بعض بحوث فلسفية ومسائل حكمية

المسألة الأولى: حدوث النفس اختلفت كلمات أعيان الفلاسفة في مسألة كيفية حدوث النفس، فذهب المشاؤون إلى أنه مجرد يحدث بحدوث البدن (1)، والإشراقيون إلى أنها مجردات في الأوعية الخاصة، تتعلق بالأبدان عند المقتضيات وحصول الشرائط والإعدادات (2). وأما أصحاب الحكمة المتعالية فأنكروا روحانية حدوثها، وأذعنوا أنها جسمانية الحدوث، وروحانية البقاء (3) وبنوا على أن الطبيعة الذاتية الجوهرية متحركة إلى كمالها اللائق بها، وإلى الغاية المنتهية لها، من الصور النباتية والحيوانية والإنسانية، متبدلة في جوهرها، وسائرة في صورها الجوهرية باللبس بعد اللبس، لا اللبس بعد الخلع، فإن حديث الكون والفساد من الأباطيل الممتنعة، وقد تحرر منا امتناعه في الطوليات والعرضيات. وعلى كل تقدير، المادة المتصورة متحركة في الصور بالاشتداد والاستكمال حتى يصل جوهرها الصوري إلى الرتبة العليا ويبلغ الدرجة المجردة عن المادة في ذاتها دون فعلها. وربما يستنبط من قوله تعالى: (وكنتم أمواتا فأحياكم) أن المخاطب واحد في الصورتين، وأنها كانت ميتة فصارت حية، فلابد من تبدل الصورة السابقة إلى الحياة، حتى يصح اعتبار الخطاب. وأما دعوى: أن كلمة الفاء تومئ إلى عدم تخلل زمان بين حالتي الموت والحياة، وأنها كانت ميتة فصارت حية، وهذا بولوج الروح فيه آنا ما، فيكون الروح روحاني الحدوث، فهي وإن ليست بعيدة إلا أن قضية الخطاب أدل على خلافه، مع أن الحركة من اللا شعورية إلى الشعور وإن كانت تدريجية، إلا أن حصول الإحساس والإدراك لا يتخلل بينه وبين ما يسبقه الزمان الطويل، فيناسبه استعمال الفاء. ولعمري إنه لو كان الروح روحاني الحدوث لكان الصحيح أن يقال: كنتم أحياء فأخرجكم من بطون أمهاتكم، ضرورة أن شيئية الشئ بصورته وجهة كماله، فالإنسان كان ميتا، لأنه كان قوة الإنسان، وفيه الإنسانية بالقوة، وتلك القوة صارت إنسانا حيا يرزق. هذا، مع أن الأقوال الاخر واضحة الفساد وأشبه بالخرافات والإسرائيليات. ويكفي لصحة هذه المقالة ذهاب أهل الشهود والعرفان وفضلاء أهل الكشف والإيقان إليها، فيقول المثنوي: از جمادى مردم ونامى شدم * وز نما مردم ز حيوان سر زدم إلى أن يقول: بار ديگر هم بميرم از بشر * تا برآرم چون ملايك بال وپر بار ديگر از ملك پران شوم * آنچه اندر وهم نايد آن شوم (4).

