الإعراب وبعض المسائل النحوية

قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا) ليس معطوفا بحسب اللفظ حتى يدخل عليه بالعطف عامل. نعم لا بأس بكونه معطوفا بحسب المعنى، فما قد يستدل بهذه الآية على أن عطف الجملة غير الخبرية على الخبرية كعطف (بشر) على (أعدت للكافرين) (1)، أو يستدل بها على أن اتفاق المعاني ليس شرطا في العطف، وفاقا لسيبويه وأبي البقاء، وخلافا لجماعة من النحويين (2)، كله من التوهم الباطل. ومن الغريب: أن الزمخشري وأبا البقاء أجازا عطفه على (فاتقوا النار)، ليكون عطف أمر على أمر (3)، مع أن قضية العطف غير ممكن التزامهم به، لما لا يدخل على هذه الجملة ما يدخل على المعطوف عليها، فلا تخلط، فالواو للاستئناف، وما في " البحر " أنه حرف عطف - وفاقا لسيبويه (4) - غير صحيح، كما أشير إليه، وهي معطوفة عندهما على ما قبلها وإن لم تتفق الجمل. قوله تعالى: (أن لهم جنات) مفعول ثان، وجاز حذف الجار، لأنه من القياس المطرد، كما قال ابن مالك: نقلا وفي أن وأن يطرد * مع أمن لبس... إلى آخره (5) كما في المقام وأما اختلافهم في موضع هذا المفعول، هل هو جر أم هو نصب؟فذهب الخليل والكسائي إلى الأول، وسيبويه والفراء إلى الثاني (6)، والحق جواز العطف على الحالين، لإمكان الأخذ بالاعتبارين. قوله تعالى: (من تحتها الأنهار)، فقيل: " من " زائدة، وقيل: بمعنى " في "، وقيل - وهو المعروف -: لابتداء الغاية ومتعلقة ب? " تجري " (7). والاستدلال بالآية على جواز الزيادة لوجود أشباه الآية بلا " من "، فتكون زائدة، غير تام، لأن حذفه في الآية الأخرى لا يدل على زيادته في هذه الآية وتمامية المعنى بدون " من " لا يستدعي زيادتها أيضا وإلا تلزم زيادة كثير من الحروف، بل والكلمات، كما لا يخفى. قوله تعالى: (كلما رزقوا منها) يجوز أن يكون عطفا محذوفا حرفه، أي وبشرهم أنهم كلما رزقوا، ويجوز أن تكون بلا موضع، فتكون مستأنفة، وعلى الأول قيل: هي صفة للجنات، وقيل: محله الرفع بتقدير مبتدأ محذوف (8). والأظهر هو أنه صفة الجنات، ويؤيد ذلك أنها نكرة، وعن أبي البقاء: أنها حال للجنات، أو من " الذين آمنوا " (9)، ولا يخفى ما فيه. قوله تعالى: (من ثمرة رزقا)، قيل: لابتداء الغاية، ك? " من " في قوله تعالى: (كلما رزقوا منها)، لأنه بدل من " من " الأولى، والكل متعلق ب? " رزقوا " على جهة بدل الاشتمال، وهذه الآية من الآيات المطولات بحوثها الإعرابية، ولا سيما في " الكشاف " (10). وفي " البحر " منع احتمال كون " من " هنا للبيان ولو كانت من أقسامها (11)، ويحتمل كون " من " الأولى بمعنى " في "، أي كلما رزقوا في جنات من ثمرة، وهذا قوي جدا وإن لم يقل به أحد، ولعل الإتيان ب? " من " هنا لاقترانه ب? " من " قبله وبعده (من تحتها الأنهار... منها من ثمرة)، فهذه الثلاثة مختلفة الأحكام بحسب الأدب. وفي " رزقا " وجهان: مفعول مطلق، فيكون مصدرا بمعناه، أو بمعنى المفعول، أي المرزوق، فيكون حالا، ويحتمل أن يكون مصدرا هنا وإذا قيل: (هذا الذي رزقنا)، فيراد منه المرزوق، فيكون نوع استخدام، فما في " البحر " (12) غير جيد. قوله تعالى: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)، قيل: هو العامل في " كلما " السابقة عليه، و " هذا الذي " مبتدأ معمول للقول، والجملة في موضع المفعول، وهناك محذوف، وهو كلمة " مثل " (13)، ولا يخفى أن مقول القول جملة، فلا يكون مفعولا به إلا بالغلط، فما في " البحر " من قلة الباع في مسائل اخر. ثم إن هنا مشكلة: وهي أن المشار إليه هو " الذي " في قوله تعالى: (هذا الذي)، فيلزم اتحاد المبتدأ والخبر، فتسقط الجملة، ولو كان المشار إليه " ثمرة " فلابد وأن تؤنث لتأخره، وتوهم أنه باعتبار خبره المذكر، غير جائز، لأنه في غير المقام، لإمكان الإتيان ب? " التي " وهي للتأنيث. والذي به تنحل المشكلة ما تحرر منا في محله من: أن التاء ليست للتأنيث إلا في مواضع خاصة، وقيل: هي ليست له مطلقا، والتفصيل في محله. وعلى كل تقدير: التاء هنا بيان للفرد والوحدة، فإن الثمر شبه الجمع، والثمرة مفردة، كالتمر والتمرة، ولو رجع الإشارة إلى الرزق فلا مشكلة، ولكنه بعيد، لأن الظاهر رجوعه إلى ما هو الأصل في الكلام، دون