وجوه البلاغة والفصاحة والمعاني

الوجه الأول: ارتباط هذه الآيات بالسابقة الارتباط والتناسق بين هذه الآيات والآيات السابقة، من الوجوه المختفية على جل من الأكابر في الفن. فإذا فرغت الآيات عن مسألة التوحيد وبحث النبوة بإثبات إعجاز القرآن، شرعت في آيات الأصل الثالث - وهو المعاد - في ضمن التعرض لحال المؤمنين الذين أذعنوا واعتقدوا بإعجاز الكتاب، وآمنوا بالرسالة وتركوا الأنداد، وعملوا الصالحات، في قبال الذين هم في ريب، وفي موقف المعارضة بتخيل إمكان الإتيان بالمثل، وأنه كلام يشبه سائر الجمل الآدمية والكلام المتعارف، وفي خلال ذلك يتبين منتهى مسيرهم، وهو النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، وظهر مصير المؤمنين إلى الجنة، التي فيها الأنهار الجارية والأزواج المطهرة، فالتقابل بين الآيات في نهاية الوضوح تقابلا يؤكد السنخية والربط. ثم إن لأحد أن يتوهم من الأمثلة السابقة المشتملة على الخصوصيات الهادية، كالصيب من السماء فيه الظلمات والرعد والبرق، وهكذا المثل السابق عليه، أن هذه الأمثال تشهد على أن الكلام ليس في حد كلام الله، وأنه لا ينبغي لجنابه تعالى ذلك. فيشهد هذا وأمثاله على أنه كلام الآدميين فدفعا للتخيلات نزلت الآية الثانية من هذه المجموعة، وأن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، فبين الآيات نهاية الوحدة الهدفية والغرض المتسانخ. ومن اللطيف أن الآية الثالثة من هذه الآيات في حكم تفسير الآية الثانية، ويستبان بها أحيانا أن الذين يشكون في الكتاب الإلهي إذا قام ونهض البرهان القطعي على أنه من عند الله، فيحصل لهم اليقين بذلك، فكيف يجوز عند العقل بعد ذلك نقض عهد الله بعد ميثاقه بالبرهان ؟! وكيف يترخص لهم قطع ما أمر الله به أن يوصل، وهي الوحدة والاتفاق في الهدف والمعيشة؟فيفسدون في الأرض بقطع تلك الوحدة، وهدم ذلك البنيان والإخلال في الحياة الاجتماعية، فلا يلتحقون بالمؤمنين، مع أنهم يتبعون البرهان والدليل، ولا يأخذون بالتعبد، ولا يكونون على العمى والتقليد.

الوجه الثاني: حول حذف متعلق الإيمان قضية صناعة البلاغة في المقام تسهيل الأمر على المخالفين والكافرين والشاكين، فينادي لأجل ذلك احتمالا بقوله: (وبشر الذين آمنوا) من غير تقييد الإيمان بالمراحل القصوى، الجامعة للإيمانات العقلية والقلبية والروحية والنفسية، والإيمان بالله وبصفاته وكتبه ورسله، وهكذا سائر الأمور، فحذف المتعلق هنا يدلنا على أن الخروج عن حد الكفر - الذي أعد له النار - إلى حد الإيمان جزاؤه الجنة الأبدية والأزواج المطهرة والنعم النفسانية. فما في كتب جمع من المفسرين: إن المراد هو الإيمان بجميع ما جاء به رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبجميع ما يكون عليه الحق - عز اسمه - وغير ذلك، غير جيد جدا، فالإيجاز من هذه الناحية لازم، لما فيه الترغيب إلى الإسلام بنحو التسهيل، وأن الشريعة سهلة سمحة، كما أن الإطناب من ناحية الجزاء وأن الجنة جزاؤهم، وأنهم (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا...) إلى آخر الآية مؤيدا بالخلود والأبدية، مما يقتضيه أسلوب البلاغة والخطابة.

الوجه الثالث: حول تعقيب الإيمان بالأعمال الصالحة من تلك الوجوه: عدم الإهمال ولو كان الكلام في موقف التسهيل والترغيب، فإنه ربما يكون تأثيره بالعكس، وعلى خلاف جهة المطلوب، مثلا فيما نحن فيه اعتبر الجنة والنعمة والحياة الاجتماعية مع الأزواج والخلود من آثار الإيمان والأعمال الصالحة، ولم يقنع القرآن بذكر الإيمان فقط، لما فيه تضييع الحق وتعمية الأمر عليهم، ضرورة أن مجرد الإيمان لا يكفي، ولذلك لاحظ جانب الواقع، وأخذ بتوجيههم إلى الشرطين: الحكمة النظرية، والحكمة العملية. وأما توهم لزوم جميع الأعمال الصالحة فهو باطل، لأن المحرر في محله: أن الجمع المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم بالوضع، بل أقله الثلاثة، فيكفي الثلاثة، أو يكون تابعا لفهم العرف والعقلاء. وفي إيكال فهم الأعمال الصالحة إلى أنفسهم، إشعار بأن جميع التكاليف الإلهية صالحة ومطابقة للفطرة، ولا يحتاج إلى الإيضاح، وأن جميع الصالحات العقلية مورد الرغبة والطلب، ويتعقبها الجنة الكذائية، فدين الإسلام يدور مدار المصالح العقلية والفطرية، فكل صالح عمله مطلوب وجزاؤه الجنة، وكل ما ليس بصالح غير مطلوب، وليس من الإسلام.

