بعض البحوث الكلامية
عصيان الملائكة: اختلفوا في أن الملائكة يعصون الله: فجمهور العلماء الفطنين إلى عدم عصيانهم (1)، وذهبت الحشوية إلى جواز عصيانهم، بل وقوعه، واستدلوا لذلك بآيات كثيرة، وأهمها قوله تعالى: (أتجعل فيها) فإن توجيه الاعتراض إليه تعالى وذكر سوء الخلق، بأنهم يفسدون ويسفكون، ومدح أنفسهم بالتسبيح والتقديس، حرام، مع أنهم أبرزوا الشك في حكمة الله وعلمه واعتمدوا على الظن، مع أن الظن لا يغني من الحق شيئا، ويشهد لجميع ذلك اعتذارهم بقوله: (لا علم لنا إلا ما علمتنا) فإن الاعتذار يشهد على صدور الخلاف عنهم. وبالجملة قضايا هاروت وماروت وقصة إبليس - وهو من الملائكة - تشهد على مقالتهم (2) خذلهم الله تعالى. والذي هو التحقيق: أن الملائكة اصطلاح في الكتاب الإلهي عن خلق، وربما يمكن أن يعبر عن أفراد من الإنسان بالملائكة، فإن الشيطان من الإنس والجن، وشياطين الإنس والجن مذكورة في الكتاب، والملائكة أيضا من هذا القبيل، كما يظهر في محله إن شاء الله تعالى. فعلى هذا لا حاجة إلى نفي قول الحشوية على الإطلاق، ولا إلى إثبات رأي سائر العلماء على إطلاقه، بل الملائكة أصناف وربما يطلق عليهم " العباد "، كما في قوله تعالى: (بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (3)، مع أن العبد لا يطلق - حسب اللغة - على غير آحاد الإنسان، فتلك الملائكة المقدسون، ربما تكون من جنس آدم أو الجن أو غيرهما من المجردات المحضة، وفيهم المهيمنة الوالهون حول عرش ربهم. وغير خفي أن القول بالتفصيل ليس خرقا للإجماع، لذهاب الشعراني إليه (4)، والمتبع هو البرهان، وقد عرفت منا: أن هذه الطائفة كانت فيها الجنبتان: الأرضية الظلمانية المادية اللطيفة، والسماوية النورانية الموحى إليهم أحيانا، ومن القسم الثاني الذين يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون، والذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأعظم شأنا منهم من لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
تنبيه
في ذم خليفة الله على الإفساد والسفك، ومدح أنفسهم، شهادة على الاختيار وفساد الجبر. اللهم إلا أن يقال: إن في قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) إشعارا بأن إفسادهم ليس مستندا إليهم ولا تسبيحكم وتقديسكم، ولكنه خلاف الظاهر، كما ترى، فتأمل جيدا (5).
1- راجع التفسير الكبير 2: 166.
2- التفسير الكبير 2: 166، البحر المحيط 1: 143.
3- الأنبياء (21): 26 - 27.
4- راجع روح المعاني 1: 221.
5- يأتي بحثا آخر كلاميا في ذيل " بعض المباحث الأصولية والفقهية "، وبحثا آخر في ذيل " بعض المسائل الكلامية ".