بعض البحوث الفلسفية والمسائل العقلية

المسألة الأولى: كيفية خلق آدم إن من المحرر في محله: أن جميع الموجودات المركبة الطبيعية، مقرونة بالمادة والمدة، وحاصلة من الحركة ومن المبادئ السابقة والعلل الإعدادية التي تنتهي إليها، وتوجب صلاح مادة الشئ لفيضان الصورة الكمالية في قبال الموجودات الإبداعية والاختراعية، فعلى هذا يشكل الأمر لأجل أن هذا المجعول في الأرض - المعروف باسم آدم - من المجاعيل المنتسبة إليه تعالى بلا سبق الحركة والمادة، وبلا سبق النظام العام والقانون الكلي في العلل والمعاليل، ضرورة أن هذا المجعول غير مسبوق بالأب والام، فكيف يمكن الالتزام بوجوده حسب الوجود الكائن والموجودات الكائنة على الاصطلاحات الفلسفية، فهو أشبه بالمخترعات، وإن لم يكن من المبدعات والمجردات بالضرورة، والالتزام به غير ممكن، كما هو واضح عند أهله. ولو كان المراد من هذا المجعول معنى يشبه سائر المجاعيل الطبيعية، ويكون إسناده إليه تعالى كإسناد سائر المصورات والمواليد إليه تعالى، فلا يخص هذا الجعل بآدم، بل كل آدم وجميع بني آدم مجعول الله في الأرض ومخلوقه حسب القانون العام. أقول: لا شبهة في أن الأرض من الحوادث في هذا العالم، وفي هذا الجو من النظام الشمسي والنظام الكلي، ولا شبهة في أنها أسبق وجودا على وجود هذا المجعول بالضرورة، وقد مرت عليها الأزمان والأحيان، وتصرمت الدهور وانقضت العصور، حتى وجد فيها موجود يسمى بالإنسان، وعلى هذا يتوجه الإشكال على جميع ذوي الشعور وأرباب الفهم وأصحاب العقول، ويتوجه السؤال عن كيفية حصوله. وغير خفي: أن إرجاع حصوله إلى سائر الحيوانات، لا يورث حل المعضلة لنقل الكلام إلى الحيوان الأول، وسيمر عليك البحث حول هذا الجهة إن شاء الله تعالى. وبالجملة: ما في هذه الآية من جعل الخليفة في الأرض، لا يلزم أن يكون متحدا مع ما في قوله تعالى في الآية الآتية: (وعلم آدم الأسماء)، لاحتمال كون المتعلم للأسماء من أولاد تلك الخليفة، وهو الظاهر كما مر، فالبحث عن تطورات آدم المتعلم وكيفية خلقته، غير البحث عن هذا المجعول في الأرض المسؤول عنه في سؤال الملائكة والمنسوب إليه الإفساد والسفك، فلا تخلط. وبالأخرة تبين: أن هذه الآية ناظرة إلى كيفية وجود آدم الأول، وأنه لا يستند إلى آدم آخر، بل هو مستند إلى جعل الله تعالى، وهذا مما يشكل أمره ويريب جدا، لأن حصول آدم الأول لو كان من جهة اجتماع الشرائط اللازمة المعدة والدخيلة للزم ذلك في الأحيان والعصور المتأخرة، مع أنه أمر غير معهود، ولا معنى لاختصاص تلك الشرائط بعصر دون عصر ومصر دون مصر هذا أولا. وثانيا: لا يكون أمرا خارجا عن قانون العلية والمعلولية، وعن النظام الكلي الساري والنافذ في العالم. ولأجل ذلك صارت هذه المسألة من المعاضل والمشاكل العلمية، وأنه هل آدم الأول غير مسبوق بآدم، أم لا؟وأنه هل يكون مسبوقا بحيوان متبدل إليه تدريجا، أم من جنس آخر كالجنة والملائكة الذين يشبهون الجنة والأناسي في التوالد والتناسل، وذهبت العقول إلى مذاهب شتى، وصارت صرعى، ولأجل ذلك يقع البحث هنا في مراحل:

