مسائل اللغة والصرف
الآيات الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون والسابعة والعشرون من سورة البقرة قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
المسألة الأولى: حول كلمة " بشر " بشره به: أخبره ففرح، البشارة - بالكسر - الخبر يؤثر في البشرة تغيرا، وهذا يكون للحزن أيضا، لكن غلب استعماله فيما يفرح. انتهى ما في " الأقرب " (1). وفي الراغب: أن بشرته عام، وأبشرته نحو أحمدته، وبشرته على التكثير، وقال تعالى: (فبشره بمغفرة) (2)، وقال: (فبشرهم بعذاب أليم) (3)، (بشر المنافقين بأن لهم) (4)، (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) (5)، فاستعارة (6). والذي يظهر: أن أصل البشارة ليس فيه الفرح بحسب اللغة، فلا مجاز ولا استعارة في الآية وأمثالها، لأن غلبة استعمالها في الأنباء المفرحة، لا تكون إلى حد الحقيقة فيها. نعم في عصرنا ومصرنا لا يبعد ذلك، وفي الحديث: " أمرنا أن نبشر الشوارب بشرا " (7)، أي نخفيها ليبين ظاهر الجلد، ففي عصر القرآن ومصره لا يثبت المجاز، ويكون المعنى هو الخبر المؤثر في العروق، الموجب لتغير الوجه وبشرة الجلد. نعم إن الهيئة لم يعهد تعديها إلى مفعولين إلا مع الواسطة، كما رأيت في الآيات السابقة ودريت من اللغة. ومما يؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا) (8)، (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا) (9). ويؤيد ما ذكرنا إطلاق البشر على الإنسان باعتبار ظهور بشرته، في قبال الحيوانات المختلفة نوعا بالشعر والصوف وغيرهما.
المسألة الثانية: حول كلمة " جنات " الجنات جمع جنة، وهي الحديقة ذات الشجر، وقيل: ذات النخل، وتجمع على جنان. وفي " الأقرب ": الجنة - عند العرب - النخل الطوال والفردوس الأرضي والسماوي (10). وفي " مفردات الراغب ": أصل الجن ستر الشئ عن الحاسة، وقال: وسميت الجنة إما تشبيها بالجنة في الأرض وإن كان بينهما بون، وإما لستره نعمها عنا (11). ولا يخفى ما فيه من الغرابة، فإن جنة الأرض سميت جنة لاستتار أرضها بأشجارها أو لاستتار قسمة من أشجارها بقسمة منها، ولذلك لا يبعد أن تكون الجنة نفس الأشجار، من غير دخالة الأرض في ذلك، ولذلك يقال: بشرهم أن لهم جنات، ولا يقال: ما في الجنات، فما في " مجمع البيان " (12) أيضا لا يخلو عن تأسف، مع أن الجنة لو كانت الحديقة بشجرها وأرضها، لا تحتاج إلى التقدير في الآية، كما هو الظاهر.
المسألة الثالثة: حول كلمة " متشابها " " التشابه " الشبيه بقول مطلق حتى يورث الالتباس وسيمر عليك - إن شاء الله - تحقيق حول المسألة في ذيل قوله تعالى: (وأخر متشابهات) (13).
المسألة الرابعة: حول كلمة " أزواج " أزواج جمع زوج، وهو البعل، والزوجة أيضا، وكل واحد معه آخر من جنسه. وقال ابن الأنباري: والعامة تخطئ فتظن أن الزوج اثنان، وليس ذلك من مذهب العرب إذ كانوا لا يتكلمون بالزوج موحدا في مثل قولهم: زوج حمام، وإنما يقولون: زوجان من حمام وزوجان من خفاف، ولا يقولون للواحد من الطير زوج، بل للذكر فرد، وللأنثى فردة (14). وفي الراغب: الزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات (15). وربما تفتح الواو تبعا للأصل. ويؤيد ما قال ابن الأنباري: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) (16) فإن احتمال كون المقصود ثمانية أشخاص من الذكر والأنثى غير صحيح. فما اشتهر: أن الزوجية من صفات الأعداد القابلة للقسمة إلى المتساويين، قبال الفردية، غير سديد. فالزوج يطلق على الواحد حين الاقتران بقرينة التجانس واقعا أو جعلا. وعلى هذا يطلق الزوج على الذكر والأنثى، وعلى ذوي العقول وغيرها، ومنه (وأنبتت من كل زوج بهيج) (17).