الوجه الرابع: حول خلود اللذات في الجنة إن هذه الآية استوعبت جهات اللذات المتعارفة المحتاج إليها نوعا، كالمسكن والمطعم والمناكح مع التأبيد والتخليد، مشتملة على جهات الحشر مع الأزواج المطهرة، وأن الولدان والخدام يطوفون عليهم، ولا يشق عليهم ولا يتعبهم هذه الأمور كلا، لأن الرزق يجيئهم من قبل الفراشين والخدمة. نعم الآية غير معترضة لخصوصية المسكن وكماله، إلا أن ذكر الكمال الأعلى يستلزم الكمالات المتوسطة والأدنى طبعا، فالجنة المذكورة مفروشة، وفيها زرابي مبثوثة، وفرش مرفوعة، وغير ذلك. ثم إن من الجهات المستلذ بها دوام الأكل وتسلسل الخدم وتعاقب الولدان بإتيان الثمرات والفواكه، وإليه أشير أيضا فيها بقوله: (وأتوا به متشابها)، ويحتمل كون الآية بصدد إشعارهم بأن ما في الجنة ليس يشبه ما في الدنيا إلا في التشابه الموجب لاشتباههم، فيقولون: (هذا الذي رزقنا من قبل)، وهو اشتباه بل (أتوا به متشابها) لما هو الرزق في الدنيا، وفي الآية احتمالات اخر تأتي في محالها إن شاء الله تعالى.

الوجه الخامس: المأمور بأمر (بشر) اختلفوا في المخاطب والمأمور بالبشارة: فقيل هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)، وعن الزمخشري: أنه كل من يصلح للتبشير، فإنه أحسن وأجزل، لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمته وفخامته محقوق بأن يبشر به كل أحد (2)، وفي " البحر ": أن الأول أولى، لأن خصوصيته (صلى الله عليه وآله وسلم) للتبشير أجزل وأفخم. وبالجملة: في تصديه (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك تأكيد وتوثيق وتصديق، ويكون الأمر قطعيا جزميا (3). ولا بأس بكون الأمر هنا لإفادة البشارة من قبل الله تعالى، فلا يكون المبشر إلا هو، وهذا هو الواضح عندي، ولو كان المأمور واقعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعليه أن يبشر بعد ذكر الآية بالبشارات المخصوصة به، واكتفاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقراءة الآية دليل على ما ذكرناه. وعلى هذا يصير الكلام أجزل وأعظم وأفخم وأصدق وأوثق، وإلى البلاغة أقرب وأصوب جدا.

الوجه السادس: تغيير الخطاب من المشركين إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوهم تغيير الأسلوب أن هناك خلاف البلاغة، ضرورة أن مخاطبة الله للناس وللشاكين المرتابين، أهم وأعز من مخاطبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمنين: بأن لهم الجنة، فكان العكس أولى وأليق، كما نجد ذلك في سورة الجمعة، حيث نزلت الآية هكذا: (قل يا أيها الذين هادوا) (4)، ثم نزلت في حق المؤمنين (يا أيها الذين آمنوا) فإن في ذلك نوع تفخيم للمؤمنين، وهنا انعكس الأمر حيث قال الله تعالى: (يا أيها الناس)، وقال تعالى: (و بشر الذين آمنوا). أقول: قد عرفت أن جملة " بشر " ليس إلا بصورة الخطاب، وإلا فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر المؤمنين في عرض واحد في هذه البشارة، وأن المبشر هو الله في الحقيقة. هذا أولا. وثانيا: إن المقام في هذه الآيات مقام التلطيف وإبراز الرحمة والرأفة والتوجه الخاص، لأن المنظور جلب الناس إلى الإيمان بالبرهان، ولا يكون مقام التوبيخ والتثريب، فالأنسب أن يخاطب الناس بالخطاب المشفوع بالجهات الجاذبة إلى الهداية والإذعان بالرسالة. ثالثا: إن في تغيير الأسلوب إخراج الكافرين عن زمرة الناس، وإدخال المؤمنين في الناس، وحصر الناس بهم، وذلك لأن قوله تعالى: (يا أيها الناس) خطاب عام إلى قوله تعالى: (أعدت للكافرين)، فكأنهم ليسوا من الناس، وهكذا من يحذو حذوهم، ويعد من المرتابين غير المؤمنين، فقوله تعالى بعد ذلك (وبشر الذين آمنوا) يكون ظاهرا في أن الناس المدعوين إلى عبادة الله وترك الأنداد وإلى الإيمان بالقرآن إذا آمنوا وقبلوا دعوة الرسول فبشرهم أن لهم جنات... إلى آخره. وفي أخبارنا ما يدل على أن الناس هم المؤمنون فقط، ولعله اصطياد من كلام الله تعالى جمعا بين الصدر والذيل. والله العالم.