المرحلة الأولى: كيفية خلق الحيوان هذه المرحلة في أصل كيفية وجود الحيوانات الحية في الأرض بعد ما لم تكن فيها، بضرورة كافة العقول، وأن الشرع أيضا يشهد على تأخر خلق ما في الأرض عن خلق الأرض. فعلى هذا نقول: إن من الممكن أن تكون الشرائط لحصول نطف الموجودات الحية مخصوصة بالعصور القديمة، لما أن الأرض كانت ذات رطوبة خاصة غير الرطوبة الموجودة، وذات حرارة غير ما هي بين أيدينا، ومن تلك الأشعة والشرائط وفقد الموانع حصلت الصغار من الحيوانات، ثم تبدلت الصغار في التطورات إلى الكبار، ولأجل اختلاف الأماكن الحاصل من اختلاف الأرياح، اختلفت الحيوانات الثواني والثوالث... إلى أن تشتت المواليد المتأخرة حتى استعدت المادة لحصول صورة آدم الأول، فيكون بأمر الله كل شئ من المبادئ والخواتم، ولا بأس باختلاف الأشياء على حد التباين في العصور المتأخرة، ولو كانت ترجع إلى الأصل الواحد، كما هو مقتضى البرهان، فإن القدرة والعلم والإرادة والحياة متباينات بحسب الآثار والتعاريف في لباس الكثرات، مع أن جميع هذه الأصول ترجع إلى أصل الوجود البسيط الواحد، حسب البراهين القطعية والأدلة النقلية المحررة في محله. ولا برهان عقلي على امتناع هذا الاحتمال، كما لا برهان على أصالته وواقعيته. وربما يؤيد إمكان ذلك التجربيات الكثيرة المشهودة في القديم والحديث، فإنه ربما يتولد الحيوان من اجتماع الشرائط الخاصة، من غير حاجة إلى التوالد والتناسل وإلى البذور والبيض، لكفاية الإمكانات الاستعدادية الحاصلة في المواد لنزول الصور من مصور الصور وخالقها، إلا أن ذلك لم يعهد في الحيوانات الكبار، وربما يوجب عدم معهودية ذلك في الكبار أن في الصغار أيضا، تكون البذور والنطف لازمة. وعند ذلك لنا أن نقول: إن هذه المواد انتقلت من الكرات السماوية بالأسباب الخاصة، أو أرسلت من تلك السماويات بالأسباب الهادية، لأجل تمدنهم وحداثتهم وحضارتهم وتقدمهم، فربما كان آدم الأول - مثلا - أيضا مرسلا من تلك الديار، كما رحلوا من الأرض في عصرنا هذا - عصر تسخير الفضاء (1975 م - 1395 القمري الهجري) إلى القمر وما وراءه. وأما الإشكال بنقل الكلام إلى تلك الكرات والسماويات، فهو مدفوع عند أهله، فإنه ليس من التسلسل المستحيل، بل هو من التسلسل الجائز عند الفلاسفة، الممتنع عند المتكلمين، ويعبر عنه بالتسلسل التعاقبي والتعاقب في المعدات، دون العلل الواقعية، وقد قال الحكيم الطوسي - قدس سره القدوسي -: إن مما يمتحن به الصبيان: هو أنه هل الدجاج مقدم على البيض أم البيض مقدم على الدجاج (1)، فإنه من المشاكل جدا، ولكنه عنده يمتحن به الصبيان، فلا تغفل. وغير خفي: أن قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) لا ينافي أن يكون ذلك الخليفة موجودا في بعض السماويات، ثم جعل في الأرض خليفة عن الله، أو عن الأحياء السابقين عليه على الاختلاف الموجود بينهم، وقد مرت الإشارة إليه. وهذا كله مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة الناهضة من الإسلام والإلهيين المنتحلين للديانات، ومن الطبيعيين المتكئين على جملة من التخمينات والحدسيات المشفوعة بالتجارب الجزئية وبالاحتمالات. فمن نظر الفيلسوف الإلهي الواقف على رموز العوالم، وعلى كيفية العلل والمعاليل حسب القوانين العامة العقلية، يكون الأمر واضحا، لأنه لا يهمه القضية الخارجية الشخصية، وإنما ينظر إلى أن إمكان كون هذه الحوادث متعاقبة دائما بمكان من الوضوح، من غير حاجة إلى الالتزام بكون البيض خلق أولا، ثم في محيط خاص حصل منه الدجاج، أو يقال: إن الدجاج حصل أولا، لأجل اجتماع الشرائط، مع بعده، بل وامتناع الاتفاق، فلابد من مباشر عاقل، وهذا لا يكون خارجا عن قانون العلل والمعاليل. وسيظهر توضيح هذا الأمر في طي البحث الآتي إن شاء الله تعالى.