المسألة الخامسة: حول كلمة " الخلود " يأتي في محله - إن شاء الله تعالى - معنى الخلود، فإنه بحث ينشأ من اللغة إلى العقل.
المسألة السادسة: حول كلمة " استحياء " استحياه واستحيى منه واستحى منه: انقبض عنه وامتنع منه. استحيا: خجل. وفي " الصحاح ": (إن الله لا يستحيي)، أي لا يستبقي. وقال الجرجاني: الحياء: انقباض النفس من شئ وتركه حذرا من اللوم فيه (18). وفي " المفردات ": (ويستحيون نساءكم) (19)، أي يستبقونهن (20). والظاهر أن تفسير الاستحياء بالاستبقاء، لأجل فرارهم عن نسبة الإحياء في الآية إليه تعالى، مع أنه ورد في الحديث: " إن الله حيي " (21)، وإلا فالاستحياء ليس بمعنى الاستبقاء. نعم هو بمعنى الإحياء وضد الإماتة، ولازمه الإبقاء، ولذلك يصح هذا التفسير بالنسبة إلى قوله تعالى: (يستحيون نساءكم)، أي لا يميتونهن. وأما بالنسبة إلى المقام فلا يناسب إلا بحسب لازمه، وهو الإبقاء، لأن القرآن قد صرف في الأمثال وأتى بكل مثل، فما أبقى الله تعالى إلا وقد أتى بالأمثلة المناسبة، ولا يناسب قوله تعالى: (والله لا يستحيي من الحق) (22) حتى بلازمه، كما هو واضح، فما في " الصحاح " (23) وغيره غير راجع إلى محصل. وقد أوصينا كرارا أبناء الفهم والدراية بأنه لا يجوز الخلط بين مفاد اللغة والمسائل العقلية، الراجعة إلى مقام الربوبية وتنزهاتها عن الألفاظ ولوازمها، وعن الأحداث وتوابعها، فإن الخلط بينهما من الاجتهاد الباطل جدا.
المسألة السابعة: حول كلمة " الضرب " ضرب بيده وبالعصا: أصابه وصدمه بها، وبالسوط: جلده، وبالسيف: أوقع به (24). قال في " المجمع ": الضرب يقع على جميع الأفعال إلا قليلا (25). وفي الفارسية أيضا مرادفه مثله في شيوع استعماله في المختلفات من الأمور، وفي العربية ربما يكون من الأضداد يقال: ضرب بنفسه الأرض أقام بها وسافر (26)، وربما يستظهر من الراغب ميله إلى إرجاع الكثرات إلى المعنى الواحد (27)، وهذا في ذاته غير بعيد في كافة اللغات، لأن المجازات والاستعارات وسيعة الجانب في اللغة العربية، ويكون في كثير من موارد الاستعمال، المناسبة بين المعنى الأصلي، وهو الضرب والصدمة الخاصة، وبين المعاني الاخر قريبة جدا. نعم في خصوص هذه المادة لكثرة موارد الاستعمال المنتهية إلى المضادة أحيانا - ولو كانت المضادة عارضية، لأجل الحروف اللاحقة - يشكل الالتزام بالمعنى الواحد.
المسألة الثامنة: حول كلمة " الإرادة " يأتي في محله كلام حول معنى الإرادة ولا يناسبه المقام، لأن هذه الجملة المشتملة على نسبة الإرادة إليه تعالى مقول قولهم.
