التفسير والتأويل على مسالك مختلفة ومشارب شتى

فعلى مسلك الأخباريين: (وبشر الذين آمنوا) بالله وصدقوك في نبوتك، فاتخذوك نبيا، وصدقوك في أقوالك وصدقوك في أفعالك، واتخذوا أخاك عليا بعدك إماما ولك وصيا مرضيا، (وعملوا الصالحات) من أداء الفرائض واجتناب المحارم، ولم يكونوا كهؤلاء الكافرين، بشرهم (أن لهم جنات) بساتين (تجري من تحتها الأنهار) من تحت أشجارها ومساكنها (كلما رزقوا منها) من تلك الجنان (من ثمرة) من ثمارها (رزقا) وطعاما يؤتون به (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) في الدنيا فالأسماء كأسماء ما في الدنيا من تفاح وسفرجل، وإن كان ما هناك مخالفا لما في الدنيا، فإنه في غاية الطيب، وأنه ما في الجنة لا يستحيل إلى ما تستحيل إليه ثمار الدنيا من المكروهات والأقذار أجسامهم، بل لا يتولد من مأكولهم إلا العرق الذي يجري من أعراضهم أطيب رائحة من رائحة المسك (وأتوا به) بذلك الرزق من الثمار من تلك البساتين (متشابها) يشبه بعضه بعضا، بأنها كلها خيار لا رذل فيها، وبأن كل صنف منها في غاية الطيب واللذة، ليس كثمار الدنيا بعضها ني، وبعضها متجاوز لحد النضح والإدراك إلى حد الفساد من حموضة ومرارة، ومتشابها أيضا: متفقات الألوان مختلفات الطعوم. (ولهم فيها) في تلك الجنان (أزواج مطهرة) من أنواع الأقذار والمكاره مطهرات من الحيض والنفاس، لا ولاجات ولا خراجات، ولا دخالات ولا ختالات ولا متغايرات، ومن كل العيوب بريات (1). وعن كتاب الفقيه عن الصادق (عليه السلام): " لا يحضن ولا يحدثن " (2). (وهم فيها خالدون) يقيمون في تلك البساتين والجنان (3). (إن الله لا يستحيي) لا يترك حياء (أن يضرب مثلا) للحق ويوضحه به عند عباده المؤمنين (ما بعوضة)، أي ما هو بعوضة المثل (فما فوقها) فوق البعوضة، وهو الذباب يضرب به المثل إذا علم أن فيه صلاح عباده ونفعهم (4). (فأما الذين آمنوا) بالله وبولاية محمد وعلي وآلهما الطيبين (فيعلمون أنه الحق من ربهم) أراد به الحق وإبانته والكشف عنه وإيضاحه، (وأما الذين كفروا) بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعارضته في علي (عليه السلام) بكم وكيف (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا)، فيقولون: إن الله يضل بهذا المثل كثيرا، فلا معنى للمثل، فرد الله تعالى عليهم، فقال: (وما يضل به إلا الفاسقين) الجانين على أنفسهم بترك تأمله وبوضعه على خلاف ما أمر الله بوضعه عليه، ثم يصف هؤلاء الفاسقين الخارجين عن دين الله وطاعته منهم، فقال عز وجل: (الذين ينقضون عهد الله) المأخوذ عليهم لله تعالى بالربوبية، ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة ولعلي (عليه السلام) بالإمامة، ولشيعتهما بالجنة والكرامة، (من بعد ميثاقه) وإحكامه وتغليظه، (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) من الأرحام والقرابات أن يتعاهدوهم ويقضوا حقوقهم وأفضل رحم وأوجبه رحم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن حقهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك رحمه أعظم وقطيعته أقطع وأفضع وأفضح (ويفسدون في الأرض) بالبراءة ممن فرض الله إمامته واعتقاد إمامة من قد فرض الله مخالفته. (أولئك) أهل هذه الصفة (هم الخاسرون) خسروا أنفسهم لما صاروا إلى النيران وحرموا الجنان، فيالها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد وحرمتهم نعيم الأبد (5). وفي " الكافي " عن السجاد (عليه السلام): " يا بني إياك ومصاحبة القاطع لرحمه، فإني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع في البقرة: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)... ".