الوجه السابع: حول التكرار في القرآن قد تكررت مواقف هذه الآية (جنات تجري من تحتها الأنهار)، وهكذا (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) مشفوعة بتلك الجملة الشريفة، وقد بلغت إلى كثير ربما يزداد مجموعا على المائة، ولذلك التكرار ربما يختلج بالبال: أنه خلاف البلاغة والفصاحة. فهم عند تغيير الأسلوب، كما هو أيضا كثيرا روعي في هذا المقام، فقدم الفعل أو اخر، أو اتي تارة بالفعل المعلوم، واخرى بالمجهول، لا بأس به. أقول: هذا التخيل البارد والتوهم الناشئ من الغفلة، كان في كثير من الآيات المكررة المضامين أو مكررة الألفاظ، ذاهلين عن أن هذا الكتاب نموذج الحياة الاجتماعية وبرنامج السعادة الجامعة الأبدية، فلو كان حديث الحشر والنشر وثمرات القيامة ويوم البعث، من أهم أحاديث الكتاب، ومن أهم المسائل اللازم الإيمان بها والاعتقاد، فهل إلى ترك الاهتمام سبيل، أم يشرع في شريعة العقل والأدب كلا الإصرار في ذلك، ولزوم التكرار ووجوب البدار إلى تركيز الأمر عليها ؟! ولا طريق إلى فهمهم ونيلهم إلا التشبث بالألفاظ الحاكيات، وتكرار الجمل المعربة والتراكيب المختلفة، مع رعاية وجوه البلاغة والفصاحة بنشر هذا الأمر العظيم في الآيات وفي السور المختلفة، ولا سيما أن الإنسان بحسب النوع منجذب إلى هذه النشاطات النفسانية واللذائذ الحيوانية، وأنه يظن أن في اتباع الدين الإسلامي الحنيف ترك جميع اللذائذ والمطاعم والمناكح، فيرشدهم الكتاب أن في ترك هذه اللذة المحدودة المقصورة الممزوجة بالآلام لذائذ مطلقة دائمية سليمة عن كافة الآفات والسيئات. فلاحظ أن فطرة البشر الثانية، فطرة الأكل والحيوانية، وفطرة الشهوة والشيطنة، وفطرة الاستراحة والالتذاذ، فلابد من دعوتهم إلى تلك الفطرة بوجه أعلى وأحسن، حتى يرتكز في قلوبهم هذا الأمر، ويعتقدوا أن في الآخرة أحسن الأشياء المتخيلة في الدنيا، وأن الآخرة دار الحياة الأبدية ودار النعيم الدائمية، وفيها كذا وكذا، حتى يهتدوا إلى الحق ولو بالرتبة الدنيا من الهداية، والمرحلة الأولى من الكمال اللازم. فبالجملة: القرآن ليس كتابا لسرد القصص، حتى لا يتكرر قصته، بل القرآن ناظر إلى خواص القصص وآثارها، وإلى هداية الناس إلى كمالاتهم، فيراعى جوانب اخر غير جانب التأليف والتصنيف المتعارف، فهو كتاب هداية وموعظة ونور، ومعجون جامع فيه المكررات كثيرا في شتى النواحي ومختلف الجوانب، إلا أنها لكل ذلك سرا وتحت كل تكرار نكتة، فلا يجوز قياسه بسائر المقاييس الملحوظة في سائر الرسائل والكتب، وكن على بصيرة من أمرك، تجد إلى حل هذه المشاكل سبلا واضحة.

الوجه الثامن: المناقضة المتوهمة في الآية يستغرب قوله في هذه الآية (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها)، لأن الجملة الشرطية تدل على الملازمة الكلية والاستمرار، وهذا بعيد جدا، فإنه يجوز ذلك مرة أو مرات مختلفة، لا دائمية متسلسلة، ولو انقطع ذلك ولو مرة يلزم الكذب، لأن قضية الملازمة في القضية الشرطية إخبارية، لا إنشائية، نحو قولهم: كلما طلعت الشمس فالنهار موجود، و (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) (5)، فإنه يصح لإمكان أن يأتي عنده مرة أو مرات معدودة، وأما ارتزاقهم في الآخرة فهو دائمي، أي اكلها دائم، فالرزق لا ينقطع، فقولهم: (هذا الذي رزقنا من قبل) لابد وأن لا ينقطع مع أنه غير ممكن تصديقه. أقول: يتوجه عليه أولا: أن مفاد أداة الشرط وكلمة " كلما "، ليس العموم الأفرادي بالوضع، فلو كان ذلك يتفق أحيانا يصح التعبير عنه بنحو القضية المهملة الشرطية. وثانيا: أن في كلمة " رزقوا " مبنيا للمجهول حل هذه المشكلة، لأن ارتزاقهم في الجنة ربما يكون من الخدام والغلمان والملائكة، أو يتصدون بأنفسهم لذلك، وأما إذا كان الارتزاق من ناحية خاصة من تلك النواحي المختلفة (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل). وثالثا: أن في تنكير " رزقا " إشعارا بأن هذه المقالة عقيب الرزق الخاص، لا مطلق الرزق، وهكذا في تنكير " ثمرة ". ورابعا: ليس مقالتهم القول اللفظي، بل هو أعم من الخطور بالبال والمرور بالخيال والعبور عن العقول، والالتزام بذلك ممكن لا بأس به. وخامسا: يمكن أن تكون هذه القضية الشرطية، حاكية عن شأنهم وإمكان ذلك وصالحية القضية وقابلية المورد، دون الفعلية والواقعية الخارجية، فإذا كانوا بحسب القابلية على هذا التلازم يصح التعبير عنه بتلك القضية الشرطية.

