيها، فدمر الله عليهم تدميرا، ثم تركها قاعا قفرا خاوية عشرة آلاف عام، ثم خلق فيها الجن وقدر لهم عشرة آلاف عام، فلما قربت آجالهم فسدوا فيها وسفكوا الدماء، وهو قول الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) كما سفكت بنو الجان، فأهلكهم الله، ثم بدأ الله فخلق آدم، وقرر له عشرة آلاف، وقد مضى من ذلك سبعة آلاف عام، وأنتم في آخر الزمان ". انتهى ما في " تفسير العياشي " (6) من هذه الأخبار كلها. وأيضا في العياشي قال: قال مروان: قال زرارة: " دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: أي شئ عندك من أحاديث الشيعة؟فقلت: إن عندي منها شيئا كثيرا قد هممت أن أوقد لها نارا ثم أحرقها. فقال: وارها تنسى ما أنكرت منها، فخطر على بال الآدميين. فقال لي: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) " (7). وقد مر في ذيل هذا الخبر في بحوث متعلقة بخلق آدم ومجيئه من السماء إلى الأرض. وفي تفسير البرغاني عن ابن إبراهيم القمي (رحمه الله) عن علي (عليه السلام): " إن الله تبارك وتعالى أراد أن يخلق خلقا بيده، وذلك بعد ما مضى من الجن والنسناس في الأرض سبعة آلاف سنة، وكان من شأنه خلق آدم كشط - كشف - عن أطباق السماوات، وقال للملائكة: انظروا إلى أهل الأرض من الجنة والنسناس، فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق عظم ذلك عليهم، فغضبوا لله وتأسفوا على أهل الأرض، ولم يملكوا غضبهم، فقالوا: ربنا إنك أنت العزيز القادر الجبار القاهر العظيم الشأن، وهذا خلقك الضعيف الذليل، يتقلبون في قبضتك، ويعيشون برزقك، ويتمتعون بعافيتك، وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام، ولا تأسف عليهم، ولا تغضب، ولا تنتقم لنفسك لما تسمع منهم وترى، وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك. قال: فلما سمع ذلك من الملائكة قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) يكون حجة لي في أرضي على خلقي. فقالت الملائكة: سبحانك (أتجعل فيها من يفسد فيها)، كما أفسدت بنو الجان، (ويسفك الدماء) كما سفكت بنو الجان، ويتحاسدون ويتباغضون، فاجعل ذلك الخليفة منا، فإنا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء، و (نسبح بحمدك ونقدس لك قال) عز وجل: (إني أعلم ما لا تعلمون) إني أريد أن أخلق خلقا بيدي وأجعل من ذريته أنبياء ومرسلين وعبادا صالحين " (8). الحديث. وعن " العيون " مسندا عن علي (عليه السلام) في حديث سلام الخضر على علي (عليه السلام) بعنوان رابع الخلفاء وسؤاله (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن معناه قال: " أنت كذلك الحمد لله إن الله قال في كتابه: (إني جاعل في الأرض خليفة) والخليفة المجعول فيها آدم " (9). الحديث. وفي " تفسير الفرات " مسندا عن ميثم في حديث طويل: " فقلت: يا أمير المؤمنين جعلت فداك حديث أخبرني به الأصبغ عنك قد ضقت به ذرعا؟قال: فما هو فأخبرته، فتبسم قال لي: أجلس يا ميثم أو كل علم العلماء يحتمل قال الله لملائكته: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء...) إلى آخر الآية فهل رأيت الملائكة احتملوا العلم. قال: قلت: هذه والله أعظم من تلك والاخرى ". الحديث، وفيه ذيل لطيف، فراجع (10).