وأما على مسلك أصحاب الحديث: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)، فعن مسروق، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وماؤها يجري في غير أخدود (6). وهذا هو المحكي عن أبي عبيدة (7)، وعن أبي هريرة: أنهار الجنة تفجر من تحت تلال، أو من تحت جبال المسك (8)، وعن مسروق قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل المسك (9). (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها)، فعن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنهم اتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها، (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) في الدنيا (10)، وعن قتادة مثله، وعن مجاهد: يقولون: ما أشبهه به، وعن ابن زيد مثله، (وأتوا به متشابها) يعرفونه، وعن أبي عبيدة: لاشتباه جميعه في كل معانيه. وقريب منه: (هذا الذي رزقنا من قبل)، فعن يحيى بن أبي كثير، قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى، فيقول: هذا الذي اتينا به من قبل، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف. (ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون)، فعن ابن عباس: مطهرة من القذر والأذى، وعن مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد، وعن قتادة: مطهرة من الأذى والمآثم. (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)، فعن ابن عباس وابن مسعود وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين فأنزل الله هذه الآية، وعن قتادة: (إن الله لا يستحيي) من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر، وعن الربيع بن أنس، قال: هذا مثل ضرب الله للدنيا: إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا شبعت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلؤوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ) وعن قتادة (فما فوقها) لما هو أكبر منها، لأنه ليس شئ أحقر ولا أصغر من البعوضة (11). (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) فعن مجاهد: الأمثال صغيرها وكبيرها يؤتى بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها (12)، وعن قتادة: أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله (13)، وهو المروي عن مجاهد والحسن والربيع (14)، وعن أبي العالية: يعني هذا المثل، وفي سورة المدثر: (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو) وقال هاهنا: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) (15)، فعن ابن عباس وابن مسعود: يعني به المنافقين، ويعني به المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم (16)، وعن أبي العالية وابن أنس، قال: هم أهل النفاق، (وما يضل به إلا الفاسقين)، فعن ابن عباس: يعرفه الكافرون فيكفرون به، وعن قتادة: فسقوا فأضلهم الله على فسقهم، وعن سعد: (يضل به كثيرا) يعني الخوارج الذين خرجوا على علي (عليه السلام) بالنهروان (17). (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)، وفي سورة الرعد: (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب...) (18) إلى أن قال: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) (19)، فعن أبي العالية، قال: هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا (20). وهكذا روي عن ابن أنس (21)، وعن السدي: (الذين ينقضون) قال: هو ما عهد إليهم القرآن فأقروا به (22)، وعن قتادة وأبي العالية: (أن يوصل)، أي صلة الأرحام والقرابات (23)، وفي كلامه تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) (24)، وعن مقاتل: (أولئك هم الخاسرون)، أي في الآخرة، وهذا كما قال: (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) (25) وعن ابن عباس: كل شئ نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم، مثل خاسر، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب (26).

وعلى مسلك أصحاب التفسير وأرباب النظر: (وبشر الذين آمنوا) بالله وبرسله وكتبه وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من صفات المبدأ وأحكام الميعاد، (وعملوا الصالحات) الشرعية والعرفية والعقلية فيما يبتلون به منها، ويتمكنون من الإتيان بها (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) ويتجول فيها المياه، وتكون بين الجنة والبساتين ودون المساكن والقصور، كما هو المتعارف في هذه العصور وهذا هو المقصود والمأمول لدلالة الاقتضاء (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) وهو الذي واعدنا ربنا في الدنيا وهيأ لنا من قبل أن ندخل الجنة جزاء بما كانوا يعملون (وأتوا به متشابها) بما كانوا يتمتعون به في الدنيا، لأن ذلك ألذ وأحسن، لما فيه من تذكر الأيام السالفة، ولما فيه الانس بما كان عندهم في الأعصار الماضية، وكان التشابه من جميع الجهات، لأن فيه الالتذاذ الأكثر، والجنة دار اللذة (ولهم فيها أزواج مطهرة) عن كل ريب ودنس، وعن كل عيب وخبث، خلافا لما في الدنيا، فإنها مقرونة بالآلام والأسقام (وهم فيها خالدون)، وباقون ما بقي الدهر وما دام يشاء لهم الله تعالى بقاءهم فيها. وقريب منه: (وبشر الذين آمنوا) بالله وبالرسول والكتاب، وأنه الذي جاء من عند الله، (وعملوا الصالحات) أي الأعمال الصالحة الشرعية الفرضية، لا مطلق الأعمال ولو كانت صالحة، ومن العمل الصالح ترك المحرمات والموبقات، فإن من يرتكبها فلا يعمل صالحا، وهو خلاف قوله: وعملوا الصالحات الشرعية. (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) إلا أن ذلك لا يصل إليهم، ولا يتمتعون منها إذا كانوا يؤمنون بالله ويعملون الصالحات ولا يكفرون بعد ذلك، فمن عمل من الصالحات وآمن بالله فهو له الجنة الكذائية بالاستحقاق، ولكنه أعم من وصول ما يستحقه إليه وعدمه، فإذا مات على الإيمان وتلك الأعمال الصالحة، فيصل إليه ما يستحقه. (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)، أي هم في هذا الشأن من القول وإن لم يتفوهوا به، فإن ثمار الجنة وفواكه تلك البساتين لا تنقص بالتناول، فيكون مكان ما يأكلونه ثمار اخر مثلها، فيقولون: (هذا الذي رزقنا من قبل) في الجنة، أي في الآنية السابقة والساعة السابقة (وأتوا به متشابها)، فيكون العائد مثل الزائل، حذرا عن وقوع ألم الفوت وخوف النقص والزوال في قلوبهم وصدورهم. (ولهم فيها أزواج مطهرة) نقية الثياب ونظيفة الأبدان وطاهرة البواطن (وهم فيها خالدون) مقرونين بتلك الثمار ومشفوعين بهؤلاء المطهرات من الأزواج، فجميع ما في الجنة خالد وهم مثل ذلك في الخلود. وقريب منه: (وبشر) يا أيها الرسول، أو يا أيها الأمين على الوحي، أو لا مخاطب هنا لأن النظر إلى اطلاع المؤمنين على ما أعد لهم في قبال ما أعد للكافرين (الذين آمنوا) بالله وباليوم الآخر، وإن لم يؤمنوا بأن هذا الكتاب من قبل الله تعالى إلا كسائر الأشياء التي تستند إليه تعالى: (و عملوا الصالحات) في الجملة ولو كانوا يتركون طائفة من الأعمال الصالحة، أو يرتكبون جملة من غير الصالحات العرفية، لا الشرعية (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)، فتكون الجنات على مرتفعات تستولي على الأنهار، وهي الربوات، فالأنهار خارجة عن الجنات وجارية من تحتها، ولا ينافيه وجود الجداول في خلال البساتين. (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) والقضية الشرطية لا تدل على الوقوع، أي كلما كان كذا يقولون: كذا، وأما أنهم يرزقون فيها شيئا ورزقا أم لا، فالآية ساكتة عنها. (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)، ولسنا نعرف ذلك، فكأن ما في الجنة رزقهم وهم في الدنيا ولا يعملون ذلك، فإذا دخلوا الجنة فهم قد عرفوا بها وكانوا يستنكرون (وأتوا به متشابها) لما عندهم في بساتين الدنيا وجناتهم، ولما عندهم في الربوات في جميع الجهات في الاسم والمسمى والخصوصيات (ولهم فيها أزواج مطهرة) من المنفرات للطبع حسب اختلاف طباعهم، ولا يزداد عليه، وهن أيضا متشابهات لما لهم في الدنيا، لأن فيه اللذة الأكثر والأوفر وهذا يستفاد من قوله تعالى: (وأتوا به متشابها) لأنه معلل حسب الظاهر بأن التشابه لأجل الأقربية إلى الالتذاذ الأكثر والأملح، ومقتضى هذا التعلل تشابههن مع نسائهم فيما يوجب الالتذاذ، مطهرات عما يستقذر منه الطبع (وهم فيها خالدون) إن شاء الله تعالى.