الوجه التاسع: المعاني المختلفة لآية من الآيات يخطر بالبال أن في القرآن العزيز جملا يصعب على المراجع فهمها، وعلى المسترشد إدراكها، وعلى المفسر توضيحها، واختلفت فيها آراء السلف والخلف قديما وجديدا، فكيف يكون كتاب هداية وإرشاد ؟! وكيف يرتضي المسلمون باختلاف المعاني للآية الواحدة، وربما تبلغ احتمالاتها إلى أكثر من عشرة أو عشرات، كما أوضحنا ذلك في بعض الآيات الفقهية وأحكام الآيات القرآنية، وهل ذلك إلا مخالفا لأصول البلاغة وحقيقة الفصاحة، بل مخالفا لأصل المقصود وأساس الغاية والنتيجة المطلوبة، وربما تصبح الآية مجملة غير قابلة للفهم العمومي، وهو خلاف ما في القرآن العزيز من أنه تبيان لكل شئ، وكتاب مبين، ونور وضياء. ومن تلك الآيات قوله تعالى: (كلما رزقوا...) إلى قوله تعالى: (وأتوا به متشابها) فقد قالوا فيه بآراء مختلفة ومعان شتى تبلغ من مجموع محتملات الخمسة في الثلاثة المذكورة في كتب الحديث والتفسير - بالنسبة إلى القضية الشرطية وجملة و " اتوا به " - ثمانية عشر احتمالا، وفيها احتمالات اخر لم يقل بها السلف ويرجحه الخلف، فيزداد عليها زيادة، وسيأتي أصول المحتملات في ذيل التفسير والتأويل إن شاء الله تعالى. أقول: أولا: إن تكثير الاحتمالات في تفسير الأشعار والأنثار والكلمات والجملات في الخطب والنسخ، لا يقصر عن الكتاب الإلهي، ولا يختص به الوحي والتنزيل، فلو كان ذلك من البليات فهي عامة، وإذا عمت طابت. وثانيا: اختلاف الأفهام والأذواق وتفاوت الناس في الفكرة والشعور، مما لا يمكن أن ينسد بابه، ولا شبهة في أن ذلك ينتهي إلى كثير من الاختلافات في فهم المراد من الآيات والكلمات. وتوهم: أن ظهور الكلام في المعنى يمنع عن الخلاف، صحيح، إلا أن الناس يختلفون في تشخيص الظهور، ولا يمكن تركيب الجمل من الألفاظ الموجودة العامة، إلا ويأتي فيه تشتت الأنظار وتكثر الأفكار. هذه كتب القوانين البشرية والدساتير الموجودة بين أيدينا، فإن علماء الحقوق وفقهاء المذاهب، يختلفون في فهم المقصود وتشخيص المراد والمطلوب جدا من القانون، الموجود فيها التراكيب من الجمل المتعارفة والألفاظ الحاضرة بين أيدينا، المبتلى بها في كل مساء وصباح. وثالثا: إن عوام الناس والشعوب البسيطة - التي كانوا أول من يلقى إليهم القرآن - يفهمون منه ما يقنعهم ويركنون إليه، ولا يخطر ببالهم خلافه، ولذلك لا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا شاذا حتى يسألوا عن معنى الآية ومقصود الجملة. وأما العلماء والخواص من الأمة، فهم لأجل التدبر والتأمل يقع في أنفسهم الاحتمالات، وتزداد إلى أن يتحيروا في فهم المراد، فيراجعون أئمة الحق ويسألون عن المخصوصين بالخطاب في الدرجة العليا، والواقفين على الأسرار في المرحلة الأولى، فيسأل ابن عباس من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهكذا إلى أن وصلت النوبة إلى المفسرين من الشيعة السائلين أهل الذكر وأئمتنا المعصومين عليهم صلوات المصلين، وهذا لا يضر بفصاحة الكتاب وبلاغة الخطاب إن لم يكن مؤيدا ومؤكدا. ورابعا: إن كل طائفة وإن يقع في أنفسهم الاحتمالات الكثيرة البدوية، والوجوه المختلفة المتعددة، إلا أن كل عالم من كل فن يتخذ أحد الوجوه والمحتملات معنى للآية ويهتدي بها، فلا تكون الآية إلا تبيانا، إلا أن ذلك يختلف باختلاف القوى والاستعدادات الموجودة، وربما تكون الاحتمالات كلها قابلة للجمع حسب ما مر منا تحقيقه فيما سلف، ويأتي توضيحه المشفوع بالبراهين - إن شاء الله تعالى - في محله فلا يضر ذلك بالهداية والتبيانية والبلاغة واقعا. وقد تحرر منا في موضعه: أن من عجائب هذا المعجون الملكوتي، ومن غرائب هذه الموسوعة النازلة من العالم اللاهوتي، إمكان تحمله للاحتمالات الكثيرة على وجه يصدقه الأذواق والآراء المتناقضة. وربما يشير إلى هذه الغريبة: ما في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) من النهي عن الاستدلال بالكتاب، معللا: بأنه ذو وجوه يصعب على غير أهله أن يرغم أنف عدوه، ولا يهون على الباحث الفراغ عن المحاضرة بالوجه الأحسن (6)، وكل ذلك من مؤكدات عظمة الكتاب، ومن دلائل فخامته وإعجازه، لأنه مع ذلك كله كتاب واف شاف كاف جامع ومانع، يهدي إلى سبل السلام من اتبع رضوان الله، ويخرجه من ظلمات النور وحجب الضياء إلى أنوار وأشعة لا تعتريها ظلمة ولا يشوبها الكدورة. اللهم ارزقنا بحقهم (عليهم السلام) من تلك الأنوار الخاصة، ومن أبصار القلوب الساطعة. آمين يا رب العالمين.