وعلى مسلك أصحاب الحديث: فعن الحسن وقتادة: قال الله للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة) أي إني فاعل هذا (11). وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. ورواه ابن أبي حاتم، وقال: روي نحوه عن قتادة. وعن عبد الرحمن بن سابط: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " دحيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) يعني مكة " (12). وعن ابن عباس وعن ابن مسعود وأناس من الصحابة: أن الله تعالى قال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة) قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا (13). وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) يقول: ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها، خلقا ليس منكم (14). وعن ابن عباس: قال: إن أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه فيها، فلذلك قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) (15). وعن الثوري، عن ابن سابط: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) قال: يعنون به بني آدم (16). وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال الله للملائكة إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض، وليس فيها خلق قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها) (17). وعن ابن عباس وابن مسعود: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم، فقالت الملائكة ذلك (18). وعن عبد الله بن عمر، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة، فضربوهم حتى الحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... قال إني أعلم ما لا تعلمون) (19). وعن أبي العالية: (إني جاعل في الأرض خليفة) قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض. فمن ثم قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها) كما أفسدت الجن، (ويسفك الدماء) كما سفكوا (20). وعن الحسن، قال: قال الله للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة) قال لهم: إني فاعل فآمنوا بربهم، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء... قال إني أعلم ما لا تعلمون) (21). وعن قتادة في قوله تعالى: (أتجعل فيها من يفسد فيها): كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها) (22) وعن ابن أبي حاتم بسنده عن معروف - يعني ابن خربوذ المكي - عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول: " السجل ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له، فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيها من الأمور، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلما قال تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) قالا: ذلك استطالة الملائكة " (23). وعن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: إن الملائكة الذين قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) كانوا عشرة آلاف، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم. وعن قتادة: قوله: (إذ قال ربك للملائكة) قال: استشار الملائكة في خلق آدم فقالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها) وقد علمت الملائكة أنه لا شئ أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض (ونحن نسبح بحمدك... قال إني أعلم ما لا تعلمون) فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة (24). وعن ابن عباس: أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم (عليه السلام) قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا وأعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة، فقال الله تعالى: (إئتيا طوعا...) (25) إلى آخره (26). وقوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)، قال معمر، عن قتادة، قال: التسبيح تسبيح والتقديس الصلاة (27). وعن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) قال: يقولون: نصلي لك. قال مجاهد: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) قال نعظمك ونكبرك. وقال الضحاك: التقديس: التطهير، وعن محمد بن إسحاق: لا نعصي، ولا نأتي شيئا تكرهه. وعن أبي ذر: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " سئل: أي الكلام أفضل؟