وعلى مسلك أصحاب الحكمة وأرباب الدقة: (بشر الذين) والامتثال في نفس حكاية هذه الآية وقراءتها على الأمر (آمنوا) وبلغوا إلى مرتبة الحكمة العقلية والفلسفة النظرية وأذعنوا بالبراهين اللمية والإنية بما هو المطلوب للشريعة المقدسة الإلهية، فإن الإيمان في مصطلح الكتاب والسنة ليس مجرد لقلقة اللسان والإقرار في قوالب الألفاظ، ف? (بشر الذين آمنوا) ورسخت في قلوبهم الأحكام العقلية، المؤيدة بالشرائع الإلهية والإسلامية (وعملوا الصالحات) فعقبوا تلك الأعمال القلبية والعقائد - الحاصلة من الحكمة النظرية - بالحكمة العملية، فعينوا بعين الشريعة والفطرة في الإتيان بالأعمال الصالحة عند العقل السليم والفطرة المستقيمة المخمورة، لا العقول المنحرفة والفطرة المحجوبة بقشور الظلمات الاعتقادية والعملية، وبالأعمال الصحيحة السليمة عند الشرع الأنور الإسلامي، الموافق للطبع الأولي الإنساني. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا بالحكمة العملية (أن لهم جنات)، فإنهم يملكون الجنات في الدنيا، وهم مالكوها ولم يموتوا (تجري من تحتها الأنهار) جريا، لا كجريان مياه الدنيا وحركاتها، التي هي الخروج من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال، فإن الآخرة كلها الكمال بالفعل، ولا حالة انتظارية لموجوداتها، وفي تلك الدار تجري الأنهار بذاتها، فإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (27)، فلا مجاز ولا استعارة. (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) فإن الجنة كانت حاصلة لديهم في الدنيا، ولكنهم غير عارفين بها وبأحكامها، وغير عالمين بثمارها وخصوصياتها، فإذا ارتفع حجاب المادة والمدة، (قالوا: هذا الذي رزقنا) بعينه في الدنيا، وكان جزاء عملهم عندهم موجودا، وفي نفوسهم الطيبة حاصل ولكنهم جاهلون بعلومهم وغافلون عما عندهم، فما في المقام كله خارج عن التمام (وأتوا به متشابها) بالمعقول، فيكون المحسوس شبيها بالمعقول وبالعكس، فما كان عندهم في الدنيا من المحسوسات، يشبها ما في الآخرة من جميع الجهات، إلا أنه مجرد التشابه المعروف بين المعقول والمحسوس، من غير كونها منها بحسب كيفية الوجود وخصوصيات الموجود، وإلى ذلك يرجع ما في رواية ابن عباس: ليس في الآخرة شئ من الدنيا إلا الأسامي دون الذوات (28)، فاغتنم. (ولهم فيها أزواج مطهرة) كما لهم الجنات، فالكل حاصل لهم وهم بعد في الدنيا، وهن مطهرات نقيات ثيابهن عن جميع الأقذار القلبية والقالبية، وفيها من الملكات الإنسانية والملكية ما لاعين رأت، ولا اذن سمعت، ولاخطر ببال أحد، كما في بعض الأحاديث. (وهم فيها خالدون) ماكثون ما داموا موجودين وباقين، فإن الآخرة والأشياء الأخروية كالدنيا والأعيان الدنيوية، فإنها مراتب الآخرة والدنيا، وليس الظرف والمظروف مختلفين إلا بالاعتبار، فإذا كان المحو يمتنع عليهم، فالخلود يجب عليهم. هذا في الجنة، وأما في الجحيم فتفصيله في محله إن شاء الله تعالى. وقريب منه: (وبشر الذين آمنوا) بالإيمان الظاهري والإسلام الذي في صدورهم، لا بالإيمان الذي في قلوب المؤمنين بمثابة قوله تعالى: (قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، وذلك لقوله تعالى: (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)، فإن السنخية تقتضي كون هذه الجنة، وتلك اللذات الحيوانية لزمرة خاصة من المسلمين والمؤمنين، دون الذين يحشرون إلى الرحمن وفدا، ولا ينظرون إلى الجنة أبدا، ولا يخطرون ببالهم إلا المعشوق الحقيقي. (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)، لأن الحشر والمعاد يثبت لجميع الأشياء (ألا إلى الله ترجع الأمور) (29) فما يظنون أنه يفنى ولا يرجع من الفواكه والثمار فهو من الظن الباطل، ففواكه الدنيا راجعة إلى الآخرة كسائر الأشياء، إلا أن أهل الجنة جرد مرد (30)، وفواكه الآخرة أيضا، وإن كانت عين ما في الدنيا بحسب الجوهرة إلا أنها تخالفها بحسب الكيفيات والكميات والحالات والألوان والطعوم، فإن الذوات لا تختص هناك بتلك الأعراض، بل هي تكون منكشفة، ولو كانت بحسب الصورة مختلفة، فمن يحشر يوم القيامة على صور الوحوش والقردة والخنازير يعرفون أنهم فلان وفلان، وتلك الفواكه والثمار بهذه المثابة. (وأتوا به متشابها) كمتشابهات القرآن، فإنها ذات سر وسر السر، وذات باطن وباطن البواطن، وذات ظاهر وأظهر، فهي أيضا ذات باطن غير ما بظاهرها، فإن في ظواهرها ما يشبه الدنيا، ولكن بعد نيلها والتوجه التفصيلي إليها يدرك أنها غير هذا الظاهر. (ولهم أزواج مطهرة) منزهة، وربما هي الأزواج الدنيوية، فإنها تحتاج إلى التطهير دون الأزواج الأخروية فإنها زكية وطاهرة، وفي الحديث أن لكل مؤمن فيها زوجة في الدنيا وزوجة في الآخرة. (وهم فيها خالدون) وما هم بخارجين منها بالضرورة، لأن الخروج يحتاج إلى المرجح والمبرر، ودار الجنة دار الراحة والبقاء، فلا يعيب فيه الإنسان حتى يخرج منها، ولا كلفة ولا تكليف في هذه الجنة، بخلاف الجنة التي كان أبونا آدم فيها. نعم كل شئ بإذن الله وإرادته.

