وجوه البلاغة وأساليب المعاني

الوجه الأول: ربط الآيتين بما قبلهما ربما يخطر بالبال أن يقال: إن الآيات السابقة من قوله تعالى: (يا أيها الناس) إلى هنا، كانت متعرضة لتوجيه عبدة الأوثان وتاركي عبادة الله تبارك وتعالى، وكان قوله تعالى: (أعدت للكافرين) رمزا إلى أنهم أيضا مثلهم في المصير والمنزل، وهكذا قوله تعالى: (وأما الذين كفروا) فإنه أيضا بيان لحال أن الكافر يظن هكذا في حق أمثال القرآن، فلا مناسبة بين تلك الآيات وقوله تعالى خطابا لهم: (كيف تكفرون بالله) مع أنهم ما كانوا كافرين به وبذاته، بل اتخذوا الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى. وفي كتب التفسير: أن هذه الآية مرتبطة بالآيات السابقة، وإعادة على ما هي عليه من المقصود، وهو إثبات التوحيد والرسالة، مع أن الأمر ليس كذلك، فإن تلك الآيات تحول حول التوحيد العبادي. ولأجل ذلك يظهر لي الآن: أن قوله تعالى: (كيف تكفرون) خطاب إلى الكافرين بالعبادة وتوجيه لهم إلى أن الله تعالى الذي هو كذا وكذا، أولى بالعبادة من تلك الأباطيل والأوثان والأصنام، ويجوز أن يكون من هنا انطلاق إلى أمر آخر، وهو إفادة الدليل على التوحيد الذاتي. والذي هو الأقرب: أن قوله تعالى: (وأما الذين كفروا) كان ظاهرا على وجه - حسب ما مر - في طائفة خاصة، وهم " الذين آمنوا ثم كفروا " لأجل عدم إدراكهم تلك الأمثال، والمراد من " الفاسقين " أيضا تلك الطائفة حسب ما أفيد في وجه، فعليه من ذيل الآية السابقة ينتقل الكلام إلى أن يرشد الكافرين العابدين للأصنام إلى ما هو الحق، وألا يتشبثوا بما تشبثوا به، وليتدبروا في آيات الله، وليرفضوا ما يتخيلون ويتوهمون في مسألة الأمثال والحكم. ويؤيد ذلك قولهم: (ماذا أراد الله) فإن منه يعلم إقرارهم بالله تعالى، وإنما خلافهم في العبادة والرسالة التي تنهاهم عن تلك العبادة الباطلة. فمن هنا يظهر فساد مجموع ما في التفاسير من ربط الآية بتلك الآيات، بل هنا ربط أقرب وأقوى.

الوجه الثاني: حول السؤال ب? " كيف " قد اختاروا: أن " كيف " هنا للتعجب أو للتوبيخ، مع أن الأمر ليس كذلك، فإن البلاغة العالية تنافي التعجب، لأنه يقرع نفوس المستمعين، وخلاف موازين الإرشاد والوعظ. وأسوأ منه الاحتمال الثاني، وما زعموا ذلك إلا من جهة ما رأوا في البحث السابق. والذي هو الأقرب: أنه للتليين والتوجيه المشفوع بالإرفاق واللينة، فينادي: كيف تكفرون بالله ؟! وكيف يجوز أن يكون مجرد استبعادكم للأمثال وضرب المثل موجبا لكفركم؟مع أن الله تعالى صنع كذا وكذا، ورباكم وهو رحيم بكم عطوف عليكم، خلقكم وخلق ما في الأرض لكم، وأنتم إلى عنايته ترجعون وإلى رحمته تعودون، فلا ينبغي أن تكفروا بمثله. وإن شئت قلت: من وجوه البلاغة التلطيف بعد التشديد، وحيث إن قوله تعالى: (إلا الفاسقين * الذين...) إلى آخره، كان فيه تشديد بالنسبة إلى الكافرين بشكل الغيبة، فاريد هنا تلطيف خواطرهم وميولهم.

الوجه الثالث: الالتفات من الغيبة إلى الحضور فمن هنا يظهر الثالث من وجوه البلاغة وهو الالتفات من الغيبة إلى الحضور، فإن في تلك الغيبة كان تشديد، ومتوجه ذلك إليهم بطريق غير مستقيم، فحصل العدول منها إلى الحضور، نظرا إلى كسر تلك الشدة والعنف، فجاء بكلام لين مشحون باللطف والتوجيه والوعظ البالغ، فلا تخلط.