قال: ما أصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده " (28).
وعلى مسلك أرباب التفسير وأصحاب الفهم والتحرير: وإذ قال: يا أيها الناس اذكروا (إذ قال ربك)، أي ربكم على البدلية، والخطاب إلى الجنس والنوع (للملائكة)، لا لمطلق الملائكة، بل لطائفة خاصة منهم: (إني)، أي إن ربكم (جاعل في) هذه (الأرض) التي بين أيديكم (خليفة) وخلفا عني، أي ربكم، وهذا الفعل لغرض من الأغراض الصحيحة اللازم وجوده فيها، (قالوا) - فأظهروا ما في وجودهم من الخواطر -: (أتجعل) - جعلا بسيطا - وتخلق خلقا (فيها من يفسد فيها) في الأرض، حسب طبيعة الأرض وطينة التراب وأمثاله من الأرضيات والسفليات، (ويسفك الدماء)، ويخل النظام، ويكون ظالما بعضهم لبعض وبعض أصنافهم لبعض، بل لبعض الأنواع الاخر اللاحقة بالأرض، فيجعلون من الجن في السجون، فيفسدون من جهات شتى، (و) الحال (نحن) الملائكة (نسبح بحمدك) حسب الطينة - كما تعرف وتدري - (ونقدس لك) حسب اللياقة والاستحقاق المعلوم عندنا لك (قال) الله ربكم: (إني) الذي هو الرب المتصدي لتربية العالم، ومخرجها من الظلمات إلى النور (أعلم ما) - بعضا من الأشياء التي - (لا تعلمون) أنتم الملائكة نقلا عن غيركم من سائر الأنواع. وقريب منه: (قالوا) - أي الملائكة -: (أتجعل فيها من يفسد فيها) (إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) إني أجعل في الأرض خليفة كانت هي موجودة، ولكنها نصبت خليفة، كما أن جعل الخلافة بعد جعل الوجود، وخلق الإنسان في سائر الأقوام والملل، فلا شأن جديد له تعالى في هذا الأمر، فكان من يجعله خليفة موجودا قبل ذلك الزمان إلا أنه لم يكن في الأرض، بل كان في قطر آخر من الأقطار في العالم والفضاء. (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) مباشرة وتسبيبا (ويسفك الدماء) مباشرة بنفسه (ونحن) الملائكة (نسبح بحمدك) حسب ما هو المعروف المشهور عنا (ونقدس لك) في الاستقبال والحال، وقد كنا كذلك في الأزمنة السابقة، وليس ذلك رشوة لصرفك عن هذا الجعل في الأرض (قال إني) العالم بجميع الجهات والنواحي والضواحي (أعلم ما لا تعلمون) إياه من الأمور المختفية والأسرار المكنونة. وقريب منه: (وإذ قال)، أي وقال (ربك): أيها الرسول الأعظم فلو تغفل عن أساليب الخلقة، وعما وقع في السابق بالنسبة إلى هذه الأرض التي أنت عليها، وبالنسبة إلى ما جعله الله خليفة، وما توجه إليه من الاعتراض. (للملائكة) القاطنين في الأرض والساكنين عليها، المتوكلين بها وبما يجري فيها (إني) لمرة ثالثة وخامسة وعاشرة (جاعل في الأرض) التي أنتم عليها وعلى نظامها متوكلون (خليفة) وهي تكون تشابه تلك الخلائف السابقة قهرا، لكونها في الأرض فمدت أعناق الملائكة الخاصة المسيطرة على الأرض - بعنوان الاعتراض والاستشكال - ف? (قالوا أتجعل فيها) بعد تلك الدفعات الكثيرة، أو بعد تلك المرة أيضا (من يفسد فيها) عالما عامدا متوجها ملتفتا مباشرة (ويسفك) كذلك (الدماء) المحترمة بلا حق واستحقاق (ونحن) الملائكة المحيطون بهذه الأرض (نسبح بحمدك) مسبحين وحامدين جامعين بين التنزيه والتحميد، غير صانعين فيها ما يصنعه ذلك المجعول حسب ما هو المعهود عنه في الدورات القديمة والأعصار السابقة (ونقدس لك) حسب الخلقة والطينة خالصا مخلصا، غير راجين منك الجنة، ولا خائفين عن نارك، بل التقديس الجامع بين