المسألة الثانية: حول تأثير الأفلاك في الحياة والممات ربما يستدل بهذه الآية الشريفة على بطلان قول الملاحدة، المنكرين لكونه تعالى مؤثرا في الحياة والممات، والقائلين بأن الأفلاك والكواكب مؤثرات في هذه الحوادث الكونية (5). وهذا استدلال في غير محله، لأن قائله لا يقول بالقرآن العزيز ولا يعتقد، وقد حكى القرآن كلامهم بقوله: (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر) (6) فما في تفسير صاحب " الحكمة المتعالية " (7) غير لائق بجنابه. نعم من نسبة الإماتة والإحياء إليه تعالى على الإطلاق والعموم، يثبت عموم قدرته وإطلاق إرادته، لأن من الناس من يتصدى لموت الإنسان الآخر ويميته ويقتله وينفيه، وما ذلك إلا في حكومة الله تعالى، فتدل الآية على مسألة أخرى خلافية بين أهل الإسلام. وأما القول بأن الإماتة غير القتل والإفناء، بل هي النقل إلى الدار الأخرى، فيختص به تعالى، فما هو السبب للموت وزهوق الروح غير الإماتة التي هي أمر خارج عن اختيار العبد. فهو ولو كان له شرب يطلب من محال اخر، إلا أن المستفاد من قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) (8) أن الإماتة من الأفعال القابلة للاستناد إلى العباد وإلى الله، كما هو قابل للاستناد إلى ملك الموت وإليه تعالى، فعليه إذا أماته الإنسان الآخر لا يكون ذلك خلاف الآية الشريفة، ولا ينافي إطلاقها وعمومها. أما الإحياء فربما يتوهم أن استناد الحياة إلى المتصدي لأسباب الحياة جائز صحيح، فهو من الاشتباه الواضح، ولا بأس به تجوزا وتوسعا حتى في عصرنا، فإن إحياء الطيور بالمعامل اليومية والصنائع العصرية، ليس من الإحياء الواقعي، ضرورة أنهم لا يصنعون إلا ما تصنعه الشرائط والمعدات، من الكواكب والأفلاك والحرارات والبرودات وغير ذلك، فاستجماعها في محيط خاص لا يوجب ذلك. وأما قوله: (أنا أحيي وأميت) (9) فهو غير صحيح، إلا أن النبي عليه السلام لم يكذبه لقصور فهمه، وجاء مستدلا عليه من ناحية أخرى، (فبهت الذي كفر). وبالجملة: حصول الحياة بالوسائل المهيئة للأسباب البعيدة والقريبة، الحاصلة بقدرة العباد، لا يكون إلا من مفيض الصور وخالق السير، كما قال الحكيم السبزواري: والحق أن فاض من القدسي الصور * وإنما إعداده من الفكر (10) وصرح به الكتاب الإلهي في مواضع عديدة، فلاحظ وتدبر جيدا. ثم إنه لو كانت نسبة الإحياء، إلى الإنسان أيضا حقة، لدلة الآية الشريفة أيضا على تلك المقالة المحررة في محله، وأنه تعالى أولى بتلك النسبة قطعا.

المسألة الثالثة: حول إعادة المعدوم من المسائل الخلافية حديث إعادة المعدوم فقد ذهب المتكلمون - إلا من شذ - إلى جوازه (11)، والفلاسفة إلى امتناعه (12)، ومن الغريب أن الفخر استحسن الضرورة لمدعاه، مع كثرة تشكيكاته (13) وشبهاته، تبعا للشيخ الرئيس - شريكنا في الرئاسة - حيث ادعى الضرورة (14). فأكثر المتكلمين إلى جوازه، وربما يؤمئ إليه قوله تعالى: (يميتكم ثم يحييكم) فإن الإماتة والموت هو تفرق الأجزاء وفناء البدن والصورة القائمة به، فإذا انمحت الشخصية القائمة بالصورة وانعدمت، فلابد من تجويز الإعادة، لأنه المعاقب والمثاب، فلابد من عوده بشخصه، ولذلك يقال: (يميتكم ثم يحييكم) مع وحدة المخطاب في الخطابين، فما هو العائد عين الغالب، فالمعاد والمبتدأ واحد. أقول: يجوز أن يستند إلى التقريب المذكور لنفي كون الإنسان إنسانا بالصورة الحالة في المادة، وذلك للزوم كون المعاد غير المبتدأ، فكيف يصح العقاب والعتاب، وقد تبرهنوا على الامتناع ببراهين محررة في " قواعدنا الحكمية "، والمسألة لا تحتاج إليها، بل من يقول بالجواز يكون غافلا عن أطراف القضية، وإلا فالعاقل أعز شأنا من أن يفوه بمثله. ومن البديهي أن ما هو المعاد يجوز أن يكون مستأنفا بعد عدم بقاء شئ محفوظ بينهما مقوم لهما، فعليه تكون المسألة ضرورية. وأما الآية الشريفة فهي لا تدل على حقيقة الموت، بل الاستدلال المذكور يتم بضم مفهوم الموت وتفسيره الباطل إليها، وقد تبين فيما سبق: أن الموت ليس تفرق الأجزاء وتبدل الصورة وفناءها بعد كونها معنى حالا فيها، بل هو الانتقال من الدنيا إلى وعاء آخر، برفض المادة المسانخة مع الدنيا. ومن الغريب توهم بعض أرباب الكشف: أن الإحياء الثاني هو الإعادة في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك (إليه ترجعون) (15)، ولعله اشتباه في النقل وغلط في الفهم أو قصور في الكشف. ولو كان مفاد الآية ما تخيله ليكون الرجعة لكل أحد، مع أنها لجماعة خاصة، وليست الرجعة إلا بالمعنى الذي يساعد عليه النقل والعقل، والتشبث بأخبار الآحاد في هذه المسائل العقلية والاعتقادية، غير جائز عند علمائنا الأصوليين، بل والظواهر في هذه المواقف موكولة إلى أهله، دون العقول السوقية، والأفهام البدوية، ولا يقاس فقه الله الأكبر بفقه الله الأصغر، فتدبر.

