بعض المسائل الكلامية
لزوم من يتصدى أمور المسلمين: استدل (1) القرطبي (2) وغيره (3) بهذه الآية الكريمة الشريفة على وجوب نصب الخليفة والإمام الحاكم بين الرعية، والفاصل بين الحق والباطل، المقيم للحدود والآخذ لحق المظلومين من الظالمين. وبالجملة: استدل بها على لزوم من يتصدى للمسائل السياسية الإسلامية والأمور المهمة ومن الغريب إيراد بعضهم هنا - في تأريخ الإسلام وحديث الولاية - اختلافهم في أنه بالنص أو بالشورى (4)، فإنه أجنبي عن المسألة بالضرورة، كما هو واضح. وأما وجه دلالة الآية: أن حقيقة الخلافة عن الله تعالى - كما هو المتبادر من الآية الشريفة الكريمة - هي المبادرة إلى تنظيم الأمور في الأرض التي لا يمكن نظامها إلا بالاختيار والإرادة النافذة المباشرة في مقابل النظام الكلي المشهود في العالم على حسب قانون العلية والمعلولية، ولا معنى لجعل الخليفة عن الجن في الفساد وعن النسناس في سفك الدماء والاختلال، فلابد من كونه خليفة في الخيرات والمبرات، والأمور اللازمة في أوساط البلاد وفي الأعصار والأمصار فهو خليفة عمن يليق به ذلك ويريده، وليس هو إلا الله تبارك وتعالى. وإن شئت قلت: الآية تدل على أن كل بني آدم خليفة الله في الأرض، لتنظيم البلد وإيصال الحقوق إلى ذويها وإعدام الظالمين، وأن يكون سفك دمائهم بسفك دم الظالمين المفسدين، لا الصلحاء المؤمنين. نعم كل هؤلاء خليفة الله على وجه الترتيب اللازم رعايته، وكل إنسان خليفة الله على وجه لا يستلزم منه الفساد، فإنه كر على ما فر عنه، وهذا نظير الترغيب المرعي في أولياء العقود والأمور والحسبيات والأمور اللازمة في نظام عائلة البشر. أقول: هذا كله يشبه الخطابات والشعريات، دون البرهانيات، فدلالة الآية على وجه شرعي على المسألة غير ثابتة جدا.
تذييل
جواز فعل القبيح عليه تعالى قد اشتهر بين المسلمين أن الأشعري يجوز فعل القبيح عليه تعالى (5)، ويعتقد بجواز الظلم عليه، والذي أظنه أنهم حسب بعض أدلتهم لا يقولون به، وإنما يقولون: بأن جميع أفعاله محمودة، فلا يعقل صدور القبيح منه، لأنه في جميع تصرفاته يكون مالكا مسيطرا على سلطانه وملكه، فلو أدخل الأنبياء - نعوذن بالله - في النار وبالعكس، لما كان ذلك من الظلم، ولو عبر الآخرون بالظلم، فلا ضير فيه عندهم، فلا يرخصون الظلم عليه حسب البحث الكبروي، ولكن لا يرون سنخ هذه الفعال من القبيح والظلم. وبالجملة: ربما تدل هذه الآية على أنه تعالى يتحاشى عما هو قبيح عند الخلق وعند الملائكة، وينزجر عنه، ويقول في مورد توهم الملائكة - مثلا - أنه تعالى يصنع صنعا قبيحا بخلق المفسدين السفاكين في الأرض، ولا سيما بجعلهم خليفة لنفسه، فيقول جوابا: إني أعلم ما لا تعلمون، فلو كان صدور كل فعل منه جائزا كان الجواب على وجه آخر. وبالجملة: هذه الآية بضميمة الآيات الآتية - بناء على الارتباط بينها - تدل على خلاف مرامهم، ويستظهر منها: أنه تعالى في موقف حل المشكلة على الطريقة المألوفة بين الناس بعضهم مع بعض.
1- قد مر البحوث الكلامية المرتبطة بالآية ويأتي هنا كما في أصل النسخة.
2- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 264.
3- راجع تفسير ابن كثير 1: 125.
4- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 265 - 274.
5- راجع كشف المراد: 305، وشرح المقاصد 4: 294، وشرح المواقف 8: 159.