التسبيح والتحميد لغاية خاصة، وهي وجودك، ولا نظر إلى شئ آخر وراءك، ولا طمع بجنتك ولا خوف من عقابك، بل هو فقط يكون لك. (قال) معبودهم ومحمودهم المسبحون له: (إني أعلم ما) أي شيئا بل أشياء (لا تعلمون) أنتم أيها المسبحون المقدسون إياها، فإن في هذا الخلق الخليفة من هو مثلكم في الخلوص والتسبيح والتقديس، مع أن طبعه وطينته من الأمور المضادة لذلك، وهذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ففي بعض أخبارنا: أنه قال: " ومنهم يعبدك طمعا في الجنة، وهذه هي عبادة الاجراء، ومنهم من يعبدك خوفا من عذابك، وهذه هي عبادة العبيد، وأنا عبدتك لما وجدتك أهلا للعبادة " والعبادة تجمع التسبيح والتحميد والتقديس. وقريب منه: (وإذ قال) قولا يشبه الوحي، فيكون حاصله من باطن الذات لا من خرق الأصوات وضرب الأجواء وقلع الشدائد (ربك) المطلق وإلهك الخالق لكل شئ، وقال مخاطبا إياك شرافة لك وتجليلا لقداستك لطائفة من (الملائكة) العارفين بكثير من الأمور، والغافلين عن طائفة منها: (إني) بصفتي الرب المربي لزوايا العوالم ولحواشي الوجود وهوامش الخلقة (جاعل في الأرض) وهذا السطح المستوي (خليفة) وأما في المياه، فربما كانت فيها أصناف الحيوانات وأنواعها، وفيها الخلفاء قبل ذلك، إلا أنها مائية لا أرضية، كما ربما تكون في الهواء الموجود حول الأرض أنواع من تلك الحيوانات، وفي الأرض حيوانات وطيور، وهي تسفك الدماء وتفسد في الأرض أيضا، حسب طبع الأرض والتراب والهواء والنار والماء وسائر العناصر المادية، إلا أنها ليست مع كونها سافكة الدماء ومفسدة الأرض، شبيهة الملائكة في الرفعة والإلهية حتى تزاحمهم، وتوجب اطلاعهم على جهلهم وفسادهم الروحي في بواطن وجودهم، ولأجل ذلك وذاك (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) غافلين عن سبق وجود السفاكين المفسدين، وجاهلين بأن منشأ هذا القول الشبيه بالاعتراض، أمر روحي داخلي أجنبي عما ظهر عنهم قولا، وأعربوا عن ضمائرهم تخيلا وفكرا، وهو يرجع إلى نحو من الفساد وضعف الوجود (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) غفلة عن أن الله تبارك وتعالى لا يصنع صنعا لأجل التسبيح والتقديس، وجاهلين بغنائه تعالى عن التسبيح والتقديس: گر جمله كائنات كافر گردند * بر دامن كبرياش ننشيند گرد ولأجل هذا وذلك رد عليهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) أيها الجاهلون الغافلون المعتقدون أنه تبارك وتعالى يحتاج إلى التسبيح والتقديس، وهو عين الفساد والكفر، وهو أكثر فسادا وأشد من إراقة الدماء بحسب الحقيقة، فلا تخلط. وقريب منه: (وإذ قال ربك للملائكة) ملائكة السماء (إني جاعل في الأرض خليفة) عما كانوا قبلهم من الأصناف والأنواع المختلفة إنسا كانوا أو جانا أو نسناسا (قالوا أتجعل) وهل يجوز لنا أن نعلم حكمة هذا الخلق والجعل ؟! فإنك فعال لما تشاء، ولا تسأل عما تفعل، وهم يسألون، ولكن المطلوب اطلاعنا على هذه الحكمة البالغة الرشيدة (من يفسد فيها ويسفك الدماء) ونظرا إلى أن مادة خلقهم الطين (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين) (29)، ولازم هذا الخلق بطبعه - لا بإطلاقه - ذلك، لما فيه من الشهوة والغضب حسب ما نعرف منهم ومن ذريتهم الذين اخذوا من ظهورهم، فلا يكون الشخص الأول هكذا، إلا أن الطبع والطينة والجبلة تقتضي هذه اللوازم الفاسدة السافلة (ونحن) بحمد الله وله الشكر - (نسبح بحمدك) ولا نسفك - (ونقدس لك) ولا نفسد ونقدسك جدا وكثرة لا عدد لها وشدة لا نهاية لها وخلوصا لا أمد له (قال) الله ربكم وربهم (إني أعلم) وأكثر علما بالنسبة إلى (ما لا تعلمون) إلا شبها منه وسطحيا لا واقعيا وكنهيا، أو لا تعلمون أصلا، فما لا تعلمونه رأسا، وتكونون جاهلين به على الإطلاق، نحن أعلم به منكم بما لا مزيد عليه ولا عدد ولا شدة ولا حدة له، فتكون بلا نهاية من جهات شتى.