المسألة الرابعة: حول حشر الضعفاء ذهب بعض الفلاسفة الأسبقين إلى أن الحشر مخصوص بأهل الإدراك والبالغين المرتبة العقلية، وأما القاصرون الأرذلون في الادراك والفهم الذين هم أضعف إحساسا وفهما من الحيوانات، ككثير من أفراد الإنسان، فالحشر منفي عنهم لفسادهم بموتهم (16). ولعمري إنه مقالة ربما يوهمها البرهان، إلا أنها ينفيها القرآن العظيم والكتاب الكريم، حيث قال: (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون). ولو كان الحشر ممنوعا عن جماعة - كما زعمه الإفروديسي اليوناني - لكانوا هم هؤلاء الكفرة القاصرين، وقد مر شطر من البحث حوله عند قوله تعالى: (صم بكم عمى فهم لا يرجعون).

المسألة الخامسة: العالي لا يفعل للداني من المسائل المبرهنة في " قواعدنا الحكمية ": أن العالي لا يفعل للداني، إلا أن في الكتاب آيات كثيرة توهم خلافها، وربما تكون هذه الآية (هو الذي خلق لكم ما في الأرض) من أظهرها، ومن مراجعة أدلتها يتبين وجه صحة هذه المقالة، ووجه استعمال لفظة اللام وأمثالها، فإن من براهينها: أن الفعل إذا كان عنه تعالى لغرض غير ذاته تعالى، لكان في تحصيل ذلك الغرض مغرضا، فلابد هناك من غرض آخر حتى يصل إلى ذاته، فرارا عن التسلسل في العلل الغائية، فإنه كالتسلسل في العلل الفاعلية، فإذا كان ما هو الغرض بالحق والحقيقة هو تعالى، فالأغراض المتوسطة صورة من الغايات التي تنتهي إليها الحركة العالمية الكلية، فيكون استعمال اللام بلحاظها، وهذا يكفي من غير لزوم مجاز في الاستعمالات.