المسألة التاسعة: حول كلمة " الإضلال " أضله: دفنه وغيبه وأضاعه وأهلكه، أضل الله فلانا: صيره إلى الضلال. يقال: أضله فضل. انتهى ما في " الأقرب " (28). وقد خرج الراغب عما هو وظيفته، وهو تعريف معاني اللغات، ودخل في العقليات بما لا يكون معذورا (29)، فراجع. وبالجملة: معنى الإضلال في كل مقام واحد، وفيما يستند إليه تعالى لو لم يمكن حمله على الحقيقة، فالمجاز ذو عرض عريض. ولا داعي لاعوجاج الطريق بعد وفور المجازات والاستعارات في خصوص كتابه تعالى.
المسألة العاشرة: حول كلمة " الفاسق " الفاسقون جمع الفاسق. قال ابن الأعرابي: " لم يسمع قط فاسق في كلام الجاهلية ولا شعرهم "، مع أنه عربي، ونطق به القرآن. الفسق مصدر واسم. قيل: هو عدم إطاعة أمر الله، فيشمل الكافر والمسلم العاصي. وقيل: أصله خروج الشئ من الشئ على وجه الفساد. وفسق فسوقا: ترك أمر الله وعصى، وجار عن قصد السبيل. انتهى ما في " الأقرب " (30). ويؤيد الوجه الأخير، ما فيه أيضا: الفويسقة - مصغر الفاسقة -: الفأرة. سميت بها لخروجها من جحرها على الناس (31).
ولا شبهة في أن الفسق بحسب أصل اللغة معناه الأعم، وربما يقال: إن الفستق سمي به لجوره وتعديه من الباطن إلى الظاهر بفتح فم جلده عن تعد وعمد. وفي الراغب: عن ابن الأعرابي: لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب، وإنما قالوا: فسقت الرطبة عن قشرها (32). وإنما الكلام في أنه قد اشتهر: أن من مصطلحات القرآن كون المراد من الفاسق هو الخارج عن رق العبودية بالكفر والإلحاد، دون العصيان والطغيان، فالمسلم العاصي ليس مرادا من الفاسق في الكتاب الإلهي، لكثرة استعماله فيهم دون غيرهم، حتى صار حقيقة ثانوية يحتاج المعنى الأول إلى القرينة، وصار المعنى الأول مهجورا بالمرة. وهذا في خصوص لفظة " فاسق " دون سائر مشتقاته، كما أن الأمر بالعكس في محيط الفقاهة وأهل السوق، فإن الفاسق هنا ينصرف إلى المسلم الخارج عن أدب الشرع، حتى يقال: هو فاسق وليس بكافر، وهذا هو أيضا حقيقة ثانوية أخرى في محيط آخر. والذي يسهل الخطب: أن مراجعة كتاب الله العزيز تفيد كثرة هذا المشتق استعمالا في الكافر: إما للمقابلة، نحو (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) (33)، أو لما يشبه المقابلة، نحو (وما يكفر بها إلا الفاسقون) (34)، (كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) (35)، (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (36)، (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) (37)، وإما لأن الإيعاد بالنار وبالخزي في الدنيا، محمول عليهم ومخصوص بهم، نحو (الذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) (38)، (ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) (39)، (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) (40) وغير ذلك. وكون المراد الاستعمالي أعم والجدي أخص، لا يضر بالاستعمال الحقيقي، أمر تحقيقي محرر في أصولنا، إلا أنه بعد كثرة الاستعمال - ولا سيما التقابل - يظهر أن لهذه اللغة في القرآن شأنا، وإن كان فيه قوله تعالى: (كره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (41). ولأنه لا ينافي ما ادعيناه، لأن سائر مشتقاته باقية على معانيها الأولية اللغوية كما يظهر بمراجعة الكتاب أيضا. والمسألة بعد تحتاج إلى التأمل والفحص الزائد إن شاء الله تعالى.
