بعض التنبيهات العرفانية

في قوله تعالى: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) سكوت عن كيفية الارتزاق، وأنه هل الابتهاجات النفسانية والالتذاذات في الجنة تحصل، كما في الدنيا من طريق الفم والمضغ والازدراد وأمثالها، أم هو على نهج بديع آخر أرقى وأحسن وألطف وأسهل، فإن في تلك الطريقة صعوبة ومماطلة وتعطيلا واحتياجا، وفي الكيفية الأخرى دائمية سرمدية لطيفة بديعة؟ضرورة أن الارتزاق والرزق لا يطلق على الفواكه إلا مجازا، وما هو الرزق هو النصيب الواصل، فإذا كان ما رزقوا هو النصيب الواصل الفاني - كما في الدنيا - فكيف يقال: (هذا الذي رزقنا من قبل) فالرزق الواصل إلى النفس والالتذاذ الحاصل للمؤمنين، باق ويزداد ويشتد دائما، وعندئذ يقال ويصح أن يعبر عنه: بأنه الذي رزقنا من قبل.

تنبيه

الأسماء الإلهية الجارية على الذات الأحدية، مختلفة بحسب التراكيب اللغوية، فالأكثر منها تجري عليها على نعت المشتقات، كالعالم والقادر والمحمود والمعبود والحكيم والصبور والشكور والحليم، وفيها ما يجري عليها على نعت الأفعال وفي جواز إجراء المشتقات إشكال مثلا في القرآن يقول: (ضرب الله مثلا) أو يقول: (أن يضرب مثلا)، فإنه تعبير عنه تعالى وتوصيف، إلا أن جواز إطلاق " الضارب " عليه تعالى و " ضارب المثل " محل مناقشة عند أهله، وهكذا قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي)، فإن من الصفات المنفية الجارية، لا ينتزع العناوين الاشتقاقية حتى يطلق عليه تعالى، فلا يجوز أن يقال: إنه تعالى غير حيي، أو غير مغير، متخذا من قوله تعالى: (إن الله لا يغير) (1)، وهل في هذه المرحلة تكون لتلك الأوصاف المنتسبة إليه تعالى مجال ومظاهر في النشآت المتأخرة، فيكون في العالم مظهر لها أيضا، كما يكون الأمر كذلك في سائر الأوصاف؟وجهان. والذي يصدقه الكشف والبرهان، ويساعد عليه الذوق والوجدان، هو الثاني، فإنه لا حياء في الدين، فالمؤمن مظهر لا يستحيي، وقد ورد في الحديث: " علي (عليه السلام) خشن في ذات الله " (2)، وهذا لا يعقل إلا في صورة كونه مثالا له تعالى، ومظهرا تاما، فلا يستحيي من إظهار الحق وإبراز الدين والشريعة وبيان المسائل والأمثال. وتوهم: أن الصفات الجارية بصيغة الأفعال ليست صفات كمالية، ولا كاشفة عن المبادئ الكمالية، لأنها إلى التجدد والتصرم أقرب، وإلى المجاز واللا حقيقة أصوب، غير تام جدا، ضرورة أن جميع العناوين الجارية بالمقايسة إلى الإطلاقات العرفية، يشوبها النقص وتضرب إلى التشبيه والتعطيل، وبالمقايسة إلى الموازين العقلية والقيامات الشهودية تكون صحيحة واقعية، من غير فرق بين أنحاء التعابير وأقسام العناوين.

إيقاظ

إن جملة (إن الله لا يستحيي) تكون معللة، والعلة تستنبط من مدلولها، وهو أن البعوضة فما فوقها بالنسبة إليه تعالى على حد سواء، لاستوائية النسب والإضافات في ذاته تعالى، التي تعتبر بين الصفات والأسماء. وعلى هذا النمط يحصل لأهل الكشف اليقين ولأرباب الإيمان العيان، إن حديث العقول الطولية والعرضية مما لا أصل له، للزوم كون الإظلال والرقائق على خلاف الأصول والحقائق، والمظاهر والمجالي على خلاف المتجلي والمتظاهر، وهذا من الممتنع الواضح الغني عن البيان، فالماهيات مختلفات بين ذواتها وفي الآثار والوجود العام المنبسط على رؤوس تلك الأعيان الثابتة، والماهيات الإمكانية هي معيته القيومية وخالقيته الرابطة، المشترك فيه كل شئ على حد سواء، وأن مختلف الآثار باختلاف الانتماء إلى تلك البارقة وذلك الوجود الحق المخلوق به. ولنعم ما قاله الشاعر الفارسي: أي آنكه ترا به هر مقامي نامى * وى آنكه به هر گمشده أي پيغامى كس نيست كه نيست بهرمند از تو ولى * اندر خور خود بجرعه أي يا جامى وتحقيق هذه المسألة، وكيفية حصول الكثرة في العالم على نهج مرام العارفين، خلاف ما ذهب إليه أصحاب الجدل والبرهان، في مقام آخر إن شاء الله تعالى.


1- الرعد (13): 11.

2- راجع بحار الأنوار 21: 385 / 10.