المرحلة الثانية: نطرية " التطور " في كيفية خلق آدم فذهب جمع من الغربيين، وفي طليعتهم - الذي ضبطه التأريخ - رجل يسمى ب? " لامارك " في القرن التاسع عشر، ثم بعده رجل معروف إلى الآن يسمى ب? " داروين "، وتسمى نظريته بنظرية " التطور "، وكان أصل النظرية واحتمالها موجودا في القرون القديمة حتى قيل: إنه سبق على عصر المسيح بخمس قرون، وهذه النظرية مقرونة بالتجربيات والتقريبيات والذوقيات، مع طائفة من التوهمات والتخيلات المشحونة بالحفريات الحاوية لهياكل الأناسي من القرون القديمة جدا. وإجمالها: أن الحيوانات البحرية والأسماك في التطور بلغت إلى الزواحف، وهي في التطورات الطويلة إلى الحيوانات وهي إلى الحلقة القريبة من الأناسي، وهي القردة، وهي إلى الإنسان لقرب الإدراكات والأشكال والحركات. وغير خفي: أن هذه المسائل لا تتحمل البراهين العقلية، ولا يمكن نهوض الأدلة الفلسفية على إثباتها أو نفيها، لخروجها عن الكليات العقلية، ومجرد القرب والذوق لا يكفي، كما أن مجرد البعد أيضا لا يمنع، فتكون داخلة في قاعدة معروفة: وهي كل ما قرع سمعك من عجائب الزمان وغرائب البلدان، فذره في بقعة الإمكان ما لم يذده قائم البرهان (2)، كما قال الحكيم السبزواري: في مثل ذر في بقعة الإمكان * ما لم يذده قائم البرهان (3) وقد تحرر: أن المراد من هذا الإمكان ليس إلا مجرد الاحتمال، دون الإمكان الذاتي والوقوعي والاستعدادي، فإنها تحتاج إلى البرهان. فعندما لا يمنع العقل عن تلك التطورات فسيوجد المتطور في العالم كثيرا، ضرورة إمكان اختلاف الاستعدادات طول الأزمنة، وباختلافها تختلف الصور والفيوضات، فإنها تابعة لتلك المعدات والإمكانات الاستعدادية، التي يحصل اختلافها باختلاف الشرائط، المستندة إلى تبادل الرياح والحرارات والرطوبات ومقارناتها. ومما ذكرنا تبين: أن إبطال هذه النظرية المسماة بنظرية " النشوء والارتقاء "، مما لا يكاد يمكن بالبراهين الفسلفية، كما لا يمكن إثباتها بها. وتوهم: أن تبدل الأنواع غير ممكن من الأباطيل، فإن ما هو الممتنع هو تبدل ماهية وصورة جوهرية إنسانية إلى صورة جوهرية حمارية، وأما الإنسان الجوهري فيجوز أن يتشكل بشكل الحمار، كما ثبت ذلك في البرازخ وغيرها، وأن حديث المسوخ لا يرجع إلى تبدل الصورة المتعصية الآبية إلى الصورة الأخرى، بل هي في الحقيقة من قبيل تبدل صورة النطفة إلى العلقة... وهكذا إلى الصورة الأخيرة، وهكذا يجوز أن يتحرك القردة إلى الإنسان، لا بمعنى حركة مشخص خاص منها إليه، بل في طيلة الأزمان - لأجل تبادل الأحيان وتوارد الحدثان - يشرع النطف - حسب اختلاف الصور - يسيرا يسيرا إلى أن تصير قابلة لصورة متوسطة، وهكذا إلى أن تصير آدم الأول الكامل خلقة وخلقا ومنطقا وفهما. كل ذلك لا يتجاوز حد الجواز والإمكان والتقريب والذوق والميول والحدسيات، ووقوع أمثال ذلك في النباتات بيد الإنسان، لا يكشف إلا عن الإمكان في الحيوانات بيد الموجود الآخر المشرف عليها الذي يسمى بالجان أو الملائكة أو النسناس أو غيرها، كل ذلك سمعيات ظنية، وإن الظن لا يغني عن الحق شيئا. وسيمر عليك حديث امتناع تبدل الأنواع جوهريا عند قوله تعالى: (كونوا قردة وخنازير) إن شاء الله تعالى بتفصيل، وما نحن فيه أجنبي عن تلك المسألة، ويشبه تبدل صور النطف والعلقة والمضغة إلى الإنسان، إلا أنه يشبهه في وجه، كما لا يخفى. وغير خفي: أن مما يوجب استبعاد هذه المقالة عدم معهودية مثلها بعد ذلك، فإن التطور الجائز عام مكانا وزمانا، ولا ينحصر بآدم الأول، كما أن الأدلة القائمة الناهضة على قرب هذه المقالة، كلها حدسيات متخذة عن الحفريات، فإن ذلك لا ينافي اختلاف أفراد الإنسان اختلافا كثيرا وسيعا، لاختلاف المياه والأرياح وحرارة الشمس وغيرها، والاستبعادات التي اتخذ المتأخرون لإبطال هذه المقالة، غير صحيحة، لأنها مقالة ظنية لا تحتاج إلى الإبطال، ولا يلزم مما ذكروه امتناعه، ولا يلزم بعدها أحيانا، كما هو واضح لدى أرباب البصائر. وبالجملة: جميع الأصول المذكورة في كتاب " داروين " تبعا لمقالة " لامارك " لا تصل إلى حدود البراهين، ولا تتجاوز سطوح الذوقيات، وأنى ذلك عن الواقعية ؟! مع أنهم إذا كانوا لا يتمكنون من حل معضلة الحيوان الأول، وهي الأسماك المتبدلة وكيفية حدوثها وتحصلها، ولو أجابوا عنها بما عندهم من التخيلات، لكان هو الجواب عن آدم الأول، فلو كان الحيوان الأول، متحصلا من الاصطكاكات الخاصة بين الأشياء، من التقارب والتمازج المخصوص، لكان ذلك موجبا لجواز اجتماع هذه الشرائط للإنسان الأول وغيره، مع أنه يبقى السؤال عن وجه انفصال هذا الأمر بعد ذلك، ولا يتمكنون من جوابه، وأنه ما وجه عدم تبدل الأسماك بعد ذلك إلى الزواحف... وهكذا إلى آدم الأول، مع أنه لابد من جوازه. فعلى ما تحصل إلى هنا تبين: أنه لا يمكن الاعتماد والركون على هذه المقالات، كما لا يخفى علي ذوي الشعائر والفضائل.

