جولة حول بعض البحوث الكلامية

البحث الأول: هل الكفر مخلوق له تعالى؟اختلفت المعتزلة والمجبرة في أن الكفر من خلق الله في العباد (1). فذهب المعتزلة إلى أن لو كان من الله لما كان وجه لقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله) وأمثاله، مثل (وما منع الناس أن يؤمنوا) (2) وغير ذلك، فمن توجيه هذا الخطاب واستناد الكفر إليهم ومن نهوض الآيات لهدايتهم إلى الإيمان، واختيارهم الإذعان للتوحيد والرسالة، بإقامة الحجج عليهم ولهم، يتبين صحة كون الكفر مخلوقهم. أقول: هذه المسألة من جزئيات المسألة الكلية العامة في جميع العالم، وهو أن الأحداث والأفعال تستند إليه تعالى على الإطلاق، أو لا على الإطلاق، أو يتوسط بينهما الأمر الثالث فيكون في البين تقييد، ومن ذلك الكفر والإيمان، فإنهما ولو كانا من الأمور القلبية، إلا أنهما يتحملان الاختيار بالضرورة بمراتبهما المتفاوتة في الجوانح والجوارح. ومن المحرر في محله: أن العلل المتوسطة والفواعل المتنازلة، علل وفواعل، وإلا يلزم كونه تعالى محطا للحركات وللتركيب الذي هو شر التراكيب، وهذا كفر، ولا تكون يد الله مغلولة، غلت أيديهم بما قالوا (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (3)، فلا يكون منعزلا عن الخلق وممنوعا عن التصرفات، فإنه أفسد، لأنه يرجع إلى الشرك وتكثير الواجب بعدد كثرة الفواعل. فما هو الخارج عن حدي الإفراط والتفريط، وهو القول الفحل المتوسط هو: أن الوسائط علل، ولكنها غير مستقلة في الفاعلية، فالكفر إذا كان ضلالا يستند إليه تعالى، فيقول (يضل من يشاء) (4)، ويستند إليهم (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (5)، وذلك لأن هذه الحركة التي تصدر الساعة من يراعي، تكون من اليراع بالضرورة ومني بالقطع واليقين، إلا أن المباشر المزاول هو اليراع، والمفيض الموجد هو الله تبارك وتعالى، ولهذه المسألة مصب آخر وموقف أخرى سيمر عليك إن شاء الله تعالى في موضع من هذا الكتاب وقد فصلناه في " قواعدنا الحكمية " وتحريراتنا الفلسفية. فالكفر مختار العبد إلا أنه من سوء الاختيار، وفي جميع الأحيان يجد وجدانه مختارا في رفضه وفي التحلي بلباس الإيمان، فالآية تدل على جواز التوبيخ والنسبة، ولا تدل على أن الإنسان مستقل في الفاعلية والعلية والتأثير والاختيار.

البحث الثاني: حول الحياة البرزخية ذهب جمع إلى أنه لا حياة بعد الموت إلا الحياة الأخروية، وهي القيامة، فلا برزخ، بمعنى الحياة المتوسطة. نعم هناك برزخ إلى يوم يبعثون. ومما يشهد عليه هذه الآية الشريفة (6) فإن قوله تعالى: (ثم يميتكم) هو الموت عن هذه الحياة الدنيوية (ثم يحييكم)، وهي الحياة الأخروية، (ثم إليه ترجعون) وهي الرجوع إلى ساحة الحساب بعد ذلك الموت وتلك الحياة، ولو كان الإنسان منتقلا من هذه النشأة إلى الحياة المتوسطة، لما كان وجه لقوله تعالى: (ثم يحييكم)، فالتراخي يشهد على طول مدة الممات، وهو في البرزخ، ويؤيده قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) (7) بل الإحياء بعد الإماتة يشهد على عدم الحياة المتوسطة، وإلا فلا معنى للموت أصلا، لأن الإنسان دائم الوجود في النشآت المختلفة، فالآية تدل على خلاف ما ذهب إليه جمع المتكلمين والفلاسفة. وبالجملة: صارت المسألة فلسفية وخرجت عن الكلامية، ولو انحلت المعضلة عند الفيلسوف فتنحل عند غيره بالأولوية القطعية، لأن الآية أظهر في فساد مرامهم من إنكار موت الإنسان رأسا ثم الحياة، كما لا يخفى. أقول: قد مر أن الموت من الأمور الواقعية إذا قيست إلى ذات الأشياء، ومن الأمور الإضافية إذا قيست إلى الحياة في سائر الأشياء، الأرض ميتة بالقياس إلى زرع خاص، وحية بالقياس إلى زرع آخر، وربما تكون ميتة، ولا يتحمل مطلق الزرع، وفي هذه الآية حسب الأظهر يكون النظر إلى الحياة والموت الإضافيين، أي كنتم أمواتا بالقياس إلى الحياة الدنيوية، فإن الإنسان ما لم يتولد يعتبر ميتا بالقياس وإن كان حيا في ذاته، ثم بعد تلك الحياة الدنيوية يحصل الموت، أي الخروج عن تلك الحياة الدنيوية، ولو كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، إلا أنها حياة أخرى لها آثار اخر، ثم بعد تلك الحياة المجتمعة مع الموت عن الحياة الدنيوية، تحصل الحياة الأخرى تشبه الحياة الدنيوية بحسب الآثار والأحوال. والظاهر أن قوله تعالى: (إليه ترجعون) هي الحياة الأخيرة الباقية فالإحياء الثاني إحياء في البرزخ، فتكون الآية أدل على وجود الحياة في البرزخ. نعم قضية كلمة " ثم " للتراخي هو الفصل، إلا أنه لأجل بعد زمان البرزخ المتوسط الذي فيه حياة وإقبار، حياة بالقطع لقيام النقل والعقل، وإقبار وهو الممات بالقياس، فتنحل المعظلة عند الحكيم والمتكلم جميعا.

