بحوث فلسفية ومسائل حكمية

البحث الأول: حول أن الجنة والنار مخلوقتان قد مر شطر من البحث حول الخلاف الشديد في أن الجنة والجحيم مخلوقتان أم غير مخلوقتين، فذهب أصحاب الحديث والرواية والأخبار إلى الأول، وجماعة من أرباب الكشف واليقين وأصحاب البرهان والدليل إلى الثاني. وفي المسألة أخبار أهل البيت تشعر بالجهتين وإلى المخلوقية الخاصة المحرر تفصيلها في محله فإنها لو كانت موجودة فما بال الأخبار الناطقة: بأن أشجار الجنة تحترق بالأعمال السيئة (1) أو تنبت بقولك: لا إله إلا الله... وهكذا، وفي النار أيضا يختلف لسان الآيات والروايات وحديث تجسم الأعمال، وأن النار وقودها الناس والحجارة، فلا نار قبل وقوده. وبالجملة: قضية قوله تعالى: (لهم جنات تجري) ظاهره في الملكية، والملكية لا تتحقق إلا بعد وجود الملوك، فالجنة موجودة (2). وما هو التحقيق، كما مر، ويأتي بوجه أليق - إن شاء الله تعالى - هو أن كلا من الجنة والنار ذات حصص ومراتب، بعضها موجودة حتى في هذه النشأة، وبعضها يوجد، وأما قوله تعالى: (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)، فاللام لا يدل على أزيد من الاستحقاق والجزاء، وهو أعم من وجود ما يستحقه حين الاستحقاق، كما هو أعم من وصول ما يستحقه إليه وعدمه. وبالجملة: قضية بعض البراهين ولو كان امتناع وجود المقدرات المجردة في قوس النزول، لعدم وجود الأسباب المقتضية لتقدرها، إلا أن من المحتمل إمكان طرو التقدر من ناحية تنزل الفيض قهرا، وبذلك يصح تصور الملائكة المتجسمة غير المصاحبة مع المادة، من غير كونها من توابع الأنفس بعد المفارقة. ويحتمل أن تكون الجنات المتقدرة لأهل الإيمان والأعمال الصالحة، مخلوقة جماعة السابقين، الموجودين في القوس الصعودي، فتكون الجنة والنار من مراتب قوس الصعود لا النزول، فيحصل التقدر من ناحية أسبابه الصحيحة، وهي المادة السابقة عليها، فلاحظ واغتنم. ومن هنا يظهر حال الاستدلال بقوله تعالى: (ولهم أزواج مطهرة). ثم إن قوله تعالى: (وهم فيها خالدون) ظاهر في أنهم في الحال فيها، وفي الساعة قاطنون في الجنة، فالجنة تكون لها الوجود السعي المستولي عليهم وعلى الدنيا، حتى يصح اعتبار كون أهل الدنيا فيها، كما يقال: زيد في ثوبه، مع أن الثوب يشتمل عليه، فتكون الآية من الشواهد على المسألة الأخرى، التي ترجع إلى المسألة الأولى في الحقيقة، وهو أن الجنة والنار من الوجودات الكلية السعية، التي تكون مظهر الاسم " الرحمن "، وفي حذائها الجحيم، فهم الآن في الجنة، وهم الآن في النار، وإن النار محيطة بالكافرين، وإن المؤمنين هم في الجنة خالدون، فأجري المشتق عليهم، وظاهره أن الجري بلحاظ الحال - كما هو التحقيق في الأصول - إلا إذا كانت القرينة على خلافه. فالمؤمن في الجنة باطنا وفي الدنيا - وهي صورة الجحيم - ظاهرا. والكافر في الجحيم ظاهرا وباطنا إلا أنه يتوهم توهما خياليا أنه في الجنة، لما في الدنيا له من الاستلذاذ والتلذذ والتنعم، ولنعم ما ورد في أحاديثنا: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " (3). أقول: ربما يناقش في الاستدلال بالآية الشريفة، من ناحية أن قوله تعالى: (كلما رزقوا منها) - حكاية عن مقالة المؤمنين - ظاهر في أن المقاولة تكون في الجنة، فالخلود يجري مجرى الاستقبال، فلا يشهد على أنهم في الجنة في الحال، بل هم في الجنة في الاستقبال، ويكونون خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض. ثم إن إجراء لفظة " الخالد " عليهم لا تقتضي في ذاتها وجودهم الفعلي في الجنة. نعم إذا ثبت أنهم في الجنة في الحال تدل الآية على أنهم من الآن خالدين فيها. والله العالم، وتدبر جيدا. وبالجملة: قوله تعالى: (وهم فيها خالدون) يدل على أن المؤمنين خالدون في الحال، وحيث إن المظروف معين، وهي الجنة، فتكون الجنة موجودة في الحال، وهم فيها في الحال، وخالدون فيها، فيثبت بذلك أن الجنة والنار موجودان بالفعل، لا كموجودية الأشياء الخاصة الواقعة في جهة من الجهات، فاغتنم.