المسألة الحادية عشرة: حول كلمة " ينقضون " نقض - من باب نصر - نقضا البناء: هدمه، والعظم: كسره. والحبل: حله. والعهد والأمر: ضد أبرمه، وأفسده بعد إحكامه، وذلك مجاز من نقض الحبل. انتهى ما في " الأقرب " (42). وفي " المفردات ": النقض انتثار العقد من البناء والحبل والعقد، وهو ضد الإبرام (43). والذي هو الظاهر: أن النقض هو جعل الشئ بلا أثر وصيرورته بلا خاصة، فإذا نسب إلى البناء فيفسر بالهدم، وإلى العظم فيفسر بالكسر، وإلى الحبل فيفسر بالحل، وإلى العهد فيفسر بالإهلاك والإفساد وبترك العمل على طبقه، فيفسر بلا خاصة وبلا أثر وفي أحاديثنا: " لا تنقض اليقين بالشك " (44)، أي لا تجعل اليقين بلا خاصة تعبدا. ومن هنا يظهر ما في " الأقرب " (45) وفي " المفردات " (46) من تخيل المجاز في بعض النسب أو الاستعارة في بعضها، فراجع تعرف.
المسألة الثانية عشرة: حول كلمة " العهد " " العهد " الوصية والموثق واليمين يحلف بها الرجل، والذي يكتبه ولي الأمر للولاة إيذانا بتوليتهم مع الأمر بلزوم الشريعة وإقامة النصفة. جمعه: عهود، والعهد أيضا: الوفاء والضمان والمودة والأمان والذمة، والعهد القديم: الأسفار قبل المسيح (عليه السلام)، والعهد الجديد: التي كتبت بعد المسيح (عليه السلام). انتهى ما في " الأقرب " (47). وفي " المفردات ": العهد: حفظ الشئ ومراعاته حالا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا (48). انتهى ما فيه. وفي " الأقرب ": قيل: أصله الرعاية، ثم استعمل في الموثق (49). والذي يظهر لي بعد مراجعة هذه المادة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم: أن العهد مصدر، ومعناه معلوم، واسم مصدر وحاصل من المصدر الثلاثي أحيانا والرباعي، وهو الاسم من عاهد والحاصل منه، وهو القرار القلبي المبرز بين العبد وربه، أو بين العباد بعضهم مع بعض، أو قرار من الله بالنسبة إلى الخلائق والناس في مختلف الأمور. نعم ربما يعبر عنه بالوصية، لأنها أيضا تكشف عن ذلك القرار أو الأمان والضمان وغير ذلك من الألفاظ، إلا أن الكل مشترك في ذلك القرار الأعم من كونه قرارا بين الدول في المسائل السياسية والاقتصادية، أو بين الرب والمربوب في المسائل الأخلاقية والفردية، وبين أبناء البشر في الأمور الجزئية الشخصية وغيرها. ويظهر من موارد الاستعمال: أنه القرار الذي يقبل التأكيد ويتحمل التوثيق والإحكام في الاعتبار. ويؤيد ذلك ما في صحيح أخبارنا: أن العقد هو العهد المشدد (50)، فإن العهد هو غير المشدد من ذلك القرار، بخلاف العقد، وفي أمثال هذه الآية إشعار بذلك: (ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) (51). ثم إن في آية أخرى: (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) (52)، وهو مشعر بخلاف ما مر، إلا أنه غير خفي على أهله. ثم إن ما ذكرناه فهو في خصوص العهد دون سائر مشتقاته، فإنها ربما تختلف معانيها، وما ذكرناه هو معنى العهد مع الفراغ عن القرائن الخاصة، كما هو الظاهر.