البحث الثالث: حول بطلان القول بالتجسيم ذهب جمع من القشريين من الكلاميين المنتمين إلى الإسلام، إلى أن الله يتجسم أو فيه من التجسم والجسمية شئ، نظرا إلى بعض الآيات، ومنها قوله تعالى: (إليه ترجعون) (8)، فإنه لا يمكن إلا في صورة التحديد والتجسم، وهكذا قوله تعالى: (إستوى إلى السماء)، فإنه لا معنى له إلا إذا كان فيه من التحديد شئ، وهو يلازم التجسم، وأما كونه ماديا فلا، فإن من الأجسام ما لا مادة لها، بل هي محدودة بالمقدار التعليمي، والجسم هو ما يمكن أن يفرض فيه ثلاث خطوط على زوايا قوائم، وهو يمكن في حق الصور الذهنية من الأشياء الخارجية، مع أنها بلا هيولى ولا مادة. وكان الالتزام بمثله أهون من الالتزام بذاك. عصمنا الله من الزلل، وآمننا من الفتن، وطهرنا من الدنس، وأذهب عنا الرجس، ويطهرنا - إن شاء الله - تطهيرا عن هذه التوهمات والتخيلات الشيطانية والجزافية السفاهية. أقول: من المسائل التي يلزم على كل ذي شعور التوجه والالتفات إليها حديث المخاطبة بين اللا متناهي مع المتناهي المحدود المادي الزماني، فإن التنزل عن تلك المقامات اللاحدية مما لابد منه في تلك الخطابات والتوجيهات، ولا سيما إذا كانت الهيئات اللغوية والكلمات الوضعية كلها من الأمور المادية المتصرمة والزمانية المتدرجة، فعليه لا ينبغي اصطياد المسائل العقلية وأحكام الربوبية وأوصاف الموجود التام اللا متناهي، من هذه النظرة ومن تلك المنظرة فإنه اعوجاج وإضلال وضلالة، وقال الشاعر الفارسي، ولنعم ما قال: چونكه با كودك سر وكارت فتاد * هم زبان كودكى بايد گشاد (9) فلا يعقل أن ينتقل البشر المادي إلى تلك الربوبيات الرقيقة والإلهيات الدقيقة والعرفانيات الراقية، إلا بالإمدادات الغيبية، والإعانات القلبية، والمشاهدات الإيمانية، والمكاشفات المعنوية، وإلا فالألفاظ قاصرة، فلنعم ما قال العارف الشيرازي: كس ندانست كه منزلگه معشوق كجاست * آنقدر هست كه بانگ جرسي مى آيد (10) فالاتكال على هذه الاستنباطات ليس من دأب المحققين في المسائل العقلية الإلهية، فلاحظ واغتنم.


1- راجع شرح المقاصد 4: 219، وشرح المواقف 8: 145.

2- الإسراء (17): 94.

3- المائدة (5): 64.

4- الرعد (13): 27.

5- البقرة (2): 286.

6- التفسير الكبير 2: 151، شرح المقاصد 5: 111 - 117، شرح المواقف 8: 317 - 320.

7- المؤمنون (23): 15 - 16.

8- راجع التفسير الكبير 2: 152.

9- مثنوى معنوى، دفتر 4، بيت 2577.

10- ديوان حافظ الشيرازي، مطلعه: م?ده أي دل.