البحث الثاني: حول تقوم الحركة بالمادة اختلفوا في أن الحركة متقومة بالمادة المشتركة الباقية، أم لا على أقوال وتفاصيل في المسألة محررة في محله (4). والذي هو التحقيق: أن الحركة لاتعقل إلا بالقوة، والقوة تشرع في الحركة بتبع حركة الجسم المزاول لها، فيكون الجسم متحركا بها نحو الكمال المقصود والغاية المطلوبة، فعندئذ يتدرج في الوجود وتفنى وتضمحل آنا فآنا، ويستكمل الجسم المتحرك بها، أو يقرب من الغاية المعينة لها، ولا يعقل - عندئذ - بقاء تلك القوة على الكيفية الأولية، نظير حركة السيارات الحديثة، فالأجسام المتحركة في العالم كلها نظيرها في هذه المرحلة من الوجود والحركة. وأما المحققون من الحكماء فأنكروا وجود الحركة في العوالم المجردة عن المادة، لأن تلك القوة مركبها المادة، فإذا لم تكن مادة فلا قوة ولا حركة ولا استكمال، ولا خروج من الكمال إلى النقص وبالعكس. وفي الآية شهادة على خلافهم، حيث صرحت الآية الشريفة بأن في الجنة أنهارا تجري من تحتها، والجريان لا يعقل إلا ويستتبع الفساد، والدار الآخرة لهي الحيوان، والحياة الباقية الخالدة لا تقبل الفساد، والجريان لا يعقل إلا ويكون في الجسم المركب من الصورة والمادة، والآخرة خالية عن المادة ولواحقها. وأمثال هذه الآيات كثير، وربما هي متواترة، فكيف الجمع بين العقل والنقل؟أقول: تفصيل هذه المسألة يطلب من محاله، ولا يسعه المقام، وإجماله: أولا: أن الأنهار تجري في عالم الطيف والخيال المتصل، وربما يشاهد أرباب الكشف جريان هذه الأنهار، فهل هذا الجريان الحاصل في صقع النفس، من تلك الجريانات المصحوبة مع المادة والمقرونة بالقوة، أم يتحصل الجريان من غير كونه خروجا من القوة إلى الفعل، بل هو كله بالفعل، ومن غير دخول في الحضور بعد الغيبة، بل كله الحضور.. وهكذا. وثانيا: أن الصورة العلمية من الحركة توجد في النفس، وتنطبق على الحركات المماثلة، فكيف يكون هذه الصورة موجودة بالفعل، ومع ذلك تنطبق على الحركات الخارجية ؟! فالحركة توجد بأجزائها الطولية عرضا ومعا، من غير تقومها الدائمي بالتدرج، وإلا يلزم عدم إمكان العلم بالحركة، لتحرك العلم أيضا، كما لا يخفى. وثالثة: قد تحرر منا: أن أدلة وجود المادة الجوهرية (5) حذاء الصورة غير تامة، ودليل الفصل والوصل (6) ناقص، ودليل الفعل والقوة (7) لا يثبت إلا وجود القوة لا المادة الجوهرية. وقد تحرر منا: إمكان كون الشئ الواحد صورة بالقياس وقوة بالقياس، وأيضا يجوز أن تكون القوة قائمة بالصورة، ومركوبة لها، كما هو كذلك في السيارات الحديثة، مع عدم جواز الخلط بينها وبين ما نحن فيه فإن المثال مقرب من جهة ومبعد من جهات. وبالجملة: هذه المادة ممنوعة حتى في الطبيعة، فضلا عن دار الآخرة. وأما القوة التي تركب الصورة فلا بأس بالالتزام بها. نعم إن هذه القوة كما هي حاصلة على الصورة بعلية الصورة لها وموضوعيتها لها، كذلك الأمر في نشأت الغيب، فلا فارق بين النشآت الغيبية والشهودية من هذه الجهة. ولا نحتاج إلى مقالة احتملها السيد المحقق الوالد العارف الحكيم، الجامع بين مراحل العلم والعمل، والمواطن في المسائل الإلهية والحكمية والبحوث الفقهية والأصولية خير مواطنة وأحسن إيطان: هي: أن للنفس خلق المادة الإبداعية، فتكون قائمة بها على خلاف الدنيا والطبيعة، فإنه غير ممكن تصديقه، فلا تذهل. فبالجملة: تحرر أن الجمع بين العقل والنقل ممكن جدا، وجميع الإشكالات في هذه الأبواب، ناشئة من القول بالمادة الجوهرية المتبدلة الفاسدة، والكلام يحتاج إلى تتميم نتعرض له في محله الأنسب إن شاء الله تعالى. ثم في نسبة الجريان إلى الأنهار إشعار بقاعدة عقلية: وهي أن الدار الآخرة لهي الحيوان، فلا تكون مجازية. والله العالم.

