بعض البحوث الفقهية
المسألة الأولى: اشتراط الإيمان بالمعاد في الطهارة لا شبهة عندنا في أن من شرائط الطهارة: الإقرار بالشهادتين والإيمان باليوم الآخر، فلو كان غير معترف ولا مذعن بها، يكون من الطبقة النجسة، ومن الكفار المحكوم عليهم بأحكامهم الخاصة. وربما يستشم من الآية الأولى: أن مجرد الإيمان بالمبدأ والرسالة يكفي لصدق المؤمن، ولا يلزم الإيمان بالمعاد، ضرورة أن قوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ليس مخصوصا بالمؤمنين بالخصوصيات الثابتة في الإسلام في مرتبة التوحيد والرسالة، بل يكفي الإيمان الإجمالي بالمبدأ والنبوة الخاصة. وتوهم: أن الحذف دليل العموم، من الأغلاط في المقام، بل الحذف دليل كفاية الإيمان في المرتبة الأولى، ولو كان شاهدا على العموم للزم كفاية الإيمان بكل شئ، وهو مقطوع العدم، فما هو القدر المسلم - بمناسبة ما سبق - هو الإيمان بالله وبالنبوة المستشهد عليهما بالآيات السالفة، فالإقرار بالمعاد والإذعان بذلك ليس شرطا في الطهارة. أقول: لا ينبغي الخلط بين ما هو الشرط وما هو المطهر حسب الاصطلاح، وبين ما هو اللازم الاعتقاد به، وأنه يلزم من عدم الاعتقاد به الإخلال بما هو الشرط والمطهر، وذلك لأن الإقرار بالشهادتين يكفي للطهارة الظاهرية الشرعية، إلا أن عدم الاعتراف وعدم الاعتقاد بالمعاد، ينافي الاعتقاد بالنبوة الصريحة في أصل المعاد والجازمة بالرجوع ويوم الميعاد، فإذا كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض، تكون النتيجة تابعة لأخس المقدمتين، فينسلك في مسلك الكفار الغير العارفين بالرسالة، فالآية الشريفة لا تفسر بما في كلمات المفسرين من الإيمان بجميع الخصوصيات، فإنه تفسير غير صحيح جدا، إلا أن الإيمان بالرسالة والقرآن يستتبع ذلك، من غير كون التابع دخيلا في الطهارة والخروج عن نجاسة الكفر. ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بأمثال هذه الآية وبقوله تعالى: (فأما الذين آمنوا).
المسألة الثانية: أقسام الناس من حيث الإيمان خلاف في أن الناس صنفان: مؤمن وكافر، أم هم أصناف، ومنهم من لا يكون منهما كالمستضعفين. وهذه الآية ظاهرة في الأول، فإن قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا) ناظر في التقسيم المستوعب، فالكافر ليس المعاند للحق والمعتقد بالباطل بل الكافر هو المحجوب عن الحق، سواء كان مذعنا بالأباطيل والأنداد والأضداد، أم كان ساكتا غير فاهم للحق، فلو ورد في الشريعة حكم على عنوان الكافر، فيشمل كل من لا يعترف بالأصول المعروفة، سواء كان معذورا بحسب موازين العقاب، أم لم يكن معذورا، مثلا: إذا ورد في الشرع: " لا ربا بين الكافر والمسلم " فالكافر أعم وهو خلاف المسلم من أية فرقة كانت... وهكذا. ومما يشهد على ذلك: أن قوله تعالى: (فأما الذين كفروا) سواء كانوا من المعاندين المعتقدين بضد الإسلام، أم كانوا من المستضعفين، يصح لهم أن يقولوا: (ماذا أراد الله بهذا مثلا)، فالشاك المرتاب والمعتقد بالباطل على حد سواء في هذا الشرع. ومن الضروري أن قوله تعالى: (فيقولون) حكاية عن شأنهم وحالهم، ولا يلزم أن تكون حكاية عن أمر خارجي واقع.