المسألة السادسة: حول تعدد الإرادة من الله تعالى من المسائل الخلافية بين أصحاب التحقيق وأرباب القشر والظواهر، حديث تعدد الإرادة الإلهية الفعلية بعد إنكار هم الإرادة الذاتية، نعوذن بالله من الكفر والإلحاد ومن الشرك والإفساد، فكيف يرتضون وجود صفة كمالية لأصل الوجود لأنفسهم دون الله تبارك وتعالى مع ظهور الآيات من نسبة الإرادة إليه تعالى ؟! وأما الآيات الموهمة لتعددها، فمنها قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء) بعد قوله تعالى: (خلق لكم)، ولا معنى لذلك إلا بتعدد الإرادتين، فتكون الإرادة من صفات الفعل عندهم، غافلين عن أن الإرادة التي من الصفة تحتاج في تحققها إلى الإرادة، فيلزم التسلسل، وعند ذلك نقول: إن تعدد الأفعال أو تعاقب الأمور الكثيرة لا يلزم منه تعدد الإرادة، لإمكان تعلقها من الأول بالشيئين المتعاقبين، مع كون المراد أيضا واحدا، والتعاقب في لوازم ذلك المراد بالذات، وتفصيله في محله. وعلى هذا يتعدد النسب بين صاحب الإرادة وبين تلك اللوازم والحدود والعناوين، وهي الخلق والاستواء، أو خلق الأب ثم الابن، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقد قال الله تعالى: (يفعل الله ما يشاء) (17) فكيف يكون المشيئة صفة الفعل، نعم المشيئة فيه لمكان كونها عن العلم المطلق والقدرة المطلقة، تكون أزلية واقعة على المصالح الكلية، ويكون المراد شيئا واحدا كليا سعيا لا مفهوميا، وهذا البرهان أبدعناه ونورنا الله به على أصالة الوجود وإلا فليزم تعدد الإرادة الفاعلية لتعدد الماهيات وتباينها الذاتي، فافهم واغتنم.

المسألة السابعة: حول تناهي أبعاد العالم من المسائل المبرهنة بالبراهين الفلسفية والرياضية: أن الأبعاد متناهية، والعالم لابد أن يكون بحسب المقدار محدودا، ولو كانت بحسب المبدأ والمنتهى بوجه آخر، وذلك مقتضي برهان التطبيق والسلمي وغيرهما، ومناقشتنا في الأول لا توجب قصورا في الثاني، وهكذا برهان المسامتة والموازاة. وعلى كل، يشهد قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء) أن العالم بين الجهتين السفلى والعليا، والأرض في السفلى لمكان نزول الكلام، وفيه المخاطبون به، وغير الأرض في العليا، وهي محدودة. وأما معنى السماء وكيفية اعتبار السبع، فيحتاج إلى بيان يأتي تحقيقه في ذيل الآيات المتعرضة لمبدأ خلق السماء، فإنا بنينا على أن لا أخرج عما تقتضيه الآيات من الدلالات، ومجرد اشتمالها على كلمة الأرض والسماء، لا يقتضي البحث عن مبادئهما وكيفيتهما وكميتهما، ولم يبلغ حجم كتب التفسير إلى ما ترون من الضخامة إلا لأجل الخروج عما هو وظيفتهم المأمولة. وغير خفي: أن معنى محدودية الأبعاد ليس ما يذهب إليه طرفك وخيالك، فإنها كثيرة بعيدة المدى كبيرة إلى حد لا يتعقل عندنا، فإن أصل الانتهاء أمر، وسعة الأرض والسماء أمر آخر بما لا يبلغ نور الشمس والشموس والشموسات في مدة أعمارهم إلى آخر الحد منه، ولكنه محدود حسب البراهين العقلية والمسألة في غاية الصعوبة تصديقا وجدانيا، والمتبع هو البرهان، فتدبر.