البحث الثالث: حول تجسم الأعمال في قوله: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)، إشارة إجمالية إلى تجسم الأعمال والأخلاق، فإن ما رزقوا من قبل ليس إلا الأعمال الصالحة التي وعدوا عليها، فإذا دخلوا في تلك الجنة كأنهم رأوا تلك الأعمال متجسمة بصورة الثمرات، فقالوا: (هذا الذي رزقنا من قبل)، فما ذهب إليه جمع من المتكلمين وطائفة كثيرة من أهل التشريع: من بطلان تجسم الأعمال أو امتناعه العقلي، قابل للمنع بمقتضى هذه الآية. وحمل الآية على الادعاء والاستعارة على خلاف الأصل. اللهم إلا أن يقال بأن المقصود من الآية الشريفة توضيح أن أهل الجنة يكون مقالهم ذلك بالنسبة إلى ما يرون فيها متكررا، فيقولون: (هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها) بالنسبة إلى تلك الثمرات في الجنة.

البحث الرابع: حول طهارة الأزواج في الجنة لا يبعد دلالة قوله تعالى: (أزواج مطهرة) - الظاهر في تطهيرهم من كل شين وعيب، وعن كل دنس الطبيعة - على أن تلك الأزواج بلا مادة، فإن المادة تستتبع القذارات قهرا، ومادة الجنة والدنيا واحدة حسب ما تحرر، وإنكار الآثار الكلية يرجع إلى إنكار المادة، فتلك الأزواج مطهرة عن المادة، فثبت بها المقالة المعروفة المشفوعة بالبراهين العقلية والأدلة والإيضاحات النقلية، كما أشير إليه.

البحث الخامس: البحث حول الخلود وأدلته وما هو التحقيق فيه، يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

البحث السادس: وحدة نسب الأشياء إليه تعالى ربما تدل جملة (لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) على اتحاد النسب وعدم تفاوت الأشياء في الانتساب إليه تعالى، لعدم اختلاف في قربه وبعده بالنسبة إلى كافة مخلوقاته ومماليكه، كما في بعض روايات المسألة في ذيل الآية الشريفة، وفيه سر كيفية حصول الكثرة في العالم، وتأييد لمرام أهل العرفان في تلك المسألة، وتفصيلها في بعض المقامات الأنسب.

البحث السابع: حول نسبة الإضلال إليه تعالى قد أطال الكلام بعض المفسرين هنا حول حديث إضلال الله تعالى وهدايته (8)، ولم يأتوا بشئ وبما هو التحقيق في هذه المراحل من العلوم الإلهية، فإن الفخر وأمثاله بعيد عن هذا الميدان وتلك الساحة المقدسة. وحيث إن الآية تحتمل وجهين، فلا يثبت هنا نسبة الإضلال إليه حقيقة، لإمكان كون جملة (يضل به كثيرا) مقول قول الكافرين، وجملة (وما يضل به إلا الفاسقين) مبني على صفة المشاكلة التي من الصنائع اللفظية، فالتأخير في البحث إلى المحل الآخر أولى. وهكذا قوله تعالى: (أراد الله)، فإن هذا من مقولة قولهم، كما هو واضح، وسيمر عليك تمام الكلام حول هذه المسائل - إن شاء الله تعالى - مع أن فيما مر منا في هذا الكتاب غنى وكفاية للألمعي.

البحث الثامن: اجتماع العالم في عالم الدهر من التحريرات الفلسفية: أن الأشياء المتكثرة في هذا العمود من الزمان مجتمعات في وعاء الدهر، وأن تلك الكثرات الكائنة اللاحقة، لها الوحدة السابقة الجامعة، ولها الكينونة الجمعية، حتى قيل: المتفرقات في عالم الزمان مجتمعات في عالم الدهر، والمتفرقات في عالم الدهر مجتمعات في عالم السرمد (9)، وقد فصلنا القول حوله في " قواعدنا الحكمية ". إلا أن هناك ربما يتوهم دلالة الآية الشريفة على تلك المسألة وعلى عالم الذر المشار إليه في قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) (10)، وأنه هو المعنى المقصود من قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) مع أن الآية ظاهرة في ارتباطها بالآيات السابقة، وأن الكافرين بعد معرفة الأدلة الكافية على التوحيد والرسالة، هم الفاسقون الذين ينقضون عهد الله، من بعد وضوحه وتأكده وتوثيقه بتلك الأدلة، فلا يؤمنون، وينصرفون إلى أباطيلهم، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهي الوحدة الإسلامية واللحوق بالمسلمين، ويفسدون في الأرض زائدا على ذلك الأمر. فبالجملة: الاستدلال المزبور في غير محله.


1- راجع بحار الأنوار 8: 187 / 154 و 90: 168 / 3.

2- التفسير الكبير 2: 126.

3- عوالي اللآلي 1: 95 / 4، بحار الأنوار 6: 154 / 9.

4- راجع الأسفار 3: 59 - 67 و 104 - 118.

5- راجع الشفاء (قسم الإلهيات): 315 - 322، وشرح الإشارات 2: 36 - 47، والأسفار 5: 77 - 199.

6- الشفاء (قسم الإلهيات): 66، شرح الإشارات 2: 36 - 47، الأسفار 5: 77 - 79.

7- الشفاء (قسم الإلهيات): 67، الأسفار 5: 109 - 110.

8- راجع مجمع البيان 1: 67 - 69، والتفسير الكبير 2: 137 - 147.

9- انظر شرح المنظومة (قسم الحكمة): 87 - 89.

10- الأعراف (7): 172.