المرحلة الثالثة: نظرية المسلمين في خلق آدم ذهب المنتحلون إلى الديانات السماوية في خصوص آدم الأول: إلى أنه خلق جديد غير متبدل عن حيوان قبله، بل التزموا بأنه مما خلقه الله أولا، ثم خلق سائر الأفراد من هذا الخلق، حتى ذهبوا إلى أن الام الأولى خلقت بإذن الله تعالى، واعتقد الأئمة من المسلمين بأجمعهم: أن المستفاد من الكتاب الإلهي أن آدم الأول خلق في الأرض من غير أب ولا أم، وعليه الأخبار المتواترة والروايات المتعاضدة، مما لا يكون للعقل إليه سبيل، فيكفي لهم التنزيل المصدق عندهم، ولا يصدقهم غيرهم، لعدم الإذعان لكتبهم السماوية. وربما يظهر من الفلاسفة الإسلاميين: أن الأنواع مخلوقات أصلية استقلالية، ولا يرجع أحد الأنواع إلى النوع الآخر، وقد مر أنه لا تنافي بين تلك المقالة ومقالة التطور، لإمكان كون التطور على وجه يستند الأنواع المختلفة إلى النوع الواحد، وأما حديث أرباب الأنواع وربات الطبائع النوعية، فهو يستدعي وجود الطبيعة في عالم المادة، وأما أنها في الأرض أو في موطن آخر، فهو أجنبي عن البحوث العقلية الصرفة. نعم إن الفلاسفة لمكان إذعانهم للهيئة الفاسدة البطلميوسية، ابتلوا بمشاكل مختلفة لا تنحل إلا بعد انحلال أصل المقالة، كما تحررنا منا في " قواعدنا الحكمية " في الفسلفة الإلهية. والذي هو الأصوب في أفق القواعد العقلية والأقرب إلى مقتضيات البحوث العلمية - لولا قيام الأدلة الأخرى الآتية -: أن آدم الأول في الأرض مستند إلى آدم آخر إلا أنه لم يكن في الأرض، ويجوز أن يكون قادما من الكرات السماوية والسماوات السفلية والعلوية، لأجل تمدنهم وحضارتهم العالية... وهكذا. وقد أشرنا إلى جواز أزلية الأنواع، إلا أن أبدية الأنواع قطعية، إلا أن محيط المعاش وقطر الحياة يختلف فلكا وسماء وأرضا وفضاء... وهكذا. وتوهم: أن العالم لم يكن ثم كان، فاسد، للزوم منع الفيض الغير المتناهي، فعالم المادة على الإجمال باق وأزلي، إلا أن ما هو الأبدي معنى كلي لا شخصي، وما هو الأزلي أيضا نوع وكلي لا شخصي، بخلاف أبدية الله تعالى وأزليته، ومادة كل صورة في العالم قائمة بتلك الصورة الشخصية وإن كانت هذه الصورة الشخصية مرهونة بوجود المادة السابقة الفانية القائمة بصورة أخرى... وهكذا، وهذا مما لا ينبغي خفاؤه على ذوي العقول والأنظار.