بقي شئ

يجوز المناقشة في الدلالة لأجل احتمال كون المنظور في الآية منظومتنا الشمسية، وأن الأرض والسماوات السبع مشكلة لنظامنا الشمسي، وأما العالم ففيه المنظومات الغير المتناهية، ويؤيد الاحتمال المذكور تقدير خلق السماوات والأرض بالأيام الستة، فإن تلك الأيام تعتبر من الحركات السابقة عليها، ومن الشمس الأسبق، وإلا فلا معنى لليوم في هذا الموقف من التقدير، فتدبر واغتنم. كما يحتمل أن يراد من السماء والسماوات جهة العلو وجهاته، كما في الأرض والأرضين، فإن اعتبار جمع الأرض يتخذ من قطعاتها، وهذا كثير التردد في الاستعمالات الحديثة والقديمة، فالسماوات السبع جهات العلو من الأقاليم السبعة حسب تقسيم الأرض بها، نظرا إلى تخيلات البشر، ولا يلزم من ذلك تصديق التقسيم المذكور، لأن النظر إلى إفادة أصل انتساب الخلقة في كل شئ إليه تعالى. وبالجملة: لا تدل الآية الشريفة على محدودية الأبعاد وجهات العالم، لاحتمال كون السبع كناية، فإن لألفاظ الكناية سعة في أدب العرب، ومنها ألفاظ " السبع " و " الأربعين " و " السبعين " وغير ذلك. اللهم إلا أن يقال: التزام القرآن بعدد السبع في هذه المسألة يشهد على الحصر.

المسألة الثامنة: حول علم البارئ تعالى من المسائل الخلافية حديث علمه تعالى، والذي لا ريب فيه بين الفلاسفة والمتكلمين هو أصل علمه تعالى بكل شئ وإنما الخلاف في أنه من قبيل العلم الشخصي الجزئي، أم هو علم بالعناوين الكلية؟فذهب أكثر أهل التحقيق وأرباب الحكمة إلى الأول، وجماعة من الحكماء والمتكلمين إلى الثاني، ولا يمكن استفادة هذه الخصوصية من الآية الشريفة. اللهم إلا أن يقال: إن توصيفه تعالى بالعليم والعالم، يشهد على أنه كلي، ضرورة أن العلم الشخصي هو العرفان، ولم يعهد في الكتاب والسنة بل والأدعية - إلا شاذ - توصيفه تعالى به واستناد العرفان إليه، فتدل الآية على أنه علم كلي. ومما يشهد على الفرق بين مادة العلم والعرفان: أن دعوى العلم بوجود زيد في البلد وعدم عرفانه صحيح، بخلاف دعوى العرفان مع عدم اطلاعه على خصوصياته الشخصية، وهذا كأنه أمر مفروغ عنه في محله وتفصيله في محله. وعلى هذا ربما يستكشف من كثرة استناد العلم إليه تعالى - دون مادة العرفان - صحة مقالة القائلين بأنه يعلم على نعت الكلي لا الشخصي، وقد ذهب مثل الشيخين (18) - بهمنيار (19) وأبو العباس اللوكري (20) - إلى أنه تعالى يعلم الأشياء بالصور المرتسمة على نعت الكلي، وأما الأقوال الاخر المنتهية إلى أن مناط علمه تعالى هي الوجودات المفارقة (21) أو المنحازة عن الذات كالإشراقيين (22)، أو الصور المتحدة مع الذات ك? " فرفوريس " مقدم المشائين (23) وغير ذلك، فكله من الأغلاط، ضرورة أن الذات الأحدية علة، فلابد من كونها عالمة في مرحلة الذات، وأنها ذات بسيطة، فلا معنى لاتحاد الصور معها، ولا معنى لكون الأعيان الثابتة أو الأشياء المعدومة غير الموجودة مناط علمه تعالى، كما تخيله جماعة من الصوفية (24) والمتكلمون (25). نعم للقائلين بالأعيان الثابتة مسيرة أخرى، غير ما هو ظاهر كلماتهم، وهو الحق عندنا الراجع إلى أنه تعالى يعلم الأشياء علمه بذاته من غير إجمال فيه كشفا وإن كان في نهاية البساطة، ضرورة أن بسيط الحقيقة جامع لصور كمالية كل شئ بنحو الأبسط، وأن شيئية كل شئ بكماله، فكمال كل شئ حاضر عنده تعالى بحضور ذاته لذاته، وهذا هو العلم الإجمالي في غاية الكشف التفصيلي وبنفس ذلك العلم يحصل العلم بالأسماء وبلوازمها، وهي تلك الأعيان، ولا يزيد عليه علم آخر حتى يلزم التركيب أو الجهالة في الذات. عصمنا الله من الزلل، وقد تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرا. وأما حديث كون العلم كليا والعرفان شخصيا فهو في محله غير بعيد، إلا أن العلم أعم، ولا تباين بينهما، فلا يدل مادة العلم على الكلية، وأما خلو الآيات والأدعية والأخبار فهو ممنوع، نعم هو قليل، ففي المناجاة الشعبانية التي هي من أرقى الأدعية الإسلامية، ومن أعلى المناجاة الإمامية، وهي معجزة دالة على حقانية المذهب والطريقة الجعفرية، قال (عليه السلام): " وتعرف ضميري ولا يخفى عليك أمر منقلبي ومثواي... " (26) إلى آخره. وفي دعاء الخميس من " الصحيفة السجادية " التي هي زبور آل محمد (عليهم السلام) - على ما في بعض الروايات - أيضا قال: " فاعرف اللهم ذمتي التي رجوت بها قضاء حاجتي يا أرحم الراحمين " وفي معتبر علي بن سويد، في كتاب النكاح أبواب النكاح المحرم، قال: " إني مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة... - إلى أن قال (عليه السلام) - إذا عرف الله من نيتك الصدق فلا بأس " (27). فعلى كل لا تدل هذه الاستعمالات على شئ قبال حكومة العقل. نعم ربما يستأنس ويتأيد بها، وتطمئن القلوب بها، فلا تخلط. بقي شئ: وهو أن هذا الحادث الجزئي الخارجي فيما لا يزال، كيف يكون معلوما جزئيا وشخصيا في الأزل ؟! وهذا لا يتصور إلا بالوجه الكلي. ونتيجة هذا التقريب، بضميمة: أن المفهوم الكلي لابد وأن يكون عارضا على الذات كعروضه على ذواتنا، فهل يمكن الالتزام بكون الذات الأحدية معرضها، فيلزم تحدد الذات، لأن تلك الصور تحددها طبعا، أو يلزم تركبها لو كانت داخلة، مع أن الكلي والمفهوم إذا صار جزئيا بجزئية الذات وشخصيا بشخصيتها، يلزم الإشكال الأول أيضا ؟! وبالجملة: نتيجة الإشكالين إنكار العلم رأسا، كما أنكره جمع (28)، وهل يعقل خالقيته تعالى بدون العلم؟وعليه يلزم إنكار الذات. اللهم إليك أبتهل ومنك نرجو، وعليك التعهد، وبك الوثوق، فاحرسنا بحراستك، واكلأنا بكلائتك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة. آمين رب العالمين.

