بعض المباحث الكلامية

المبحث الأول: حول الإيمان والعمل الصالح قد حكي عن بعض أرباب الكلام: أن حقيقة الإيمان مرهونة بالأعمال الصالحة، ولو لم يعقب بها لا يعد من الإيمان (1). واستدل الخصم: بأن قوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وأمثاله الكثيرة تشهد على بطلان الرأي المذكور، للزوم التكرار (2). وفيه: أن التكرار غير لازم، لأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان وضعا، بل هي من لوازمه العقلية. وثانيا: التكرار كثيرا ما وقع، ولا بأس به. وثالثا: هذا ليس من قبيل ذلك التكرار، بل هو نظير توصيف " النبأ " بالعظيم، مع أن النبأ هو الخبر العظيم، ومن قبيل تقييد الإسراء - في سورة الإسراء - بالليل، مع أن الإسراء هو السير في الليل، وربما يعد ذلك من المحسنات، لأنه من التجريد والتفريد، ثم التعظيم والتفخيم، لأهمية الأعمال الصالحة، كما هو كذلك جدا. والذي هو التحقيق: أن الإيمان له مراتب بعدد المؤمنين، فمن المرتبة الشامخة ما لا يستتبع الفساد حتى في الوهم والخيال، ومن المراتب الدانية ما يتعانق مع الأباطيل في الأفعال والأقوال، فالإيمان بما هو هو يجتمع مع الإلحاد العملي وإن لم يكن إيمانا راقيا أو منجيا ويكون وديعة ومستودعا وزائلا أحيانا (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله) (3). المبحث الثاني حول استحقاق الثواب يستظهر من قوله تعالى: (أن لهم جنات تجري) مقالة المعتزلة القائلين: بأن الإطاعة توجب الثواب، ضرورة أن الترتيب دليل السنخية والملازمة، وأن الأعمال الصالحة توجب ذلك. وفيه: أن الآية ظاهرة في أن عقيب الأعمال الصالحة تكون الجنات الكذائية، ولا إشعار فيه بالاستحقاق، وما في كلام المستدل: بأن الوقوع غير مقصود فالاستحقاق مراد، غير صحيح، لأن الوقوع مقالة الحكماء في باب الجزاء، وسيمر عليك الإشارة إليه - إن شاء الله تعالى - فإذا أمكن الالتزام بما هو ظاهر القرآن العزيز لا يتم الاستدلال المذكور، ثم إنه لا دليل على الاستحقاق، لإمكان أنه تعالى يتفضل عليهم ويجعل لهم الجنة الكذائية تفضلا ورحمة وترغيبا للآخرين، فلا تخلط. المبحث الثالث حول دلالة الآية على امتناع الحبط اعلم أن من المسائل الخلافية مسألة حبط الأعمال وتحقيقها على الوجه الوافي يأتي من ذي قبل في محل أنسب إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا الإشارة إلى استدلال بعض القاصرين - كالفخر وغيره - بهذه الآية الكريمة على امتناع الحبط، وذلك لظهور قوله تعالى في أن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)، ومقتضى الإطلاق أن ذلك ثابت لهم، سواء كفروا بعد ذلك أو آمنوا، وحيث لا معنى لاستحقاقهم بعد الكفر، فيمتنع الكفر بعد الإيمان، وحيث لا معنى لكون الكفر محبطا للإيمان السابق، لامتناع التحابط، فيكون الكفر بعد الإيمان ممتنعا. ولو قيل: إن الفرض المذكور واقع، فكيف يكون ممتنعا، وقد قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا) (4)؟