المرحلة الرابعة: حول الأدلة النقلية بقي النظر في الآثار الحاكية عن ذلك، ودفع ما يتوهم تنافيه معها من الآيات والآثار: أما في الآثار: ففي جملة من الأخبار سئل المعصوم (عليه السلام): " هل كان قبل آدم آدم؟قال: نعم. وسئل: هل كان قبله آدم؟قال: نعم. ثم قال: كلما سئلت عن ذلك فالجواب: أنه كان قبله آدم " (4)، فانظر إلى رقاء هذه النظرية. وفي رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه نهى عن السؤال عما بعد عدنان (5)، ولعله للإيماء إلى أنه لا ينتهي إلى حد، وإلى شخص لا يكون وراءه شخص آخر. وفي تفسير العياشي في ضمن رواية - ربما تأتي - قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إن آدم (عليه السلام) كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك، وشكى إلى الله تعالى، وسأله أن يأذن له، فأذن له، فهبط عليه، فوجده قاعدا في قفرة من الأرض.. " (6) الحديث. وفي أخبار أخر: أن جنة آدم كانت في السماء (7). فبحمد الله نجد تقارن العقل والنقل إلى الآن. وأما ما يستفاد من طائفة من الآيات، فقبل الإشارة إليها لابد وأن يعلم كل ذي شعور: أن كل فرد من أفراد الإنسان مخلوق من التراب والنطفة... وهكذا، ولا يخص آدم خاص باختلاقه من التراب، ضرورة أن النطفة حاصلة من الأغذية، وجميع الأغذية تتكون من التراب على وجه يصح استناد كل إنسان إلى التراب. فعلى هذا ما ترى في الآيات من خلق آدم من التراب لا يورث اختصاص آدم خاص شخصي بذلك، وأظهر الآيات في هذه المسألة قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) (8) ولا شبهة في أن عيسى ليس خلقه من التراب كخلق الظروف والأواني التي تطبخ من التراب، بل هو موجود تربى في بطن مريم حسب الحركات والحرارة اللازمة إلى أن تجسدت بالجثمان المشتمل على تلك الدقائق التي روعيت في بدن كل إنسان من العروق الشعرية إلى العظائم وسائر العضلات والأمعاء والأجزاء الاخر الداخلية والخارجية التي تبلغ عددها إلى أكثر من بليون جزء صغيرا وكبيرا، كما تحرر في علم تشريح الأجساد في هذه الأعصار. فخلق آدم مثل خلق عيسى، وكما لا يجوز أن يتوهم خلاف السنة الإلهية في خلق آدم، كذلك لا يجوز ذلك في خلق عيسى، وكل ذلك على حسب السنة القديمة الأبدية العقلية الإلهية.