المسألة الثالثة: حرمة نقض عهد الله تدل الآية الثالثة على حرمة نقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقضية إطلاقها عدم الفرق بين العهد المقابل للنذر واليمين وسائر القرارات التي ليست ذات طرفين، كالأحكام الإلهية والتكاليف الربانية، والقرارات التي تكون بين الجانبين والأطراف بين الأفراد وبين الحكومات إذا كانت على طبق موازين إسلامية، فإنها تسمى أيضا عهد الله، لأنها قرار الله وإمضاء الله في ذيلها وتوثيقه في مؤخرتها، فنقض هذه العهود صفة الفاسقين، فيكون محرما. وتوهم: اختصاص الآية بالعهد الخاص - كما أشرنا إليه فيما سبق - غير جائز، والنزول في مورد خاص لا يستتبع الاختصاص. والمقصود من التحريم التكليفي ترتيب آثار النقض بعد العهد والميثاق، فلو كان معتقدا بالإسلام والنبوة الخاصة بعد تلك الدلائل، فلا يجوز له نقض العهد بإظهار خلافه، وبالانسلاك في أسلاك المبطلين وهكذا. وأما الانصراف القلبي لأجل الوساوس الشيطانية غير الاختيارية، فلا يكون مورد التكليف، ولا تحريم بالنسبة إليه، ولو كان ذلك ممكنا، كما تحرر في الأصول. أقول: ربما يتوجه على الاستدلال المذكور: بأن الفاسقين في الآية الشريفة هم الكفار، وقد كثر استعماله حتى صار شائعا في ذلك - كما مر - فالنقض المذكور من صفات الكفار، فلا يشمل نقض العهود والقرارات بينه وبين المسلمين. هذا، مع أن تحريم نقض العهد بعنوانه، يستلزم تعدد العقوبة عند ترك الصلاة والصوم، لأن المكلف بتركهما يستحق عقوبتهما، ولأجل أنه ينطبق عليه نقض عهد الله ووصيته، يستحق عقوبة ثانية، والالتزام بذلك غير ممكن، والقول بتداخل العقابين أو العقوبات مما لا يرجع إلا إلى الاشتداد وهو - أيضا - مما لا يصح الالتزام به، فحرمة نقض العهد شرعا غير ثابتة بهذه الآية الكريمة، سواء كان العهد الراجع إلى الأمور القلبية والاعتقادية أو الفعلية والخارجية، فالآية بصدد تعريف الفاسقين بحسب الماهية الإسلامية، لا الماهية الفلسفية والمنطقية، ولا الماهية الاجتماعية والحقوقية. هذا، مع أن عهد الله من بعد ميثاقه ظاهر - حسب الآيات السابقة - فيما يريده الله تعالى من الناس، بعد إقامة الدليل عليه بإقامة الشواهد السابقة على الربوبية والعبودية، وعلى النبوة وعلى الكتاب العزيز، فلا يشمل العهود والعقود المعاملية والتجارات المحللة الإسلامية. اللهم إلا أن يقال: إنها ولو كانت بين الجوانب، إلا أن صحتها ونفوذها من جانب الله فيكون عهد الله ومن وصية الله وحكم الله تعالى. والله العالم.
المسألة الرابعة: حرمة قطع ما أمر الله به أن يوصل تدل الآية المذكورة على حرمة قطع ما أمر الله به أن يوصل، فيحرم - مثلا - قطع صلة الأرحام، بل يحرم قطع صلة ما أمر الله به ولو كان أمرا استحبابيا، إلا أن الالتزام بالإطلاق ممنوع، فيقيده بغيره، فينحصر بما إذا كان الأمر إيجابيا. ووجه استفادة التحريم: كونه من أوصاف الفاسقين، ويجوز دعوى دلالتها عليه ولو كان المراد من الفاسقين الكفار، بعدم اختصاصهم بالحكم التحريمي، فلو كان شئ محرما عليهم يشترك فيه غيرهم، بخلاف عكسه، كما هو المعروف عند جمع. ويتوجه عليه: أولا: أن ما أمر الله به غير مبين. وثانيا: ليلزم من التحريم المذكور كون قطع الرحم موجبا للعقابين. وبالجملة: قطع ما أمر الله ليس محرما بعنوانه، وما هو الواجب هو ما أمر الله به أن يوصل. ويظهر في محله تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.