الوجه العاشر: تطابق اللفظ والمعنى من وجوه البلاغة أن تكون الجمل متطابقة مع المعنى في الخصوصيات، مثلا: إن جريان الأنهار والمياه، والرزق من الثمرات والمحاورة، والإتيان لهم بالمتشابهات كرارا وبعضها بعد بعض، حيث تكون متدرجة ولها غدو ورواح، فقد أتى بها بالجمل الفعلية الاستقبالية، لدلالتها على التدريج، وأما الأزواج والخلود في الجنات فهي من الأمور الباقيات، ولا يطرأ عليها الزوال والاضمحلال، ولذلك أتى بها بالجمل الاسمية.

الوجه الحادي عشر: شرائط البقاء في الجنة ومن تلك الوجوه كون الكلام قابلا للقبض والبسط، من غير أن يختل أسلوب المحاورة وأساس التراكيب اللفظية، مثلا: هذه الآية مع صراحتها البدوية في أن المؤمنين العاملين للصالحات، يتنعمون في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ويلتذون بالأثمار والأزواج المطهرة، يمكن المناقشة في ذلك: بأن مجرد كون المؤمنين لهم الجنات الكذائية، لا يدل على تنعمهم فيها بما يرد عليهم، وبما فيها من النعم الطعمية وغيرها، لسكوت الآية عنها. ولذلك تندفع شبهة القائلين: بأن الكفر بعد الإيمان لا يضر، مستدلين بالآية، غافلين عن أن هذه الآية تفيد مالكيتهم للجنة الكذائية واستحقاقهم للجنات بخصوصياتها، ولكن لا يصل إليهم حقهم، لأنهم محجورون عنها ومحجوزون لمانع وهو الكفر؟وهكذا الشبهة الأخرى وهو: أن مجرد الإيمان بالمبدأ والعمل يكفي ولو لم يعتقدوا بالآخرة والمعاد. نعم الاعتقاد بالآخرة لازم عقلا وشرعا، ولكن النعيم والخلود فيها حق المعتقدين بالمبدأ والعاملين بالصالحات والأعمال الحسنة. وأنت خبير بأن مقتضى الجمع بين الآيات هو أن من لا يعتقد بالآخرة لا ينجح، ومع ذلك لأمنع من كونه لأجل الإيمان والعمل الصالح مستحقا للثواب من وجه، وممنوعا ومحجورا من وجه آخر، كما هو كذلك بالنسبة إلى المالكين المحتجزين والممنوعة أموالهم في هذه النشأة، وفي الجزائيات والحقوق، فتدبر جيدا.