وعلى مسلك أرباب العرفان وأصحاب الإيقان: (وبشر) أيها العقل الكلي وجبريل الحقيقي (الذين آمنوا) من القوى الكلية والجزئية، ومن النفوس العالية والدانية، إيمانا يحتويه القلب ويترسخ فيه، فتكون القوى مؤمنة بإيمانه ومطمئنة باطمئنانه، ف? (بشر) القوى الشهوية والغضبية، التابعة للعقل والمؤمنة به وبمقتضياته الفطرية (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) فتكون تلك الجنات حاصلة عندهم ومملوكة لهم حسب طباعهم، وتلك اللذات العقلية والالتذاذات المعنوية - البعيدة عن مدارك الحيوانات والقوى الشيطانية - موجودة بوجود إيمانهم القلبي والروحي، وعند فنائهم الذاتي والصفاتي والأفعالي حيث كانوا (وعملوا الصالحات) حسب أوعية الأعمال والأفعال، فيعملون بالتوحيد الذاتي بترسيخ الوحدة في ذاتهم حتى تفنى، ويعملون بالتوحيد الصفاتي، ويؤمنون بتلك الوحدة حتى تتمركز في نفوسهم، فتفنى في صفاتهم، ثم يعملون بالتوحيد الأفعالي والآثاري والعبادي حتى يتمركز ويتعين في وجودهم تلك الوحدة، فتفنى في أفعالهم، ويعملون بحسب الجوارح بعد ما فرغوا عن الأعمال الجانحية السابقة، فيعملون الصالحات حسب كل عضو ولا يترك صالح عمل عضو إلى العضو الآخر، فإن عمل كل شئ بحسبه. (كلما رزقوا) وتقووا (منها) ومن تلك الثمار المسانخة مع حالاتهم وتجلياتهم (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) وقد استقوينا به قبل ذلك، واستكملنا به في النشأة الأولى، فلولا تذكرون ولا تدرون أن كلا يعمل على شاكلته. (وأتوا به متشابها) قضاء لحق السنخية، ليعلموا أن ما عندهم من اللذات الدنيوية الرذلة بالنسبة إلى اللذائذ الأخروية الطيبة، من تشبيه المعقول بالمحسوس، ومن ينتظر تلك الماديات فهي حاصلة لدنو رتبته وسوء سريرته، (ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) (31) فلا ينظرون إلى تلك الجنات، كما في بعض أحاديثنا (ولهم أزواج مطهرة) على شكل الثمرات، وتتبع طهارتهن طهارة نفوسهم في المرتبة، ولذلك تكون مطهرة، لا طاهرة. (وهم فيها خالدون) لاعتقادهم الخلود والبقاء ولحبهم له وجبلتهم عليه، وما هم بخارجين عنها إلا ما شاء الله تبارك وتعالى. قد مر مسلك الأخباريين وأرباب الحديث القدماء حول الآيتين الآتيتين، وبقى المسالك الاخر.