المرحلة الخامسة: حول وحدة آدم الأول وآدم المعلم المعروف بين أرباب الظاهر وأصحاب والحديث الظاهر أن آدم الذي جعله الله في الأرض شخص آدم الذي علمه الله الأسماء كلها، وهذه عندنا غير تمام، ضرورة أن هذه الآية ظاهرة بل صريحة في نسبة السفك والفساد إلى ما يجعله الله في الأرض، وآدم الذي علمه الله لو كان شخص ذلك فهو من النسبة الباطلة البعيدة عن ساحة الملائكة، وكل ذي أدب وشعور. وهذا مع أن هذه الآية ليس فيها بحث عن اسم آدم، فيجوز أن يكون من نسل آدم المجعول في الأرض آدم علمه الله الأسماء كلها، وهذه لا ينافيه معذرة الملائكة عن اعتراضهم بحسب الصورة حتى يقال: إن ما في الآيات الآتية هو المجعول الشخصي، مع أن آدم الأول كان مبدأ تكون الأوادم الاخر، وفيهم آدم الذي علمه الله الأسماء كلها، بناء على كونه شخصيا، وسيمر عليك في ذيل الآيات الاخر قصة آدم المتعلم للأسماء إن شاء الله تعالى. فتحصل إلى الآن: مضافا إلى أن المستفاد من الكتاب العزيز، ليس أن آدم خلقه من التراب كخلق الأواني والظروف، التي يصنعها الصانع ويطبخها الطباخ والحجار، مع ما فيه من تلك الدقائق والرقائق، وخروج عن سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، وأن آدم المجعول في الأرض ليس ثابتا أنه من التطور عن الأجسام إلى النباتات، ومن النباتات إلى الحيوانات ومن الحلقات الموجودة في كل واحدة من هذه الطوائف إلى الحلقة الأخيرة، ثم إلى الأشباه والنظائر حتى وجد آدم من الجماد المتطور طيلة المئات والسنوات النورية، ولا يخص قانون النشو والارتقاء بما تخيله أصحابه، بل هو لو صح لكان أعم، ولا يكون هو مخلوقا من التراب، كما يزعمه أصحاب الظاهر من المنتحلين لإحدى الديانات، بعد إمكان كونه من الكرات الاخر للحضارة التي كانت فيها، وهذا هو المؤيد بما عرفت من الروايات، المنسوبة إلى أئمة الحق عليهم السلام: أن آدم المجعول غير آدم المتعلم شخصيا ولو كانا من نوع واحد. ومن الجدير بالذكر: أن العلوم العصرية تؤيد هذه المقالة من جهات كثيرة وأما أن البراهين العقلية تقتضي امتناع قانون التطور وحديث النشوء والارتقاء، لأن مقتضى أرباب الأنواع وربات الطبائع العقلية العرضية والعقول والأنوار الاسفهبدية، وجود فرد من الأفراد دائما في عالم الطبيعة، فهي ولو كانت صحيحة، ولكن لا ينافيها وجود فرد من الطبائع في كرة من الكرات، وحصول فرد آخر من التطور في كرة الأرض من غير استناد إلى ذاك الفرد مع ما ذكرنا في " قواعدنا الحكمية " من المناقشات على مقالة أرباب الأنواع والعقول العرضية.

المرحلة السادسة: حقيقة آدم الأول تختص بمسألة تأتي في ذيل الآيات الآتية، وهو أن آدم المذكور في الكتاب الإلهي - المخصوص بالمواهب الربانية ومنها الخلافة مثلا - هل هو آدم شخصي بحسب التأريخ قبل نوح، وهو نبي من أنبياء الله بالمعنى المعهود من النبوة، أم هو كلي طبيعي، ويكون كل إنسان خليفة الله تعالى بحسب الطبع، وكل إنسان أمرت الملائكة بالسجود له، وكل إنسان علمه الله الأسماء كلها... وهكذا، وأن طينة آدم - بحسب الخلقة الأصلية - خمرت بيدي الجلال والجمال أربعين عاما، لا آدم الشخصي الخاص، أو أن هناك آدمين: آدم أول، وهو أول آدم في كرة الأرض، ومذكور في بعض الآيات، وآدم كلي مذكور في بعضها الآخر، مخصوص ببعض الخواص والآثار، وسيظهر - إن شاء الله تعالى - تحقيقه من ذي قبل.