المسألة التاسعة: عدم إرادة الموت الإرادي من الآية عموم هذه الآية يقتضي أن يكون جميع الآحاد في هذه التبدلات والتطورات مشتركة. فالقول بأن الإماتة في الآية هي الإماتة الإرادية عن الكثرة بالفناء في الواحدة الذاتية أو الصفاتية، كما في تفسير ابن العربي (29)، غير جائز. وفي هذه التطورات احتمالات كثيرة تأتي في بحث التفسير والتأويل، فإن هذه البحوث حول الأدلة والمستفاد من الآية حسب الدلالة، ولا ينظر هنا إلى المحتملات. بقي شئ: حول نفي عالم الذر وهو أن قوله تعالى: (أمواتا) ربما يشعر بإنكار الكينونة السابقة للأشياء بل فيه إشعار برفض عالم الذر الذي هو قبل عالمنا. هذا حسب النص (30) والشهرة والإجماع. كما أن في قوله تعالى: (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) إشعارا بعدم وجود الإماتة بعد الإحياء الثاني، مع أن قوله تعالى: (ثم إليه ترجعون) إشعار بالإماتة بعد تلك الحياة. وبالجملة: هل بعد الحياة البرزخية موت أم لا؟قضية العقل والنقل عدم وجود الموت، لبقاء النفوس، فلا إحياء، والذي يسهل الخطب ما هو الحق في معنى الموت والحياة، فإن أصل الوجود ليس من الحياة في هذه الآيات وإن كانت الحياة عين الوجود تساوقا لا ترادفا، ولكن الإحياء هنا غير الإيجاد من العدم المطلق، بل الإماتة والإحياء هما بالإضافة إلى تعلق النفس بالبدن وعدمه، فما دام لم تلج النفس يكون الموت حاصلا، فإذا فارقت النفس البدن يحصل الموت، وإذا ولج فيه الروح يكون من الأحياء، فالإماتة والإحياء تطورات حول هذه القضية، فلا منافاة بين الكينونة السابقة وبين الإحياء، كما لا منافاة بين الحياة البرزخية الباقية وبين الإحياء، برجوع تلك الأنفس إلى الأبدان على الوجه المحرر من الرجوع، فالرجوع إليه تعالى دائمي، وكل شئ في قوس الصعود راجع إليه تعالى من المادة والهيولي الأولى التي هي مقتضي الفيض النزولي، ومبدأ الفيض الصعودي، وهذا الرجوع الخاص للنفس إلى البدن عند وجود شرائطه، فلا موت بمعنى عدم الوجود، ويكون هناك موت، بمعنى الفراق الحاصل المنتهي أمره وزمانه برجوع النفس إلى البدن المسانخ معها، فليلاحظ.