فعلى مسلك أصحاب التفسير: (إن الله لا يستحيي) ولا يأخذه الخجل والارتباك في إظهار الحق وهداية البشر (أن يضرب) المثل، كما يضربون في توضيح الحقائق وتشريح الدقائق ويمثلون بالأمثال المختلفة لتقريب المقصود وتبيين المأمول، فلا حياء في أن يضرب (مثلا ما بعوضة فما فوقها) ولا خصوصية لها في ناحية الأمثال، فإن المثل مقرب من جهة ومبعد من جهات، فلا منع في أن يتمسك بما هو دون البعوضة وما هو فوقها بما لا يتناهى. (فأما الذين آمنوا) بالله وبكتبه، وأذعنوا لهما وكان الإيمان داخلا في قلوبهم وراسخا في حقائقهم ورقائقهم (فيعلمون أنه الحق من ربهم)، ولا يرتابون فيه، ويحصل له منه الازدياد في إيمانهم ويشتد علمهم بالكتاب وبالنبوة والإسلام. (وأما الذين كفروا) في الواقع والظاهر، أو كان إيمانهم مستودعا غير راسخ في قلوبهم (فيقولون) ويبرزون ما في خبايا ذواتهم وزوايا أرواحهم (ماذا أراد الله بهذا مثلا)، وأي شئ مراده تعالى من هذه الأمثال وضرب المثل؟فكيف يكون ذلك من قبل الله تعالى مع أنه (يضل به كثيرا) ويرشدهم إلى الباطل ويوقعهم في الفساد والضلالة، وإن كان (يهدي به كثيرا) أيضا، إلا أنه لا يصح من الملتفت المتوجه إلى جوانب الكلام والأمثال، غافلين - هؤلاء الحمقى - وذاهلين عن المصالح العالية وعن أن القرآن وأمثاله (وما يضل به) وبالمثل (إلا الفاسقين) الذين هم فسقوا عن أمر ربهم وتجاوزوا عن حدود عقولهم وتعدوا فطرتهم. و (الذين ينقضون عهد الله) ولا يوفون بوصية الله والوظائف المقررة لهم، ويكون هذا النقض وترك الوفاء (من بعد ميثاقه) وعقيب تأكيده وتثبيته، والذين (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل)، ولا يمتثلون أمره تعالى بالصلة بين الله وبين عباده بإتيان وظائفه الفردية والاجتماعية بين الناس بعضهم مع بعض بإتيان الوظائف الاجتماعية (ويفسدون) أيضا هؤلاء الجماعة غير المؤمنين والكفار (في الأرض) وفي قطرهم أو قطر منزلهم وبلدهم، أو قطر مدينتهم وعاصمتهم ومملكتهم، ويفسدون أنحاء الفساد أو بعضا منها، من الفسادات الشرعية والعقلية والعقلائية العرفية، وحيث إنهم كان أمرهم من الأول إلى الأخير على خلاف الموازين والقسطاس، ف? (أولئك هم الخاسرون) غير الرابحين، لأن أمورهم كانت على تلك الموازين المحررة في الشرائع السماوية وفي شريعة العقل. وقريب منه: (إن الله لا يستحيي) ولا يترك ولا يمتنع ولا يخشى، بل لا يبقى في طي طريق الهداية (أن يضرب مثلا ما) ويتصدى بنفسه لضرب المثل، فلا تلومن رسوله بأمثال هذه الأمور، ولا ترتابوا في الكتاب لأجل اشتماله على هذه الضروب والأمثال (بعوضة) كانت (فما فوقها) أو شئ آخر خارج عن هذه السلسلة. (فأما الذين آمنوا) وأظهروا الإيمان، والتحقوا بصفوف المسلمين (فيعلمون أنه الحق من ربهم) ولا يشكون ولا يرجعون. وهذا إغراء وترغيب في تحكيم المبادئ في أنفسهم، بعد ما كانوا مقرين بالإسلام ومحقونة دماؤهم، فالذين اعترفوا لا يناسب أن يرجعوا إلى الباطل بتشكيك الشاكين، فإن ضرب المثل ليس بشئ مهم في جانب المسائل الواقعية، ضرورة أنه كان متعارفا بين الأعراب من الابتداء (وأما الذين كفروا) ولم يؤمنوا، أو آمنوا ورجعوا إلى كفرهم بمجرد قوله: (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) وذلك لأنهم كانوا مؤمنين، فنسبوا المثل إليه تعالى، وخرجوا عن الإيمان لاعتراضهم على الكتاب، الكاشف عن عدم إيمانهم بعد واقعا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبما جاء به، وإذا كانوا غير مؤمنين بالله وبرسوله، فنسبوه إليه تعالى تواطؤا ومشاكلة، أو استهزاء وسخرية، ولا تخص الآية الكريمة بفرقة خاصة، وبالجملة: غافلين عن أنه (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) (يضل به) الذين آمنوا إيمانا مستودعا، وكان إيمانهم مجرد تفوه وتلفظ، (ويهدي به كثيرا)، ويتقوى به الآخرون، وكان الذين يضلون به يقعون في الضلالة من ناحية أخرى، لأن حبلهم وسبب وصلهم إلى الله كان ضعيفا رقيقا يتفشل بمجرد أن تفوح الرياح الباطلة والأصوات الشيطانية. ومع ذلك لا يذهب ذهنكم ولا ذهن أحد من الذاهبين إلى أنه يضل به كثير، فإنه (ما يضل به إلا الفاسقين) الذين هم بقلوبهم قاطنون في الفسق والكفر والتجاوز، وبأرواحهم ساكنون دار الضلالة والشقاوة. وقريب منه: (يضل به كثيرا) لعدم هدايتهم إلى الحق جزاء بما كانوا يعملون، فلا يهديهم إلى سبيل الرشاد عقابا ونكالا، (ويهدي به كثيرا) بإرشادهم وتوجيههم إلى الحق (وما يضل به إلا الفاسقين) الذين هم ضلوا بسوء اختيارهم، ولم يهتدوا بنور الكتاب والنبوة. (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) ويدخلون في دار الإسلام بإظهاره وبالالتحقاق بهم في الأحكام من بعد تلك الحجج الماضية الناهضة على توحيد الرب في مقام العبادة، وعلى صدق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحة الكتاب، وعلى كل تقدير لا تخص الآية بخصوصية من ناحية الفاعل والمتعلق، ف? (الذين ينقضون) هم الطوائف المتخلفة مقابل الطائفة الواحدة، وعهد الله أعم حسب ما مر، كما أن المراد من قوله تعالى: (من بعد ميثاقه) أيضا أعم حسب الظاهر، فلا يخص بالتحكيم والتوثيق العقلاني بالأدلة العقلية أو الشرعية أو العرفية، فإن الكل في مقابل الفطرة السليمة والطبيعة المستقيمة. وعلى هذا يحمل الآية: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) مع أنه مجمل ومبهم إلا أنه مبين عند مراجعة الفطرة المخمورة الآمرة بإيصال النفس إلى منزل الوحي، والآمرة بوصل الناس للناس والآمرة بتربية القوى الداخلية بالعمل بعهد الله... وهكذا. (ويفسدون في الأرض) ولا يصلحون فيها، ويفسدون فيها، ولا يمنعون عن الفساد المتوجه إليها، ولا يسدون طريقه، فإن ترك العمل بعهد الله وترك ما أمر به أن يوصل، عين الفساد والإفساد في الأرض، لأن تلك الأوامر تتضمن المصالح الشخصية الفردية والنوعية الجمعية، وعند ذلك (أولئك) فقط (هم الخاسرون) دون غيرهم، فإن الخسران بحسب المعيشة الحيوانية ليس من الخسران في القرآن واقعا بل ولا عند شريعة العقد.