الوجه الثاني عشر: حول الاهتمام بهداية الأنام من أحسن وجوه البلاغة والمحسنات الخطابية، أن يتوجه المخاطبون ويعلموا بأن المتكلم متمحض في هدايتهم وإرشادهم، ويسد عليهم جميع الأبواب نظرا لنجاحهم وبلوغهم إلى الكمال الأبدي والسعادة الدائمية، فإن في ذلك جلبا لهم وخدمة وإعلاما بتهيئه أن يهديهم إلى السبيل السوي والصراط المستقيم، وإذا كان المخاطب والخطيب واضح الاعتقاد في مرامه، وظاهر الأمر في طلبه يجتذب الناس نحو المقصود والمطلوب، وفي هذه الآية الكريمة الشريفة أعلن: أن الله في صراط هذا الأمر لا يستحيي عن أمثال هذه الأمثال، وعن ذكر هذه الأمور والحيوانات والموجودات، لأن النظر إلى المعنى الأهم والغاية القصوى الأتم. فالبعوضة ولو كانت أصغر حيوان، أو ما فوقها كالبال البحري والفيل البري، على حد سواء في هذا الطريق ومن تلك الوجهة والنظرة، فالمنظور هو أن يؤمن الناس، وقد فرع عليه بقوله: (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق) وليس بباطل (وأما الذين كفروا فيقولون) كذا. فما تخيله جماعة من اليهود معترضين على القرآن العزيز، وتوهموا: أن الإتيان بمثل هذه الألفاظ الحاكية عن تلك الأشياء الرخيصة الرذيلة، غير لائق بجنابه الإلهي، فالقرآن من عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا من قبله تعالى. في غاية الوهن والسخافة، وناشئ عن قلة التدبر فيما هو المنظور في هذا الميدان وتلك الساحة الجميلة. وبالجملة: تخيل أن ذكر هذه الصغائر والأصاغر في القرآن، خلاف فصاحة المفرد، كذكر العنكبوت والذباب والنحل والنمل، خال عن التحصيل. وسيمر عليك في البحوث الفلسفية: أن الأشياء كلها بالقياس إليه تعالى على حد سواء وإنما الاختلاف بالنسبة إلى أنفسهم.

الوجه الثالث عشر: انتساب الأمور غير المطلوبة إليه تعالى من المناقشات على البلاغة اشتمال الكلام على ما لا يستحسنه العقلاء ابتداء، ويتنفر عنه الطباع بدوا، مثلا إن قوله تعالى (إن الله لا يستحيي) ليس على ما ينبغي، لأن الحياء من الأوصاف الكمالية المطلوبة، ولا يعد الإنسان نقيضه - وهي القحة - جميلة لجنابه الإلهي، وللحضرة الأحدية قطعا، فالآية من هذه الناحية، تحتاج إلى تكلف، فلو قيل: إن الله لا يمتنع أن يضرب، أو لا يأبى أن يضرب مثلا، لكان خاليا عن هذه المشكلة. قلت: نعم إلا أن الجهات الخارجية، ربما تستلزم جواز ذلك، نظرا إلى أمر أهم، وهو هداية البشر، وأنه تعالى في مقام تصديه للهداية، وفي موقف قيامه لإخراجهم من الظلمات إلى النور، يتحمل هذه الأمور، وهي قليلة في جنب ذلك الكثير المهتم به جدا. ثم إن من الأوصاف ما لا ينبغي للممكن دون الواجب كالاستكبار والكبريائية، وربما يكون منها الاستحياء والحياء. هذا، مع أن عدم الاستحياء مضافا إلى الأمر الخاص، لا ينافي ثبوت الحياء بالنسبة إلى الأمور الاخر. وفي نفسي ورد في الحديث: " إن الله حيي يحب العبد الحيي "، وهذا لا ينافي أن لا يستحيي من ضرب المثل الكذائي، وفي الحديث: " لاحياء في الدين " (7)، فالحياء بين ما هو مطلوب وغير مطلوب. نعم يتبادر بدوا من هذه الكلمة ومن نفيها عنه تعالى شئ في النفس، فيريبك منه إلا أنه بالمراجعة ثانيا يجد تحكيم المباني الإسلامية تحت ظل هذه الجمل والكلمات، وأنه لابد وأن يرفض هذه التخيلات في قبال المسائل العالية، وسيمر عليك في البحوث الأخلاقية ما ينفعك للمقام إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع عشر: لغوية ضرب الأمثال للكفار وغرابة إقرارهم بكثرة المؤمنين من وجوه البلاغة كون الخطابة جامعة لجهات الهداية، ومانعة عن زلل الغواية، وصريح الآية الكريمة الشريفة: أن الناس صنفان في قبال الأمثال، فمنهم من يقول: إنه الحق، ومنهم من يقول: (ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا)، فإذا كانت الأمثال المضروبة في ذلك الشأن من شؤون التأثير فالترك أولى. أقول: وهنا مشكلة أخرى وهي: أن الذين كفروا كيف يقولون يهدي به كثيرا، ويقرون بذلك وبهدايتهم بالقرآن، فإن الإقرار بالهداية والاعتراف بالنورانية، يناقض بقاءهم على الكفر والإلحاد؟وكيف يذعنون بأن القرآن كتاب الهداية في الجملة، ويوجهون الاعتراض على الأمثال فقط، دون سائر الجهات الموجودة فيه؟بل قوله تعالى: (ماذا أراد الله بهذا مثلا) يشهد على أنهم يعتقدون أنه من قبل الله، وبإرادة الله تعالى، وعلى هذا كيف تكون حالهم كفرا وإيمانا؟قلت: تنحل المشكلة الأولى: بأن هذه القسمة مقول قول الكافرين، وهو غير صحيح، ومقالتهم باطلة، فلا يضل بالأمثال أحد إلا حسب خيالهم، ولا يلزم أن يكون مقول قول الكافرين صدقا وعدلا إذا كان محكيا في القرآن، كما هو واضح ظاهر. وتنحل المشكلة الثانية: أولا: بأن مقالة الكفار تصح على معتقد المؤمنين، وكأنهم يخاطبونهم: بأن هذه الأمثال لا تكون صالحة، يهتدي بها كثير ويضل بها كثير على حسب زعمكم، ولذلك أجيبوا: بأنه ما يضل بها إلا الفاسقون. وثانيا: يجوز أن يكون المراد من الذين كفروا المرتدين، فإنهم بعد ما آمنوا وسمعوا الأمثال ارتدوا، وقالوا وكانوا يقولون: ما لهذا الكتاب يضل كثيرا ويهدي كثيرا بالقياس إلى ظروف إيمانهم وإذعانهم، ولأجل ذلك نسبوا الأمثال إلى الله تعالى أيضا، وأرادوا من الإضلال هو الكفر بعد الإيمان، ولذلك لا يناقضه قوله تعالى: (وما يضل به إلا الفاسقين)، لأنهم ما كانوا مؤمنين بحسب الحقيقة، بل كانوا فاسقين وكافرين، وغير معتقدين واقعا وجدا، وإلا تلزم المناقضة والمشكلة الأخرى، وهي أنه إذا كان يضل به الفاسقين، فيلزم صدق تقسيمهم وقولهم: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا. وثالثا: يجوز أن يكون المراد من الإضلال والهداية في كلام الكافرين - بمناسبة الحكم والموضوع - هو الإضلال إلى الإسلام والهداية إلى ضد الإسلام، فيعترضون بأن هذا الكتاب فيه المناقضة، لأنه يشتمل على ما يضل به كثيرا، فيدخلون في الإسلام، ويهدي به كثيرا، فيخرجون عنه، (وما يضل به إلا الفاسقين) جواب عن هذه النسبة والتخيل الباطل والوهم العاطل. ورابعا: أن من المحتمل أن لا يكون قوله تعالى: (يضل به كثيرا) مقول قول الكافرين، وقد حذف حرف العطف لتعارفه في النظم والنثر، إلا أنه خلاف الأصل.