1- راجع الشفاء (قسم الطبيعيات): 353 - 355 و (قسم الإلهيات): 533، وشرح الإشارات 3: 260 - 263.

2- راجع حكمة الإشراق، مجموعة مصنفات شيخ الإشراق 2: 201 - 203 و 216.

3- راجع الأسفار 8: 325 - 380، والشواهد الربوبية: 221 - 224، والمبدأ والمعاد: 223.

4- راجع مثنوى معنوى، دفتر سوم، بيت 3902 - 3906.

5- التفسير الكبير 2: 152.

6- الجاثية (45): 24.

7- راجع تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 2: 269.

8- الزمر (39): 42.

9- البقرة (2): 258.

10- راجع شرح المنظومة (قسم المنطق): 73.

11- راجع شرح المقاصد 5: 82 - 88، وشرح المواقف 8: 289، وشوارق الإلهام 1: 127.

12- راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 298، والأسفار 1: 353 - 364، والمطارحات، مجموعة مصنفات شيخ إشراق 1: 214 - 217.

13- راجع المباحث المشرقية 1: 138.

14- راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 298، والمباحث المشرقية 1: 154.

15- راجع الفتوحات المكية 3: 24، تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين 2: 257، والأسفار 9: 147.

16- الأسفار 9: 147.

17- إبراهيم (14): 27.

18- راجع فصوص الحكم، الفارابي: 97 - 100، الشفاء (قسم الإلهيات): 498، والإشارات والتنبيهات، ضمن شرح الإشارات 3: 315.

19- راجع التحصيل: 574 - 577.

20- راجع بيان الحق بضمان الصدق: 309 - 314.

21- راجع الأسفار 6: 181.

22- راجع حكمة الإشراق، مجموعة مصنفات شيخ إشراق 2: 150 - 154، والأسفار 6: 181.

23- الأسفار 6: 181.

24- راجع مصباح الانس: 82 - 86، وشرح فصوص الحكم، القيصري: 17 - 22، والأسفار 6: 181.

25- راجع الأسفار 6: 181.

26- إقبال الأعمال: 685 المناجاة الشعبانية.

27- راجع الكافي 5: 542 / 6، ووسائل الشيعة 14: 231 / 3.

28- راجع المباحث المشرقية 2: 494، والأسفار 6: 179.

29- تفسير القرآن الكريم، المنسوب إلى ابن العربي 1: 34.

30- راجع الدر المنثور 3: 141 - 145.