وأما على مسلك الحكيم: (إن الله لا يستحيي) لانتفاء مبادئ الاستحياء في جنابه تعالى، وانعدام أحكام المادة الانفعالية في حضرته القدسية (أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)، لاستواء الأشياء بالنسبة إليه تعالى وتقدس، فإن الإنسان الكبير والصغير والجسم الكلي والجزئي إضافات بالقياس إلينا، والأشياء في حضرته الإلهية على حد واحد، وعليه يحمل الإحلاف القرآنية في السور الصغار. (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق) بالعلوم النظرية على مراتبها الثلاثة، (فأما الذين آمنوا) في كل فترة من الفترات، فإن أهل الكتاب يعلمون أن الله يضرب الأمثال في التوراة والإنجيل وغيرهما (فيعلمون أنه الحق من ربهم) ومن الخالق المربي المخرج إياهم من الضلالة بتلك الأمثال إلى الهداية. (وأما الذين كفروا) من الملاحدة أو غير المسلمين (فيقولون) بالأفواه أو بالقلوب والأفكار، فيخطر ببالهم ذلك وإن لم يظهروه: (ماذا أراد الله بهذا مثلا) لو كان هذا الكتاب من عند الله، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله إليكم وإلينا، فماذا أراد الله بهذه الأمثال، وما المقصود من إنزال هذه من النشأة العلمية الذاتية إلى النشأة الفعلية الصوتية، مع أنه (يضل به كثيرا)، ويخرج به جماعة كثيرين من الهداية إلى الضلالة، أو يبقيهم في ضلالتهم (ويهدي به كثيرا) حسب تخيلاتهم وتوهماتهم، مع أنه ليس هداية في الحقيقة عند الكافرين، الناظرين إليه نظر البغضاء والعداوة (وما يضل به إلا الفاسقين)، لأن صورة الضلالة تابعة لمادة الاستعداد والقابلية حسب قانون العلية والمعلولية. وقريب منه: (وأما الذين كفروا) ولم يؤمنوا إيمانا داخلا في القلب راسخا في رقائقهم (فيقولون) ويخطر ببالهم ويتمثل في أذهانهم، أو ربما يسألون إخوانهم بصورة السؤال من غير أن يعربوا عن حقيقة الحال، فإن للمؤمن بالكتاب وبالرسالة السؤال عما ورد في الكتاب أحيانا، فهو الكافر غير الاصطلاحي: (ماذا أراد الله بهذا مثلا). فأجيبوا: (يضل به كثيرا) ويتنزل عليهم من العالم العلوي ما يناسب إمكاناتهم الاستعدادية، التي حصلت لهم بسوء اختيارهم، وتصير النتيجة خروجهم من الهداية إلى الضلالة أو تشتد ضلالتهم (ويهدي به كثيرا) وإذا كان هذا صريح القرآن العظيم العزيز، الموافق لأعلى مراتب العلم والتوحيد، فيخطر ببال القاصرين الواقفين في الجهالات الكلامية، ويمر على خيال الجاهلين المتمردين عن الحق المبين، مناقضة العقل والشرع ومضادة العلم والدين، فأجيبوا ثانيا: (وما يضل به إلا الفاسقين) وما يتنزل الصور إلا حسب الحدود والمقتضيات، فالفيض نازل على أنه الفيض، ولكنه بالنسبة إلى المحال والمواد تختلف أحكامه وآثاره، فما يضل به إلا من هو صال الجحيم، ولا يضل به إلا كل كفار أثيم، وما يضل به إلا المنحرف عن الجادة المستقيمة وعن الطريق القويم، فالضلالة من ناحية القوس النزولي، والفاسق خارج بفعله من الطينة والطبيعة الأولية، فإذا قرع سمعه القرآن الكريم، فيتمثل ما يسانخه ويؤيد فسقه وبطلانه (الذين ينقضون عهد الله) وصبغة الله المكنونة في أسرارهم وموادهم السابقة (من بعد ميثاقه) واستحكامه بالفطرة الإلهية، فكانت العهود الإلهية داخلة في مبادئ حركاتهم الغريزية والجوهرية (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) فينحرفون عن تلك الطريقة المتهيئة لهم، فإن الله قد أمر - وهو أمره التكويني النوري الوجودي - بأن يخرجوا من النقص إلى الكمال باتباع الشرائع والمحكمات من الآيات، وهم عكسوا الأمر عليهم، فوقعوا في حاشية الطريق وفي هامش الصراط المستقيم، فوقعوا في الجحيم وفي الدنيا وأحكامها، فشاقوا الأنبياء وجاهدوا الأولياء وقاسوا العرفاء والحكماء والفقهاء. (ويفسدون في الأرض) بالمفساد الروحية والأخلاقية، ويفسدون في أرض البدن وعلى حركتهم الذاتية الإلهية، فيسدون على الطبيعة السائرة إلى الساحة المقدسة طريقها ومنهجها وممرها المعين لها تكوينا، ف? (أولئك هم الخاسرون) فلا يربحون في هذه التجارة، وقد سلكوا سبيل التاجر السفيه والكاسب المجنون الأبله في اتخاذهم المناهج الباطلة، الموجبة لبطلان رؤوس أموالهم ولفسادها عليهم، مع أنه كان لهم من رؤوس الأموال ما لا يعد ولا يحصى، فإنهم بها كانوا ينالون الخير الأبدي والسعادة المطلقة الكلية الدائمية، فخربوا بيوتهم بأيديهم فكان العذاب بهم جديرا.