المسألة الثالثة عشرة: حول كلمة " ميثاق " الموثق والميثاق: العهد، وفي القرآن: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) (53) جمعه مواثق. انتهى ما في " الأقرب " (54)، وفيه: وثق به وثوقا وثقة وموثقا: ائتمنه، فهو واثق، وذاك موثوق به (55). ولا يخفى جهالته باللغة حسب الهيئات، فإن فهم معاني الهيئات من أغمض المسائل الأدبية، وهو وأضرابه وأمثاله معذورون عنه. وبالجملة: تفسير " وثق " ب? " ائتمنه "، - وهو فعل متعد - من الأغلاط، لأن وثق لازم، لقوله في مفعوله: موثوق به، ولو كان وثق متعديا فهذا الأخير باطل. ثم إن الميثاق لابد وأن يكون مصدرا لقوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)، ولا معنى لكون الميثاق - حينئذ - عهدا، ولو فرضنا أن الميثاق ليس مصدرا حسب الاستعمال القطعي، فيمكن الحيلة فرارا عما هو ظاهر الآية، كما يأتي فانتظر. وفي " المفردات ": الميثاق: العقد المؤكد بيمين وعهد (56). والذي هو الأقرب: أن الميثاق ليس ذات القرار الحاصل من الفعل إلا بالغاية، فإنه إلى معنى المصدر أقرب، وفي الآيات مختلف إلا أن اسم المصدر قليل الوجود، بل قيل: لا يخص به وزن في اللغة العربية، وهذا من النقصان المشاهد فيها، فيستعمل المصدر في المعنيين، والميثاق من هذا القبيل، فلاحظ.
المسألة الرابعة عشرة: حول كلمة " أمر " الأمر يجمع على أمور، وهو الشئ، أو كناية عن ذوات الأحداث (57)، وهو بهذا المعنى جامد، والأمر - جمعه: أوامر - معناه الصيغ الخاصة من الأبواب المختلفة، كالنهي والنواهي، فإذا قيل: أمر الله أن يوصل، أي أوجب الله - مثلا - بصيغة الأمر الوصل والإيصال، وقال: صلوا. هذا إذا كان مستعملا في معناه الحقيقي، وربما يراد منه الإنشاء، فينشأ به مفاد الصيغة، فإذا قيل: أمر الله به أن يوصل، فمعناه أوجب الله الإيصال والصلة، وبنفس هذا الأمر يحصل الوجوب، وهذا من الإنشاء بمادة الأمر، وهي من المشتقات، دون الأمر الذي يجمع على أمور، فإنه ليس معناه الحدث. والحق: أن الإنشاء به على خلاف الوضع، لأنه معناه ليس إلا إيجاد البعث بالصيغة وبالأمر. نعم يجوز توسعا، كما في النهي ذلك، فلا يعتبر وجود الأمر بالصلة في الشرع بعد قوله تعالى (أمر الله به أن يوصل)، لأنه يستفاد منه أنه الواجب المأمور به. وتفصيل المسألة في " تحريراتنا الأصولية " (58).
المسألة الخامسة عشرة: حول كلمة " يوصل " وصل - من باب ضرب - وصلا وصلة وصلة: لامه وجمعه، ضد فصل، وصل رحمه: أحسن إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، وعطف عليهم، ورفق بهم، وراعى أحوالهم، وكذلك إن بعدوا أو أساؤوا. انتهى ما في " الأقرب " (59). وفي " المفردات ": الاتصال: اتحاد الأشياء بعضها ببعض، ويستعمل الوصل في الأعيان والمعاني، قال الله تعالى: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل)، فقوله: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) (60) أي ينسبون (61). أقول: الوصل ضد الفصل، فلا معنى لتفسيره بالإحسان إلا إذا أريد منه نفس الوصل فإنه إحسان، والوصل بين الأرحام والمصاهرات موجود باق، فلا معنى للأمر به بعد كونه متحققا. فعليه، إذا أمر به، فيرجع إلى لزوم إدامة الوصل، أو يرجع إلى النهي، كما يأتي في محاله. فالوصل بالمعنى الذي في " الأقرب " غير تام، ويكون المراد منه ما بين الأرحام حاصل، فالوصل حيث هو ضد الفصل، فهو غير صلة الأرحام، فإنه أحد مصاديق الوصل، وليس هو معنى اللغة، بل هو من مواردها. فإذا لم يكن بين المؤمنين صلة، يكون فصلا، والوصل رفع هذا الفصل. وسيمر عليك أن الفصل ليس ضدا اصطلاحا، بل ولا عدم ملكة. بل الفصل عدم الوصل على نعت السلب المحصل. هكذا حررناه في " قواعدنا الحكمية ".