الوجه الخامس عشر: سد باب الفرار عن الحق من وجوه تحسين الكلام والخطاب سد باب الفرار عن الحق ولو كان بوجه غير برهاني، فإن المقصود الأقصى التحاق الناس بالحقيقة، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، فإذا قيل: (وما يضل به إلا الفاسقين)، وكان الفسق أمرا مرغوبا عنه عند العقول السليمة، وكان من الصفات المذمومة التي تنفر عنها الطباع، فطبعا ينسلك الناس في زمرة المؤمنين فرارا عن كونهم فاسقين، لأن عكس نقيض قوله تعالى: (وما يضل به إلا الفاسقين) هو أن من لا يكون فاسقا لا يضل به، ومن كان فاسقا يضل به. ومن هنا يمكن حل المشكلة الظاهرة وهو أن الفاسق ضال فلا يقبل الضلال، فيجوز أن يراد من الإضلال عدم الهداية، أو يراد منه المرتبة الثانية من الضلالة، أو يراد من الفاسق مرتكب الأفعال السيئة، فإنه يوجب الضلالة الاعتقادية، كما قال الله: (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله) (8).

الوجه السادس عشر: التوبيخ بالعناوين المبهمة من اللطائف في الخطاب تحكيم المباني وتوجيه الأمة، وتعيير الفاسدين بالعناوين العامة الكلية المتقلبة في الصدق، دون العناوين الخاصة الشخصية الغير القابلة للفرار عن الاندراج تحتها، وعن الصدق والانطباق القهري، مثلا إذا أخذ عنوان اليهود والنصارى أو عنوان بني فلان وفلان، فإنه لا يمكن لتلك الطائفة الفرار عنها، فإذا أخذه القرآن طريق تعييرهم وتوبيخهم، فربما ينتهي الأمر إلى العناد واللجاج، وإلى الضلالة والغواية، بخلاف العناوين العامة، كالكافر والفاسق والمفسد وناقض العهد وغير ذلك، ولذلك ترى في هذه الآيات أنها مع كونها ناظرة حسب بادي النظر إلى أهل الكتاب، إلا أنه لم يذكروا بعنوانهم الخاص هنا، وإن ذكروا في بعض الأحيان لانقطاع الأمر بالنسبة إليهم أحيانا، فقوله تعالى: (الذين ينقضون...) إلى آخره، ظاهر في قوم كانوا معتقدين ومتعاهدين حسب اعتقاداتهم الدينية لوجود كتب عندهم تشهد بظهور النبي الخاتم، ولوجود الدلائل الخاصة لديهم الواصلة إليهم من أسلافهم والأوصياء السابقين، وأنهم كانوا متعهدين بالأمر الكلي والأصل العنواني، إلا أن الجهات الخارجية والأوصاف الشخصية والنعوت اللا إنسانية، تلجئهم إلى خلاف ذلك ونقض عهدهم وترك العمل بما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، ولا يقبلون الحق المستدل عليه بالآيات القرآنية، ولا بما عندهم من الكتب الاخر، كالتوراة والإنجيل وغيرهما. فبالجملة: في هذه الطريقة المتخذة في هذه الآيات، نهاية الدقة والظرافة في دعوة أهل الكتاب، وأنهم هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه بالأمور السالفة وبالآيات السابقة وبالعهد القديم في صلب أبيهم آدم، فلاوجه لاختلاف المفسرين في المقام من تخيلهم الاختلاف والتشتت، بل الكل مورد النظر، لأن الكل يؤيد بعضه بعضا، وأنهم هم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فيخسرون.