الوجه الرابع: الخطاب بالصفة المتلبس بها من وجوه بلاغة الكلام مراعاة حال المخاطب على الصفة التي تلبس بها، ويكون متلبسا بها حين الخطاب، وهذا مما لا يتيسر إلا بإتيان الفعل المضارع، فلو قيل: كيف كفرتم ؟! فلازمه أن يكون الخطاب شاملا لمن لا يكون متلبسا بالكفر، وهذا خلاف البلاغة، ولو كان قد كفر قبل ذلك وآمن من حين الخطاب، فلا يجوز مواجهته بمثله، ففي المقام ولو كان الفعل الماضي أنسب - حسب ما تحرر - ولكن ملاحظة أسلوب التوجيه الديني يقضي بما ورد في الكتاب الإلهي.

الوجه الخامس: حول إطلاق الموت قبل الحياة ربما يناقش بأن إطلاق الأموات والميت على الأعدام وما لا وجود له ولم يكن موجودا حيا، غير جائز، فلم يكونوا أمواتا فأحياهم، بل لم يكونوا شيئا فأحياهم، أو لم يكونوا شيئا فأوجدهم تدريجا إلى أن أحياهم، ولذلك قال الله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) (1). ومن المحتمل كون الاستعمال على نعت المشاكلة، التي هي من المحسنات المعنوية، باعتبار كلمة " يميتكم "، ولكنه بعيد. ومن المحتمل أن يكون الاستعمال باعتبار علاقة الحول، لأنه يصير حيا بعد ما لم يكن فيه إلا قوة الحياة وهذا أيضا غير مناسب. ومن المحتمل أن يكون مفاد الموت والميت أعم، فيقال: الأرض الميتة التي لا حياة فيها، كما مر في تحرير معناه في بحوث اللغة، وسيمر عليك في الفنون الاخر ما يترتب عليه، ويستنبط من هذه الآية، لأجل هذه الجهة إن شاء الله تعالى، وتكون الآية كأنها ناظرة إلى أن الإنسان كان حيوانا، فمات حتى صار إنسانا... إلى آخره. ومن المحتمل أن تكون هذه الآية ناظرة إلى مفاد قوله تعالى في الآية السابقة، أي كيف تكفرون بالله الذي أخذ العهد منكم، فنقضتم عهده من بعد ميثاقه، وقطعتم ما أمر الله به أن يوصل، وهو الوصل بالله وصلة الرحم الحقيقي، وكنتم في هذه الأحوال السابقة أمواتا بحسب الحياة في هذه النشأة فأحياكم بالحياة الدنيوية، فتكون الحياة والموت نسبيين بحسب النشآت المختلفة، وثبوت الآثار وانتفائها على حسب النشآت، كما لا يخفى.

الوجه السادس: حول عدم كون الآية في موقف الامتنان ربما يخطر بالبال أن الآية الشريفة في موقف الامتنان وذكر النعم، بترغيب الناس والكفار في عبادة الله والإيمان به، فكيف ينادي: أنكم كنتم أمواتا ؟! فإنه ليس فيه الامتنان، وهكذا قوله تعالى: (يميتكم). ولو كانت الجملة الأولى فيها الامتنان، لأنهم كانوا أمواتا من قبل انتفاء اقتضاء الحياة فيهم، لا تكون الجملة الثانية فيها الامتنان بالضرورة، لأن الإماتة دليل على اقتضاء الحياة في أنفسهم ووجودهم. هذا، مع أن في قوله تعالى: (ثم إليه ترجعون) نوع تهديد وتحذير. والذي هو التحقيق: أن ما تخيله المفسرون في غير محله، بل الآية بصدد إظهار قدرته تعالى، وقد مر شطر من البحث حول أن هذه الآية وما بعدها غير مرتبطتين بالآيات السابقة، بل هما ناظرتان إلى الذين كفروا بعد ما آمنوا، أو مطلق الكفار الذين يلحدون ولا يقولون بالتوحيد بالمرة، فعليه يناسب المقام إبراز عظمته تعالى وقدرته واستيلائه، وأن جميع هذه التطورات في الخلق والحركات في العالم تحت إرادته وسلطانه وأن خلق آدم والعالم بيده تعالى.