المسألة الثانية: حول مسألة الخير والشر من المسائل المحررة في علم التوحيد أن الله تعالى محمود في كل أفعاله، وهذه الآية تشهد على أن آدم المجعول في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء، وهذا مورد التصديق، ومع ذلك كله بادر الله تعالى في خلقه وجعله، نظرا إلى مقصد أعلى وغرض أهم، فكيف لا يكون في العالم شر ؟! وكيف لا يكون في الوجود شر ؟! وكيف يصح أن يقال: الوجود كله خير وخير كله ؟! بل المقاييس لازمة المراعاة في أفعالنا وأفعاله تعالى، فلا فرق بين العقلاء من الأناسي وبين الله تعالى في رعاية الأمر والمحاسبة، فيختار الأهم ويترك المهم، فيكون شر في ذاته، وخير بالقياس، وعدم بالنسبة، ووجود محمود في الجملة، لا على الإطلاق، وبذلك يمتاز عالم الملك والناسوت والمادة والحركة عن العوالي المجردة عن المواد وتوابعها وأحكامها. وبالجملة: خلاف بين الفلاسفة: فذهب جمع منهم إلى نفي الشر كله مطلقا، وجمع إلى النفي بالقياس وذلك بعد إذعانهم بأن فاعل الشر والخير واحد، خلافا لجمع من الظلمة الضالين القائلين ب? " يزدان " و " أهرمن "، نظرا إلى أن فاعل الخير والشر يتعدد، غفلة عن اتحاد الخير والشر جوهرا واختلافهما كيفية، وليس في الدار وجود شر محض، بل وجود يصدر منه الخير والشر. وبالجملة: خلاف بين معظم المشائين ورئيسهم أرسطو والإشراقيين ورئيسهم إفلاطن: فذهبت الأولى: إلى أن الشر وجودي، إلا أنه لازم وجوده لما في تركه الشر الأكثر (9). والثانية: إلى أن الشر عدم، ولا يعلل الأعدام (10)، وما في حكمة أبناء الحكمة المتعالية: من أن الشر عدمي (11)، وفرق بين العدم المقابل للإيجاب والعدمي، ويقول شاعرهم: وإن عليك إعتاص تأثير العدم * في سلب قرن منك عن سلب النعم (12) تخيلا أن العدمي له حظ من الوجود، من الأباطيل الواضحة، إلا برجوع العدمي إلى بيان الاصطلاح الخاص، لإفادة أن القوة والقابلية ليست بفعلية، وما هو الموجود هو الوجود بالفعل على وجه لا تكون القوة موجودة بالفعل في قوتها، وإلا فما في الأعيان هي الوجودات على شتى مراتبها. فعلى ما تحرر يتبين: أن الحق أن عناوين الخير والشر عناوين نفسية وقياسية، وإذا لم يكن المبدأ الأعلى شرا في ذاته بالضرورة، ويصح استناد تخيل الشر بالنسبة إليه بالقياس إلى الطائفة الخاصة، يتبين أن الشر لا تحصل له إلا تحصلا بالقياس، وما له التحصل بالقياس ليس له التحصل النفسي والخارجي، وإذا كان الشر كذلك فالخير مثله، لأنه شريكه. فالخير والشر من العناوين القياسية، ولا يكونان من المحمولات بالضميمة حتى يندرجا في المقولات، ولا من خوارج المحمول التي يكون لها المصداق العيني، كالبياض والنور والوجود والحركة، بل هما يشبهان الحق والباطل، ويكونان من الاعتباريات الفلسفية، لا الاعتباريات الرائجة في العلوم الاعتبارية، كالفقه والأصول، فلا ينتزع بالوجدان عنوان الخير والشر من شئ إلا بالقياس إلى شئ، بخلاف عنوان الوجود والعدم، فلا مصداق لعنوان الخير ولا الشر، ولا يكونان خارجين. وما اشتهر: أن الوجود خير محض في غير محله إلا بالإضافة، وما هو اعتبار بالإضافة لا تحصل له إلا بنحو من الإضافة إلا أن هذه الإضافة: تارة من الإضافة المقولية، واخرى من التضايف المفهومي، والخير والشر من قبيل الثاني، لا الأول، لجريانهما في المجردات المطلقة وإطلاقهما وحملهما عليها، كما هو واضح، وأمثال هذه العناوين كثيرة، وأما كون الشئ خيرا محضا بالقياس إلى نفسه لنفسه فهو غلط محض، لأن حقيقة الخير هي الماهية المضافة إلى الغير ف? " هو تعالى خير محض بالقياس إلى ذاته بذاته " غير صحيح، ولا يصدق عليه إلا أنه خير محض بالقياس إلى معاليله مثلا. فقوله تعالى: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) واقعي إلا أن وجود هذا النحو من الوجود بالقياس إلى كلية النظام، لازم واجب، وسفك الدماء والإفساد بالقياس إلى القطر الخاص شر، وبالقياس إلى القطر الأعلى خير، من غير أن يكون الخير والشر خارجين، أو يكون الشر عدما محضا، أو عدميا، بل الخير أيضا من المفاهيم ومن المعقولات الثانية على اصطلاح الفيلسوف، كمفهوم الوجود والإمكان والوجوب، وإن كان في مفهوم الوجود خلاف في أنه كمفهوم البياض والحركة، أو كمفهوم الوجوب والإمكان، وكما قال شاعرهم: ومثل شيئية أو إمكان * معقول ثان جا بمعنى ثان (13).