المسألة السادسة عشرة: حول كلمة " الخاسر " " الخاسرون " جمع الخاسر، وهو والخسير وخيسرى بمعنى واحد. خسر التاجر في بيعه - من باب علم - ضد " ربح "، وهو معناه الوضع في تجارته والنقصان، وفي " الأقرب ": خسر الرجل: هلك وضل (62). وهو من الاستعارة. وبالجملة: الخاسر بصورة الفاعل وبسيرة الصفة المشبهة، كطاهر وظاهر، وقال ابن مالك: وصوغها من لازم لحاضر * كطاهر القلب جميل الظاهر (63) ويأتي متعديا (الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) (64). وقال في " الأقرب ": ومن باب ضرب شاذ (65). وفيه: " أن " خسر " - باب ضرب - معناه النقص والتضييع، فيلزم التهافت بين اللغة والقرآن العزيز، لعدم وجود " خسر " من باب علم إلا لازما، وما هو المتعدي هو خسر بمعنى ضيعه. اللهم إلا أن يقال: إن " أنفسهم " مفعول بالواسطة، أي خسروا في أنفسهم التي هي رؤوس مالهم، وفي أهليهم، فافهم.
1- أقرب الموارد 1: 44.
2- يس (36): 11.
3- آل عمران (3): 21.
4- النساء (4): 138.
5- التوبة (9): 3.
6- المفردات في غريب القرآن: 48.
7- النهاية، ابن الأثير 1: 129.
8- النحل (16): 58.
9- الزخرف (43): 17.
10- راجع أقرب الموارد 1: 144.
11- راجع المفردات في غريب القرآن: 98.
12- راجع مجمع البيان 1: 64.
13- آل عمران (3): 7.
14- أقرب الموارد 1: 480.
15- راجع المفردات في غريب القرآن: 216.
16- هود (11): 40.
17- الحج (22): 5.
18- راجع أقرب الموارد 1: 251.
19- الأعراف (7): 141.
20- المفردات في غريب القرآن: 140.
21- مسند أحمد 5: 438، سنن ابن ماجة 2: 1271 / 3865، المستدرك، الحاكم النيسابوري 1: 497.
22- الأحزاب (33): 53.
23- راجع الصحاح 6: 2324.
24- راجع أقرب الموارد 1: 679.
25- مجمع البيان 1: 66.
26- راجع أقرب الموارد 1: 679.
27- راجع المفردات في غريب القرآن: 294.
28- راجع أقرب الموارد 1: 689.
29- راجع المفردات في غريب القرآن: 297 - 299.
30- راجع أقرب الموارد 2: 925.
31- نفس المصدر.
32- راجع المفردات في غريب القرآن: 380.
33- السجدة (32): 18.
34- البقرة (2): 99.
35- التوبة (9): 84.
36- النور (24): 55.
37- الحجرات (49): 11.
38- الأنعام (6): 49.
39- الأعراف (7): 163.
40- الأعراف (7): 165.
41- الحجرات (49): 7.
42- راجع أقرب الموارد 2: 1337.
43- راجع المفردات في غريب القرآن: 504.
44- راجع تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، ووسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
45- أقرب الموارد 2: 1337.
46- المفردات في غريب القرآن: 504.
47- راجع أقرب الموارد 2: 842.
48- راجع المفردات في غريب القرآن: 350.
49- راجع أقرب الموارد 2: 842.
50- راجع زبدة البيان في أحكام القرآن: 362، وعوائد الأيام: 11.
51- البقرة (2): 27.
52- الرعد (13): 20.
53- النساء (4): 21.
54- راجع أقرب الموارد 2: 1426.
55- نفس المصدر 2: 1425.
56- المفردات في غريب القرآن: 512.
57- راجع أقرب الموارد 1: 18.
58- راجع تحريرات في الأصول 2: 18.
59- أقرب الموارد 2: 1458.
60- النساء (4): 90.
61- راجع المفردات في غريب القرآن: 525.
62- راجع أقرب الموارد 1: 273.
63- راجع الألفية، ابن مالك: مبحث الصفة المشبهة باسم الفاعل، البيت 2.
64- الزمر (39): 15.
65- راجع أقرب الموارد 1: 273.