الوجه السابع: اجتماع المحسنات الصناعية في الآية من المحرر في محله: أن جميع المحسنات اللفظية والمعنوية الصناعية - التي ذكرها أصحاب علوم القرآن والعربية - ربما تكون مستجمعة في كلام، ومع ذلك لا يستحسنه العقلاء وأهل الذوق والأدب وأرباب الشعر والفهم، وذلك لأن ما هو موافق للطبع البشري، هي الحركات المتوافقة الموزونة والسكنات المتخللة بينها على نهج خاص وميزان معين، مثلا في قوله تعالى: (كيف تكفرون...) إلى آخره ترى أن مبنى الآية على حركة الضم المتخلل فيها سائر الحركات والسكنات الغير المانعة عن اتصالات لازمة بين الحركات المضمومة، وفي قوله تعالى: (هو الذي...) إلى آخره لوحظ الوقوف على الألف الساكنة فمن كلمة " ما " و " جميعا " و " استوى " و " سماء " و " سوى " و " سماوات "، حصلت نغمة خاصة، مضافا إلى تجانس الحروف من تعاقب السينات الخمسة، ولعمري أن الإعجاز وراء هذه الدقائق الراقية، وقبول الطباع البشرية لأجل هذه الخصوصيات الملحوظة. ولعمر الحبيب إن من استماع تلك الأصوات المتألفة يحصل الابتهاج، الذي لا يتضرر بتاتا من استماع قوله تعالى: (وهو بكل شئ عليم) الذي ورد في ذيل الآية الشريفة، مع أنه بعيد غايته عن تلك الزنة والنغمة السابقة جدا، كما هو ظاهر بين.

الوجه الثامن: حول المناقضة المتوهمة في الآيات من الأمور النافية لنصاب البلاغة وبداعة الأسلوب لحن كون الآيات موهمة للمناقضة، فإنه يضر بما هو المأمول والمطلوب، مثلا: بين هذه الآية الظاهرة في تقدم خلق الأرض على السماء، وتقدم خلق ما في الأرض على السماء، وبين الآيات الواردة في سورة النازعات توهم النقاض، لما قال الله تعالى هناك: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم و لأنعامكم) (2). وأما توهم: أن البعدية في الذكر لا تنافي القبلية في الخلق، فهو - مضافا إلى أنه خلاف البلاغة - أنه صرح بأن (الأرض بعد ذلك دحاها)، والمشار إليه ظاهرا هو المرتبط بخلق السماء وخصوصياتها، أو نفس السماء، لجواز رجوع لفظة " ذلك " إليه، كما لا يخفى. وأما تخيل أن الأرض متقدمة في أصل الخلقة ومتأخرة عن السماء في الدحو والإنباط، أو متأخرة في التحرك الكروي، فكله غير جائز، فإن السابق بمقتضى هذه الآية هو ما في الأرض، وهذا هو الملازم لتقدم الأرض، والمتأخر بمقتضى تلك الآيات أيضا هو دحو الأرض المتقدم على خروج مائها ومرعاها، فيكون المرعى والسماء متأخرين، ويستلزم طبعا تأخر الدحو والأرض. والجواب عن أصل التنافي المباين للبلاغة وهو إيهام التنافي، فذلك فيما إذا كان الكلام واحدا لا متعددا بعيدا بعضه مكي وبعضه مدني. وأما الجواب عن المناقضة المتوهمة فهو أن المتقدم هو خلق القوى وقوة كل شئ ومبدأ كل ما في الأرض سابق في الخلقة، وأما المتأخر فهو تنظيم حركة الأرض طبعا، للحاجة إلى خلق السماء في النظام العالمي، وأيضا يكون المتأخر خروج الماء وخروج المرعى والشرائط اللازمة لحركة تلك القوى والنطف إلى الفعلية والشخصية الكمالية والوجود الكامل، فمسألة تعبية الأقوات في أربعة أيام مما لا يكاد يخفى، والقوى والأقوات بمبادئها متقدمة على الاستواء إلى السماء، كما هو المحكي عن معتقدات اليهود. وأما دعوى: أن الآيات المكية هي الآيات الواردة لبيان الواقعيات، والآيات المدنية لوحظت فيها جوانب سياسات الملة وترغيب اليهود بالإسلام، وأنهم يتوهمون أن القرآن يصدقهم في مقالتهم ومعتقدهم، فلا دلالة فيها على شئ خلاف ما دل عليه الآيات السابقة، فهذا في حد نفسه جائز إلا أنه بعيد في النظر عن ساحة الكتاب الإلهي. والله العالم. وأما قول القرطبي تبعا لقتادة: إن دخان السماء كان مقدما على خلق الأرض (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) (3) فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك (4)، فهو أفحش فسادا لصراحة الكتاب في أنه تعالى: (رفع سمكها فسواها) ثم قال: (والأرض بعد ذلك دحاها). وسيمر عليك - إن شاء الله - مسألة خلق السماوات والأرض في البحوث الآتية على وجه أبسط. ومن الغريب ما في تفسير بعض المعاصرين من إلغاء مفاد كلمة " قبل " و " بعد "، وكان عليه أن يلغي مفاد سائر الجمل، لأنه تعالى منزه عن الحركة والسكون وعن المادة والمدة والتصرم، كما هو منزه عن القبلية والبعدية، غافلا عن أنه تعالى يصرح - في موضع أو أكثر في قصص الأنبياء - بتقدم بعضهم على بعض في الزمان، وإن تأخر في الكلام، قال - عز من قائل -: (إلى نوح والنبيين من بعده) (5)، (إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) (6)، وقال: (وقوم نوح من قبل) (7)، والظاهر أنه لدفع توهم: أن ذكره بعد ذكر المتأخرين عنه زمانا لا يكون دليلا عليه، فعليه كيف يلغى ذلك في حقه تعالى في الاستعمالات اللغوية الكلامية، التي نزلت لهداية البشر على مقدار طاقتهم وأفهامهم ؟! فلا تغتر بما في صحف باطلة.