قلنا: هذا الإيمان صورة ظاهرية من الإيمان، ولا يكون إيمانا واقعيا راسخا حقيقيا، وهذا لا يستتبع شيئا حتى يحبط بالأعمال المتأخرة والاعتقادات الطارئة (5). أقول: نظر القائلين بامتناع التحابط إلى إثبات استحقاق العباد في قبال الأعمال الصالحة للجنة، واستحقاقهم النار كذلك، منكرين أن المسألة في باب الثواب والعقاب خارجة عن قانون العلية والمعلولية، ومندرجة في الجزاف والاستهزاء، غافلين عن أن الأمر ليس كما توهموه، كما مر تفصيله، ويأتي أيضا الإيماء إليه. فعليه من كان مؤمنا ثم كفر في هذه النشأة، يكون متحركا في الدرجات وفي الطبيعة، وتزول الصور، وتكتسب الصور الاخر، ويشتد الوجود ويضعف إلى أن يصل إلى مفارقة المادة أو ما بحكمها، حتى ينقطع عن الحركة الذاتية الطبيعية، وعن المعراج الروحي والاستكمال التدريجي أو الضعف التدريجي، فالاعتقادات الزائلة كالسواد والبياض على الأجسام المتحركة الزائلين، من غير فرق بينهما، وأما الإيمان فإن كان راسخا فلا يزول، فإذا زال فهو أيضا، إيمان ضعيف كالسواد الزائل بضياء الشمس. فالاستدلال بتكثير الصور - كما في تفسير الفخر (6) - من القيل والقال الذي ليس له مجال، وأما الآية الشريفة فلا تدل إلا على أن لهم كذا، وأما وصولهم إليها فهو أمر آخر، ضرورة إمكان منعهم لمانع خارجي أحدثوه، وهو الكفر والإلحاد والزندقة والإفساد. وتفصيل حديث حبط الأعمال في محله إن شاء الله تعالى. المبحث الرابع حول كفر الفاسقين اختلف المنتحلون للإسلام: في أن الفاسق مؤمن أم كافر، فذهب الأكثر إلى إيمانه، والخوارج إلى كفره، وعن المعتزلة القول بخروجه عنهما (7). وهذا البحث غير صحيح ومن الأباطيل والأغلاط، لأن من استدلالهم ببعض الآيات، نحو قوله تعالى: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) (8)، (إن المنافقين هم الفاسقون) (9)، ونحو (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (10) يظهر اختلافهم في المراد من الفاسق في الكتاب الإلهي، وإلا فالفاسق بين من يكون خارجا عن الاعتقاد الصحيح، فيكون كافرا، وبين من يخرج عن العمل الصحيح مع الاعتقاد بالتوحيد والرسالة، فيكون مؤمنا، ولا قسم ثالث إلا برجوع البحث إلى ما مر في حقيقة الإيمان. فعلى كل تقدير يستدل بهذه الآية الشريفة على أن الفاسقين من الكافرين، وهذا في محله، بل اصطلاح الكتاب غير بعيد، كما مر، ولكنه لا يرجع إلى بحث كلامي، كما توهمه الفخر وغيره (11). ومنها: أن قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه...) إلى آخره دليل على جواز التعيير على نكث العهود الأزلية وجواز التقبيح على نقض القرارات الذاتية السابقة على الخلقة، وعلى ما لا يقدر عليه الناس، فتكون الآية شاهدة على جواز تكليف المعدوم، وجواز التكليف بما لا يقدرون عليه، وغير ذلك من المسائل الكلامية. أقول: كون الآية راجعة إلى عالم الذر قول قائل لم يذكر، فلا يعتنى بشأنه (12). وثانيا: لم يثبت أن التثريب والتعيير والاحتجاج بالنسبة إلى الظرف القديم والعهد الأزلي، حتى لا يصح عند العقلاء ويصح عند غيرهم، بل هي حكاية عن شأنهم، وأنهم بعد ما خلقوا يكون أمرهم وشأنهم ذلك حسب ما يتراءى من سائر أفعالهم وأقوالهم. وبعبارة أخرى: إنهم ينقضون عهد الله إذا عاهدوا، ولعل الإتيان بالفعل المضارع يشعر بتلك الجهة. والله العالم.


1- راجع نقد المحصل: 401، وشرح المواقف 8: 323.

2- التفسير الكبير 2: 127.

3- الروم (30): 10.

4- النساء (4): 137.

5- راجع التفسير الكبير 2: 127.

6- راجع التفسير الكبير 2: 128.

7- راجع كشف المراد: 427، وشرح المقاصد 5: 200 - 206، وشرح المواقف 8: 334.

8- الحجرات (49): 11.

9- التوبة (9): 67.

10- الحجرات (49): 7.

11- راجع التفسير الكبير 2: 147.

12- التفسير الكبير 2: 148.