وعلى مسلك الحكيم الإلهي: (وإذ قال) قولا هو ظهور خاص عين إرادة فعلية هي عين المراد، وهي الصورة الخارجية العينية أو الذهنية (ربك) المطلق المضاف إليه تشريفا وتعظيما لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) (للملائكة) الذين هم من الوجودات الاختراعية، وليسوا بمبدعات ولا بكائنات ومبرأة عن المادة والمدة، ولكنها متقدرة بقدر المادة ذوات الأجنحة مثنى وثلاث ورباع، وليسوا من تلك الملائكة الصافات صفا، ولا من طائفة المدبرات أمرا، فضلا عن كونهم من المهيمنين حول عرش ربهم، الموجودين بوجوده، والواجب وجودهم بالوجوب التبعي الزائد شرفا عن الوجوب الغيري (إني جاعل) باسمي البسيط الجامع، وهو يتعدى ذلك، فيكون فيه من الإمكانات الاستعدادية كلها، كيف وفيه من هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان خلق نوره (صلى الله عليه وآله وسلم) - حسب بعض الأخبار - قبل خلق آدم هذا والخليفة في الأرض بأربعة عشر ألف عام (في الأرض) (30)، أي في الكرة الأرضية أو (في الأرض) أي أرض البدن، أو (في الأرض) أي العالم السفلي (خليفة) يستحق على الإطلاق اسم الخليفة، ففيه من الخلافة ما لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيها، ففهم الملائكة أن تلك الخلافة فيها كل شئ، ففيها الغضب والإرادة والسياسة ففيها الفساد وسفك الدماء، ولأن الأمر بدونه لا يدور، ويقول عز من قائل: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (31) فكان هذا الإفساد العظيم من الآلاء والنعيم. (قالوا) على النهج المذكور (أتجعل فيها) في تلك الأرض الجزئية والكلية والمطلقة بأيديك وأنت تتصدى لهذا الجعل العظيم العجيب فيما لا يزال، غافلين عن سبق وجودهم في الأزل بالقضاء والقدر (من يفسد فيها) وهم يباشرون الإفساد، وهم مبادئ الفساد، دونه تعالى: (ويسفك الدماء) بغير حق بأيديهم مباشرة، وهم أحق بهذا الإسناد والنسبة، لأنهم من الخير أبعد وإلى الشر أقرب (قل كل يعمل على شاكلته) (32) (ونحن نسبح بحمدك) مباشرة ونبرئك عن النعوت الخلقية والصفات الرذيلة الوجودية والعدمية (ونقدس لك) نطهرك عن الدنائس والنواقص كليها وجزئيها (قال إني أعلم ما لا تعلمون) أزلا بالسلب البسيط، ولا يمكن أن تعلموه أولا وبالضرورة الذاتية الأبدية، كما هو تعالى يعلم بالضرورة الذاتية الوجوبية الأزلية المطلقة.