وعلى مسلك العارف الرباني والسالك الصمداني: (إن الله) بالاسم الجامع الكلي (لا يستحيي) بلا استحياء من عبده الفاني فيه، ولذلك (لا يستحيي) الرسول في أداء الأمانة وقراءة الآية، فإن عليا خشن في ذات الله. وبالجملة: هو (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب المنكرين ويقرأ قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي) مع أنه لم يثبت للكفار أن القرآن من ناحية الله تعالى، ويكون هو (صلى الله عليه وآله وسلم) مظهر الاسم الجامع فلا يستحيي لأنه تعالى (لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) فإن المستحيي يجهل التراكيب الواقعة في الأسماء والصفات ومناكحات الشؤون والأسماء، وهو تعالى يعلم مبادئ هذه الأعيان الثابتة، ويعرف من عرفان ذاته تبعيات صفاته وأسمائه، فلا يكون شئ خارجا عن سلطنته وسلطانه، فلا صغر لشئ بالقياس إليه ولا كبر، لرجوع الكل إلى كبريائه وعظم حقيقته (فأما الذين آمنوا) بالألسنة الخمسة، واعترفوا بالحضرات الخمسة الإلهية، وتعينوا بعين الوحدة الحقة الحقيقية (فيعلمون أنه الحق من ربهم) ويشاهدون حقيقة الأمثلة، وأنه المثال لما في العالم الأعلى. وقريب منه: (أنه الحق) المتحقق به الثابت الدائم من ربهم المقيد ومن الولاية المطلقة المتصدية بالمباشر لتربية الأعيان في النشأة الأخيرة (وأما الذين كفروا) ولم يقروا ولو بأحد الألسنة الخمسة (فيقولون) قولا ذاتيا أو عقلانيا أو وهميا أو خياليا أو حسيا: (ماذا أراد الله بهذا مثلا) بتلك الإرادة الذاتية الأزلية - الغير المتخلفة في جميع نشأت الوجود عن جميع متعلقات الغيب والشهود، وما هو المرام والمأمول - نزلت (يضل به كثيرا) بالعرض والمجاز، فإن المباشر أحق بالإضلال من السبب. وقريب منه: بالحقيقة والواقع استجابة لدعاء الضال والمضل، والكريم يستحيي التأخير والمنع (ويهدي به كثيرا)، قضاء الحق الربوبية، وجوابا لدعوة الداعين وسؤال المحتاجين، الغير المنحرفين باختيارهم عن جادة الاعتدال وطريق الاستقامة. وقريب منه: (يضل به كثيرا) تبعا للفيض الأقدس بفيضه المقدس، فيكون الضال والمضل واحدا في النشأة الملكية، ومتعددا بالاعتبار بلحاظ النشآت الاخر (ويهدي به كثيرا) أيضا مثله بإمداد من الله وإعانة من الرب الودود (و) على كل التقادير (ما يضل به إلا الفاسقين) الخارجين - بسوء الاختيار - عن أحكام الطينة والفطرة ف? (ما يضل به إلا) الضالين، ولا يكون المضل إلا أنفسهم فهم لا يشعرون، فلا يضل به الهادين ولا الذين فيهم استعداد الهداية وقوة الوصول إلى نهاية المأمول. (الذين ينقضون) ولو بأن لا يوفوا، فضلا عما كانوا خارجين عن مقتضيات الأسماء الخاصة بهم، بل عدم الوفاء لا يتصور إلا بالخروج عن الحركة التي تقتضيها العين الثابتة، حسب الانجذاب للاسم الخاص الإلهي (عهد الله) في النشأة الأحدية الذاتية أو في الواحدية الجمعية، فإن في هذه الرتبة يعتبر الكثرات الأسمائية الملازمة للأعيان الثابتة، وفيها يحصل العهد الإلهي والنمط المخصوص الرباني (من بعد ميثاقه) بالاستدعاءات الذاتية التي كانت مترنمة بها ألسنتهم الذاتية واقتضاءاتهم الاسمية، فالله تعالى وفى بعهده بعد تلك الترنمات الخفية، وهن قد نقضن عهد الله (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) ويتخلفون في النشأة الظاهرة عما قبلوه في النشآت السابقة، وقالوا: بلى بالقول القلبي فقطعوا هنا ما أمر الله بالأمر النوري الوحداني هناك، فما هنا هو القطع بالمناسبة وما هناك هو الوصل بالمناسبة. وقريب منه: (يقطعون ما أمر الله) في القوس الصعودي، وكان ما أمر الله (به أن يوصل) في القوس النزولي، فإن القوى والجنود الإلهية في القوس الثاني، لا يعصون الله طرفة عين، ولا يتخلفون عما أمروا به وهم يعلمون، فإذا وصلت نوبة الحركة إلى القوس الأول، وهو قوس الصعود، فيتمسكون من العصيان والطغيان، ف? (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) خذلهم الله تعالى. (ويفسدون في الأرض) والجهات السافلة بسوء الاختيار وبالإرادة الاختيارية، ولو لم يكن السبب القريب للفساد اختياريا، إلا أن القطع بعد الوصل كان بالاختيار، فيصح ملامتهم على الإفساد في الأرض فسادا اختياريا وغير اختياري. ومما أفسدوه في تلك الجهات السافلة إفسادهم الفطرة والنورانية المودوعة المخمورة، بسوقها من تلك الخميرة الإلهية إلى الظلمات القلبية والصدرية والطبعية حتى حصلت لهم الظلمة الذاتية الجحيمية الأبدية (وأولئك هم الخاسرون) حيث وقعت المعاملة والمبادلة بين تلك النورانية الأزلية الذاتية، وبين هذه الظلمة الأبدية الذاتية، فهل ترى خسرانا وراء هذه الخسارة، وعند ذلك يجب أن يقال: (أولئك) فقط (هم الخاسرون)، وإلا فسائر الخسارات تقبل الانجبارات وتتحمل النفوس وخزائن الإنسان تلك الديدان، دون هذه الديدان الداخلية التي حصلت من الأفعال الانحرافية، والأعمال اللادينية، والأقوال اللا أبالية. فأعاذنا الله من هذه الأخطار التي يجوز أن تطرأ علينا وتحيط بنا وتخلدنا إلى الأرض والجحيم. اللهم إليك أبتهل وأرغب ولك أسأل أن تصلي على محمد وآله، وأن تجعلني من الواصلين الموصلين، وأن أديم ذكرك وممن لا ينقض عهدك، ولا يغفل عن شكرك، ولا يستخف بأمرك. إلهي وألحقني بنور عزك الأبهج، فأكون لك عارفا، وعن سواك منحرفا، ومنك خائفا مراقبا يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله على محمد رسوله وآله الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا. قد تم الفراغ عن هذه الآيات الثلاثة الثامن من شهر شعبان المعظم سنة 1394 ه? في النجف الأشرف على مهاجرها آلاف التحية والسلام وعلى أعدائه اللعنة والآلام.


1- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 202 - 203 / 92.

2- الفقيه 1: 50 / 4.

3- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 203 / 92.

4- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 205 / 95.

5- التفسير العسكري المنسوب إلى الإمام (عليه السلام): 206 - 207 / 95 و 96.

6- راجع تفسير الطبري 1: 170.

7- نفس المصدر.

8- راجع تفسير ابن كثير 1: 109.

9- نفس المصدر.

10- راجع حول الأقوال كلها إلى تفسير الطبري 1: 171 - 177.

11- راجع تفسير ابن كثير 1: 112.

12- تفسير الطبري 1: 178.

13- راجع نفس المصدر: 180.

14- راجع تفسير ابن كثير 1: 113.

15- نفس المصدر.

16- راجع تفسير ابن كثير 1: 113، وتفسير الطبري 1: 181.

17- راجع تفسير ابن كثير 1: 114، حول الأقوال.

18- الرعد (13): 20 - 21.

19- الرعد (13): 25.

20- راجع تفسير ابن كثير 1: 115.

21- راجع تفسير الطبري 1: 184، وتفسير ابن كثير 1: 115.

22- راجع تفسير ابن كثير 1: 115.

23- راجع تفسير الطبري 1: 185، وتفسير ابن كثير 1: 116.

24- محمد (47): 22.

25- راجع تفسير ابن كثير 1: 116.

26- تفسير الطبري 1: 185.

27- العنكبوت (29): 64.

28- راجع تفسير الطبري 1: 174، والدر المنثور 1: 38.

29- البقرة (2): 210.

30- راجع علم اليقين، الفيض الكاشاني 2: 1029، والاختصاص: 358، وبحار الأنوار 16: 295 / 1.

31- الأحزاب (33): 23.