ما يعد زائدا حالا كان أو مفعولا مطلقا، فما في " البحر " هنا (14) لا يخلو عن خبطات، فراجع. قوله تعالى: (وأتوا به متشابها) يحتمل الاستئناف والحال، ويحتمل العطف، أي قالوا: واتوا به متشابها، ويجوز رجوع الضمير إلى الرزق بمعنى المرزوق وإلى الموصول، أي اتوا بالذي رزقنا، وإلى الثمرة، لما عرفت أنها مذكر. و " اتوا " جمع مجهول من أتى يأتي، وقد تعدى بحرف الجر، والضمير راجع، إلى الفاعل المحذوف، وهو الولدان. وهنا إشكال: وهو أن " أتى، يأتي " فعل لازم، والمجهول لا يجوز منه إلا بالجار، وإذا تعدى بالجار فلا يكون الاعتبار في الجمع إلا بالضمير، فيقال: يسر بهم وغضب عليهم، ولا يقال: يسروا، ولو كانت " اتوا " من الإيتاء فلابد من قراءة " أوتوا ". وظاهر المفسرين وصريح الزمخشري (15) وابن حيان (16): أن " اتوا " جمع، وهو من " أتى يأتي "، وضمير الجمع راجع إلى الخدام والولدان، وضمير به إلى الرزق، فيكون المشكل مجهولية الفعل اللازم، فإنه لا يأتي منه المجهول، فتدبر. وبالجملة: يكون المعنى حسب الظاهر هكذا: وأتى للمؤمنين بالرزق، وجواز حذف حرف الجر الداخل على نائب الفاعل، لا يرجع إلى الإتيان به جمعا، فتأمل. وقوله تعالى: (أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)، تكون الجملة في محل نصب مفعولا لقوله تعالى: (لا يستحيي)، و " مثلا " مفعول ل? " يضرب " و " ما " بدل أو عطف بيان ل? " مثلا "، أو صفة ل? " مثلا "، وزيدت شياعا، ويحتمل أن يكون " بعوضة " مفعولا ل? " يضرب " و " مثلا " عطف بيان أو بدلا قدم عليه، أو يكون ل? " يضرب " مفعولين، وهذا غير صحيح ولو احتمله ابن حيان (17) وفصله الطبرسي (18) بما لا يرجع إلى محصل، لأن قياسه ببعض الآيات، وتفسير " ضرب " ب? " جعل "، كله غير تام، فراجع. والأظهر: أن " مثلا " مفعول به و " ما " في حكم تأكيد للتنوين في " مثلا "، فيؤكد النكارة و " بعوضة " عطف بيان لا بدل، لأن الثاني أعرف من الأول، والأول في حكم الكناية، وقوله تعالى: (فما) عطف على " مثلا "، أي يضرب ما فوق البعوضة مثلا، واحتمال كون الجملة هكذا: أي يضرب بعوضة فما فوقها مثلا، فيكون " مثلا " حالا أو تمييزا، غير بعيد في ذاته. وحكي عن الفراء: أن " ما " مرتبط بكلمة " بعوضة "، أي يضرب مثلا ما هو بين بعوضة إلى ما فوقها (19). وفيه: أنه تفسير لا تركيب وإعراب، لأنه - حينئذ - يبقى " ما " جملة ناقصة، وقد حذف خبره أو مبتدؤه، وهو خلاف الأصل. قوله تعالى: (ماذا أراد الله بهذا مثلا) " ماذا " كلمة واحدة منصوبة ب? " أراد "، ويكون للاستفهام، وهو خلاف التحقيق، لعدم الوضع الخاص لهما معا، أو " ما " استفهام، وهو مبتدأ و " ذا " موصول، أي ما الذي أراد الله، فيكون " الذي " خبر، والعائد محذوف، وما في " النهر " من تجويز الاحتمال الأول (20)، غير سديد جدا، وتصديق الطبرسي له (21) في غير محله، لما عرفت. قوله تعالى: (إلا الفاسقين) من الاستثناء المفرغ المتصل. قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله)، قيل: تكون الجملة في محل نصب، لكونها صفة الفاسقين (22). ويؤيد ذلك ما جعلناه تتمة الآية السابقة عنوانا للتفسير وتبعا لبعض الأعيان من المفسرين في نفس شئ يأتي في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (أن يوصل) من أقسام " أن " التفسيرية البيانية، فيكون بيان ل? " ما " أو لضمير به الراجع إلى " ما "، والأول متعين، لأن الضمير لا معنى له إلا الرجوع إلى المرجع، فالمرجع متبين بهذه الجملة، وقيل: " أن يوصل " مفعول لأجله، أي كراهة أن يوصل، مخافة أن يوصل، لئلا يوصل (23)، ولا يخلو عن التأسف. ومن هذا القبيل توهم كونه خبرا لمبتدأ محذوف، أي هو أن يوصل (24)، ويحتمل أن يكون جملة " أن يوصل " مفعولا به ل? " يقطعون " و (ما أمر الله به) صفة له، أي يقطعون الإيصال الذي أمر الله به. وهذا الاحتمال قريب في ذاته، إلا أنه بعيد عن الإعراب حسب الأساليب المتعارفة. قوله تعالى: (أولئك هم الخاسرون) خبر " الذين "، وأما احتمال كون " الذين " منصوبا على الذم، أو مرفوعا على حذف المبتدأ (25)، فيستلزم حذف حرف العطف، لأنه يأبى الكلام عن كونه خبرا بعد خبر، فيلزم أن تصبح الجملة: وأولئك هم الخاسرون.

