بعض البحوث الأصولية
البحث الأول: احتياج العموم إلى مقدمات الحكمة إن قوله تعالى: (وعملوا الصالحات) لا يدل على العموم الاستغراقي بالضرورة، فيكون دليلا على أن الجمع المحلى بالألف واللام، ليس موضوعا للاستغراق وإفادة العموم، مع أن هيئة الجمع لا تقتضي ذلك والألف واللام وحده لا يدل عليه، ولاوضع ثان للمركبات بالضرورة، فيعلم من ذلك أن استفادة العموم منوط بمقدمات الحكمة على الوجه المحرر في الأصول، وهكذا قوله تعالى: (من تحتها الأنهار). نعم قوله تعالى: (إلا الفاسقين) في مقام البيان، ومقدمات الحكمة في هذا الموضع تفيد الكثرة الأفرادية، بخلاف ما إذا كان مصبها القضية الطبيعية، كقوله تعالى: (أحل الله البيع) (1) وغيره، فافهم واغتنم. فما ذهب إليه جمع من الأصوليين - وفيهم الوالد المحقق مد ظله - من أن الهيئة المذكورة تفيد العموم وضعا، غير تام، كما أن توهم إفادة المقدمات الإطلاق - لا العموم - في مثل المقام، أيضا ممنوع جدا، لعدم التلازم، كما هو واضح، والتفصيل في الأصول.
البحث الثاني: تكليف الكفار والفساق بالفروع إن المراد من الفاسقين في قوله تعالى: (إلا الفاسقين) إما الكافرون فقط، لمناسبة الآيات معه، ولذهاب جمع إلى اصطلاح جديد في القرآن، كما هو الأظهر، وقد مر، أو يكون أعم. وعلى كل تقدير يكون الآية المتأخرة من أوصاف الفاسقين، وأنهم لا يجوز لهم قطع ما أمر الله به أن يوصل، ولا يجوز لهم نقض عهد الله والإفساد في الأرض، فيكون الكفار مكلفين بالفروع كالأصول، خلافا لجماعة من أصحابنا الأخباريين (2) وطائفة من الأصوليين (3). ولا يتوقف الاستدلال على كون النقض والقطع حرامين، حتى يقال بعدم حرمتهما الشرعية كما مضى، بل مقتضى قوله تعالى: (ما أمر الله به أن يوصل) كونهم مورد الأمر. وقد قال الشيخ (رحمه الله) في " التبيان ": وقال قتادة: قوله: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) قطيعة الرحم والقرابة، وقيل: معناه الأمر بأن يوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه، والقطع: البراءة من أعدائه. وهذا أقوى، لأنه أعم من الأول (4). وبالجملة: تحصل أن الآية الثالثة تشهد على أن الفساق مورد التكليف بالنسبة إلى فعل من الأفعال، إما الوصل، أو القطع، وعلى كل تقدير يثبت تكليفهم بالفروع في الجملة في قبال النفي المطلق، ضرورة أن الفروع هي التكاليف الفعلية، والأصول هي التكاليف القلبية. ومن هنا يظهر وجه المناقشة في القول: بأن المراد من عهد الله هو التوحيد والرسالة، والمراد من القطع قطع ما ثبت له بالأدلة من التوحيد والنبوة، والمراد من الأمر بالوصل هو الأمر بالاتصال بالتوحيد، وهو أمر قلبي، لا عملي خارجي. ضرورة أن اختصاص المراد بلا وجه، مع أن الأمر والوصل والقطع ظاهرة في الأمور الخارجية. اللهم إلا أن يقال: ظهور السياق أقوى من هذه الأمور، والضرورة حاكمة على أن الآيات راجعة إلى المسائل الاعتقادية، فلاحظ وتدبر جيدا.
البحث الثالث: دلالة مادة الأمر على الوجوب من المسائل الخلافية بين علمائنا الأصوليين، مسألة ظهور مادة الأمر في الوجوب وعدمه، فذهب الوالد المحقق إلى الأول مستدلا بالتبادر (5)، والعلامة الأراكي - قدس سره - إلى أنه لمطلق الطلب (6). ومن هذه الآية يستفاد أن مادة الأمر للإيجاب، فإن قوله تعالى: (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) ظاهر في أن ما أمر الله به هو الواجب بالضرورة، فيكون الأمر دليلا على الوجوب، وتكون مادة الأمر ظاهرة فيه. والذي تحرر عندنا في الأصول (7): أن البحث المذكور غلط، ضرورة أن مادة الأمر ليست موضوعة إلا لصيغة الأمر بما لها من المعنى، والوجوب أو الطلب المطلق من معاني الصيغة، وليس مادة الأمر موضوعة له، فإذا قال الله تعالى: (ما أمر الله به أن يوصل)، فلا يتبادر منه إلا أن الله تعالى أوجب الوصل بإحدى الوسائل، كصيغة الأمر، من غير كون مادة الأمر موضوعة للوجوب أو لمطلق الطلب، وهكذا قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) (8)، فإن المنصرف من " أمر ربه " هو الصيغة المتعلقة بمادة الصلاة والصوم والحج وغير ذلك، وتلك الصيغة: إما تدل على الوجوب، أو الندب، أو الأعم، أو لا تدل على شئ على خلاف في محله. فاستفادة كون مادة الأمر للوجوب من هذه الآية وأمثالها، محل منع جدا. نعم يصح الإنشاء بالمادة، وهو بحث أجنبي عن هذه المسألة.
1- البقرة (2): 275.
2- انظر الفوائد المدنية: 226، والوافي، الفيض الكاشاني 1: 20، والحدائق الناضرة 3: 39 - 44.
3- راجع حول المسألة بتفصيلها إلى تحريرات في الأصول 5: 318 وما بعدها.
4- راجع تفسير التبيان 1: 122.
5- راجع تهذيب الأصول 1: 133.
6- راجع مقالات الأصول، المحقق العراقي 1: 205.
7- راجع تحريرات في الأصول 2: 5 وما بعدها.
8- النور (24): 63.