المسألة الثالثة: أقربية السبب الأخير إلى المعلول في نسبة الجعل إليه تعالى ونسبة السفك والفساد إلى المجعول، وهكذا نسبة التسبيح والتقديس إلى الملائكة، شهادة على أن الأفعال مستندة إلى فواعلها القريبة، وتومئ الآية الشريفة إلى أن الملائكة أقرب إلى التسبيح والتقديس لله تعالى والمجعول في الأرض سبب الإفساد والسفك دونه تعالى، فتكون الآية شاهدة على بطلان مرام الأشاعرة، بل والفلاسفة من الإسلاميين القائلين: بأن السبب الأول أقرب إلى المفعول من السبب الثاني، لأن الأعدام المتصورة بالنسبة إلى المفعول الأخير، قد انسدت بالسبب الأول والثاني، وأما العدم المتوجه إلى المعلول والمفعول من ناحية عدم العلة والسبب الثاني، فلا ينسد، إلا بالسبب الأول، فالفعل الأخير أقرب من العلة الأولى بالضرورة. ثم إن من التسبيح والتقديس، يثبت كمال المبدأ الأعلى واجديته لكل كمال وجمال، وأنه لا يشوبه النقص ولا يطرأ عليه شائبة التشبيه فجميع الصفات الكمالية ثابتة له تعالى، وكل الأوهام الناقصة التحددية والتجسمية مسلوبة عنه تعالى بالسلب المحصل الأزلي الأبدي، وقد أشرنا إلى أن التسبيح بالحمد غير التسبيح البسيط، فإن الأول مضافا إلى السلوب المذكورة، يشتمل على الإيجابات الكمالية، وتصير النتيجة: بساطته المطلقة ووجد انه لكل كمال، فلا يعقل تصوير كمال لموجود من الموجودات إلا وهو ثابت له، وإلا فيلزم أن يكون إطلاق التسبيح والتقديس في غير محله، فالآية شاهدة - من هذه الجهة - على هذه المسألة الراقية العقلية، التي تضمنت مسائل كثيرة ذات ثمرات عديدة. وأما حل المشكلة المشار إليها: فهو أولا: يمكن من جهة أنه مقول قول طائفة من الملائكة غير العارفين بالله حق عرفانه، ضرورة أن الملائكة مختلفة في هذه الجهة، كما أن أفراد الإنسان متفاوتة، وربما يزداد معرفة الإنسان على معرفة الملائكة أحيانا. وثانيا: أن قضية الأدب في الكلام نسبة السفك إلى العلة القريبة المسانخة معه، وحيث إنهم يريدون توضيح كمالهم ونقصان ذلك المجعول فلابد أن يسندوا التسبيح إلى أنفسهم والتقديس إلى ذواتهم في قبال النسبة السابقة، فلا تغفل واغتنم.


1- راجع مصارع المصارع: 170.

2- الإشارات 3: 418.

3- راجع شرح المنظومة (قسم الفلسفة): 51.

4- راجع سفينة البحار 2: 229.

5- راجع بحار الأنوار 15: 105 / 49.

6- راجع تفسير العياشي 1: 32 / 10.

7- راجع تفسير القمي 1: 43، وتفسير العياشي 1: 32.

8- آل عمران (3): 59.

9- راجع شرح المنظومة (قسم الحكمة): 153، والملل والنحل 2: 136.

10- راجع شرح المنظومة (قسم الحكمة): 154.

11- راجع الأسفار 7: 58 - 68، وشرح المنظومة (قسم الحكمة): 155.

12- شرح المنظومة (قسم الحكمة): 155.

13- شرح المنظومة (قسم الحكمة): 40.