وعلى مسلك العارف الرباني: (وإذ قال ربك) معربا هذا القول والمقاولة عما سلف في النشأة الواحدية، نظرا إلى أن الربوبية من الصفات المعربة عن الذات الجامعة في الرتبة السابقة (للملائكة) بأعيانهم التابعة للأسماء والصفات، حسب مقتضياتها، فتلك المحادثات والمجادلات، كانت في نشأة قبل تلك الكثرة الخارجية - الذهنية والعينية الخيالية والوهمية - الناشئة عن النسب والإضافات المرئية بين الأشياء. (إني) بيدي الجمال والجلال وببساطتي المطلقة الذاتية الأحدية التي لا يرمز إليها إلا بضمائر البسائط، وأبسط الضمائر ضمير المتكلم الوحدة، فإنه أبسط من قوله تعالى: (هو الله أحد)، فإن " هو " كلمتان بخلافه، ففهم تلك الملائكة بأجمعهم، وجميع القوى الوجوديات طرا بحذافيرها، أن من تبعات الجلال ما لا يتمكنون من تحمله من التبعات والآثار والخواص (جاعل في الأرض خليفة) وهو الجعل المركب، لأنه ظهور الكون الجامع، بعد سبقه بالأحدية الذاتية والواحدية الجمعية، فيكون الخليفة واسميته مورد الجعل والظهور، دون ذات الظهور والنور، فإنه لا يتحمل الجعل، ولا يقبل الالتفات الاسمي، فإنه معنى حرفي فان ومتدلي الذات في تلك الحقيقة الإلهية، فلا يشار إليه إلا بما هو يباينه ويضاده ويقابله. (قالوا) بالألسنة الخمسة، وفي طليعتها لسان الذات من حيث هي هي (أتجعل فيها) وفي تلك الأرض المقصودة (من يفسد فيها)، لأنه مظهر الجمال والجلال، فلا يمكن أن يرى الغير، ويطلب الرئاسة والسلطنة، فيفسد (ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك) غافلين عن أن هذا الخليفة لا يرى نفسه في قبال ربه، ولا ينسب شيئا إلى ذاته بحذاء ذات الله وإله العالم ورب العوالم، وهم في وجه يشبهون إبليس، حيث إنه رأى غيرية في العالم، فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) (33) فهذه العين الثلاثية جعلته من الكفار والمتكبرين، وهم رأوا أنفسهم، فقالوا: (نحن) في مقابل قول الله تعالى: (إني)، وهذا من سوء الأدب جدا، وتوهموا أنهم يصنعون، وبيدهم التقديس (ونقدس لك) وهذا من نهاية الاحتجاب عن نفوذ قدرته وقوته وإرادته وسلطانه، فما لهم - حينئذ - جواب استدلالي، ولا يمكن توبيخهم وتثريبهم في نسبة الإفساد إلى الخليفة والخليقة، فإنه ليس في الدار من ديار (قل كل من عند الله) (34)، ولا يمكن توجيههم وتعليمهم لخلوهم عما هو شرط، فلأجل هذه الأمور مثلا: (قال إني أعلم ما لا تعلمون) ولا يكون شأنهم ذلك.
1- راجع التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 216 / 100.
2- تفسير العياشي 1: 29 / 4.
3- راجع تفسير العياشي 1: 29 / 5.
4- راجع تفسير العياشي 1: 30 / 6.
5- راجع تفسير العياشي 1: 30 - 31 / 7.
6- راجع تفسير العياشي 1: 31 - 32 / 8.
7- تفسير العياشي 1: 32 / 9.
8- راجع تفسير القمي 1: 36 - 37.
9- راجع عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 9 - 10 / 23.
10- راجع تفسير فرات الكوفي: 6 - 7.
11- راجع تفسير الطبري 1: 198.
12- راجع تفسير ابن كثير 1: 122.
13- تفسير الطبري 1: 200.
14- تفسير الطبري 1: 199.
15- راجع نفس المصدر.
16- راجع تفسير الطبري 1: 200.
17- نفس المصدر.
18- راجع تفسير الطبري 1: 209، وتفسير ابن كثير 1: 123.
19- راجع تفسير ابن كثير 1: 123.
20- نفس المصدر.
21- نفس المصدر.
22- راجع تفسير ابن كثير 1: 123.
23- نفس المصدر.
24- راجع تفسير الطبري 1: 205.
25- فصلت (41): 11.
26- تفسير الطبري 1: 205.
27- راجع تفسير الطبري 1: 211 حول هذا القول وما بعده.
28- راجع تفسير الطبري 1: 210، وتفسير ابن كثير 1: 125.
29- ص (38): 71.
30- راجع بحار الأنوار 25: 21 / 36 و 24 / 43.
31- الرحمن (55): 35 - 36.
32- الإسراء (17): 84.
33- الأعراف (7): 12.
34- النساء (4): 78.