تنبيه

(عملوا الصالحات) فعل ومفعول به على الظاهر المصرح به. وفيه مناقشة واضحة، فإن الصالحات ليس طرف الفعل والعمل، بل هو وصف العمل، ولا يعقل أن يكون مفعولا به، كما قيل بذلك في (خلق السماوات)، وقالوا: إن السماوات صفة لمفعول مطلق محذوف. والحق: أنه خلاف التحقيق، والمسألة تنحل على القول بأن الماهيات طرف الفعل والعمل في الاعتبار، ويشهد هذا التركيب على أصالة الوجود جعلا.


1- مغني اللبيب: 249، وراجع البحر المحيط 1: 110.

2- البحر المحيط 1: 110.

3- الكشاف 1: 104، البحر المحيط 1: 110.

4- راجع البحر المحيط 1: 111.

5- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث تعدي الفعل ولزومه، البيت 7.

6- راجع البحر المحيط 1: 112.

7- راجع نفس المصدر.

8- راجع نفس المصدر 1: 113.

9- نفس المصدر.

10- راجع الكشاف 1: 104 - 111.

11- راجع البحر المحيط 1: 114.

12- نفس المصدر.

13- نفس المصدر.

14- نفس المصدر.

15- راجع الكشاف 1: 109.

16- راجع البحر المحيط 1: 115.

17- راجع البحر المحيط 1: 122.

18- راجع مجمع البيان 1: 66.

19- مجمع البيان 1: 66، البحر المحيط 1: 122.

20- النهر الماد من البحر، ضمن البحر المحيط، أبو حيان 1: 121.

21- راجع مجمع البيان 1: 67.

22- راجع الجامع لأحكام القرآن 1: 246.

23- البحر المحيط 1: 128.

24- راجع نفس المصدر.

25- البحر المحيط 1: 127.