الوجه التاسع: الإتيان بعمومية علمه تعالى يخطر بالبال أن يسأل عن سر تعقيب الآية الشريفة بقوله تعالى: (وهو بكل شئ عليم). مع أن الأنسب: هو على كل شئ قدير، أو وهو على ما يشاء قدير، لأن الآيات مظهرات قدرته، ومبرزات سطوته، ولا نهائية اقتداره. كما أن المفسرين بحسب الطبع استنبطوا من الآية الكريمة الأولى: أنه تعالى في مقام إظهار القدرة وتوجيه العظمة، فالتعقيب بالعلم يحتاج إلى رمز، وإلا فهو على خلاف الأسلوب والبلاغة. أقول: مضافا إلى قرب العهد بأن الله على كل شئ قدير في الآيات السابقة، إن الأنسب - حسب الزعم - تعقيبه بنفوذ علمه وعموم معرفته، وذلك لما في أصل الخلقة وأصل الموت وأصل الحياة قدرة وإبانة الاقتدار، وأما كيفية إعمال القدرة بتقديم خلق الأرض وأقواتها على السماء وكيفية خلق السماء عددا، وأنه يميت ويحيي، ويحيي ويميت، وغير ذلك، فهي من توابع العلم والخبروية.

الوجه العاشر: الإتيان بضمير الجمع في " سواهن " يتوهم أن الأنسب أن يقال: استوى إلى السماء فسواها سبع سماوات، ويحتمل أن الأنسب ضمير الجمع لتطابق المبتدأ والخبر في ذلك، فبحسب المعني وإن كان الإفراد أنسب، إلا أنه بحسب اللفظ يناسب الثاني. ومن الغريب ما في الفخر: أن الإتيان بالمبهم ثم التبيين، أولى، لاشتياق النفوس بعد الابتلاء بذلك الإبهام إلى رفعه (8). ولا أدري هل تقع بين قوله تعالى: (فسواهن) وقوله تعالى: (سبع) فرصة حتى يقع فيها هذه الأمور. فالأولى أن يقال: إن في ذلك عناية بطبقات المواد المنقلبة إلى الصورة السماوية، فيكون كلمة " السماء " للكثرة المبهمة، لما قيل: هي جمع السماءة (9)، أو الجنس المنطبق عليها، أو هناك نوع استخدام، كما لا يخفى.


1- الإنسان (76): 1.

2- النازعات (79): 27 - 33.

3- فصلت (41): 11.

4- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 256.

5- النساء (4): 163.

6- الأعراف (7): 69.

7- الذاريات (51): 46، النجم (53): 51.

8- راجع التفسير الكبير 2: 156، والكشاف 1: 123.

9- الجامع لأحكام القرآن 1: 260.