الوجه السابع عشر: الإشارة إلى نكت ولطائف إفرادية تحتوي عليها الآيات الثلاث:

1 - في تعريف " الصالحات " وتنكير " الجنات " وتعريف " الأنهار " وتنكير " أزواج "، مع كونها من المجموع - مضافا إلى صنعة اللف والنشر الخاص - إشعارا أحيانا بأن الأعمال الصالحة الخاصة لا الصالحة بحسب المشتهيات النفسانية دخيلة في أن يكون لهم جنات، فإن هناك ليست الجنات محتاجة إلى التعريف، بل هناك دار العرفان والمعرفة، وتعريف الأنهار لإحداث الارتباط بين تلك الجنات وهذه الأنهار، وهكذا تنكير الأزواج.

2 - تنكير " ثمرة " و " رزقا " لاقتضاء المقام، لأن المنظور في الكلام أمر آخر، فلا يستدعي البحث تعريفهما.

3 - في توصيف الأزواج بالمطهرة وحذف جهة التطهير، إشعار بأن الطهارة مطلقة، وليست مخصوصة بالطهارة من الذنوب أو الأدناس والأرجاس، أو الصفات النسائية والإنسانية والحيوانية، لأن الدار دار الطهر والطاهرات. وتوهم: أن " مطهرة " مشعرة بنجاستهم ولآمتهم الجسمية والروحية بدوا، ثم طهرن عنهما (9) في غير محله، بل هي إشارة أحيانا إلى أن الطهارة عرضية لهم، وليست ذاتية.

4 - في قوله: (هذا الذي) استعارة لشدة المشابهة بين ما رأوه قبل ذلك، وبين ما يرونه في الجنات، بناء على بعض التفاسير، كما لا يخفى. وحذف متعلق كلمة " قبل " ربما كان لعدم الحاجة إلى ذكره بعد وضوح المرام عند أهله، فإن المؤمنين يرزقون ما في الجنة من قبل، ولا يشعرون بذلك، ولا يعلمون حقيقة الأمر، فتدبر.

5 - تنكير " مثلا " ثم تأكيد إبهام هذه النكرة ب? " ما " الإبهامية، ثم تنكير " بعوضة "، وتأكيد ذلك الإبهام بذلك كله، فيه اللطف وإشعار بأن موهونية الأمر غايتها، وصغارة القصة نهايتها، لا يوجب صرف التخطيط والتحويل عن الخريطة المتطورة، وهي هداية البشر.

6 - نسبة العلم إلى الذين آمنوا، ونسبة القول إلى الذين كفروا، بمناسبة السنخية الموجودة بين الإيمان والعلم، والكفر والقول، فإن القول المقابل بالعلم، هو القول الجزاف والتفوه المحض بلا عمل وعلم.

7 - توجيه الأمة الإسلامية إلى الربوبية الأحدية في هذه المعركة بقوله تعالى: (أنه الحق من ربهم) المتكفل بخروجهم من الظلمات المختلف قشورها إلى الأنوار المتراكم ضياؤها، لطف جديد آخر، وبلاغة حديثة من وجوه البلاغة الإفرادية في هذه الآيات الشريفة.

8 - نسبة النقض إلى العهد لأجل الاستعارة والادعاء المركوز في البين، وهو أن العهد أمر مبرم ومشد، ويقبل الانفصام والتجزي والانقسام، ويقبل الكسر، وكأنه شئ خارجي واقعي لابد من المحافظة عليه من الخلل والدثور، وفي الإتيان بالفعل المضارع إشعار بأن هذه الحالات - وهو النقض والقطع والفساد - من الحالات الاكتسابية، الحاصلة من سوء السريرة والصنائع وسوء المعاشرة والأعمال، وأنهم دأبهم وديدنهم ذلك.

9 - في عدهم من الخاسرين الذين خسروا في تجارتهم ومعاملتهم، بتضييع رؤوس أموالهم وفطرتهم وسجيتهم وإبطال وجودهم، في قبال ما اكتسبوه من العصيان والإثم، إعلام ببركات الإسلام وربح كسبهم باللحوق واللصوق بالمسلمين، والكفر والإلحاد وخسارتهم.


1- البحر المحيط 1: 110.

2- راجع الكشاف 1: 104.

3- راجع البحر المحيط 1: 110.

4- الجمعة (62): 6.

5- آل عمران (3): 37.

6- نهج البلاغة، صبحي الصالح: 465، رسالة 77.

7- مسند أحمد 5: 438، سنن ابن ماجة 2: 1271 / 3865، المستدرك، الحاكم النيسابوري 1: 497 / 33.

8- الروم (30) 10.

9- راجع روح المعاني 1: 205.