جولة حول الإعجاز الخالد

قد عرفت فيما مضى وفي طي البحوث الماضية مشكلة ومعضلة، وهي أن إعجاز القرآن مرهون بعدم تمكن البشر عن الإتيان بمثله طيلة العصور الاستقبالية، وإذا احتملنا إمكان الإتيان بمثله في تلك العصور لا يثبت إعجازه، وهذا الاحتمال قوي وعقلائي، لإمكان استكمال البشر الآتي في الأدب والشعر والفصاحة والبلاغة، كما نجد أن كيفية القلم في تحول وتبدل، وأن المكاتبات العصرية تباين القديمة في حسن الإبراز، ولطف إظهار ما في الضمائر، وغير ذلك من الجهات الكثيرة. وقد أشرنا هناك إلى أنه لا يتوقف إعجاز القرآن حدوثا على عدم إمكان الإتيان بمثله في الآتي، بل يثبت الإعجاز بعد ملاحظة الجهات السابقة حدوثا، وأنه ينال الإنسان المدقق في الجهات التي مرت، أن حدوث هذه الموسوعة العجينة عن المتخالفات من الفنون وغيرها، أمر خارق للعادة وخارج عن الطاقة البشرية المادية، وإذا ثبت ذلك حدوثا يكون باقيا إلى أن يؤتى مثله، فإن لم يؤت بمثله فيكون خالدا بحسب الواقع، ولو أتى بمثله أحد فرضا فلا منع من نسخ دعوى الأبدية وتخصيصها وتقييدها، كسائر الأمور المتخصصة بالمخصصات المنفصلة. هذا بحسب التصور. وأما بحسب التصديق فالخلود مستند إلى نفس القرآن المدعى له، وحيث هو يكون كتابا صادقا، ولا يعقل كذبه، فالخلود قطعي ومحرز باعتراف الكتاب العزيز والقرآن العظيم. وفي تحدي القرآن ما يدل على خلوده، وعدم تمكن الجن والبشر من الإتيان بمثله (ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) (1). ثم إن الإعجاز والمعجزة كما تثبت بالتواتر، تثبت بالوجدان، وإذا كان يثبت إعجاز المسيح والكليم بالمعجزات غير الباقية وجودا، ولكنها ثابتة تواترا - مثلا - كذلك يثبت بعض المعجزات النبوية. وأما القرآن فيثبت إعجازه بالوجدان، لبقائه وجودا في الأعصار والأمصار، ولعل انتهاء المعجزات الإلهية إلى إعجاز الأمر الباقي لأجل أن النبوة والوحي قد انقطعا، ولا شئ وراء نبوة الإسلام ورسالة القرآن. وقد مر وجه الخاتمية وسر الخاتمية وأصولها الفلسفية وأسسها العلمية، وأن مسألة الخاتمية ليست مسألة مستندة إلى الفاعل الإلهي، المانع عن ظهور الأنبياء والرسل بعد ذلك، حتى يقال: بأن الفيض لا يمنع من قبل الفياض على الإطلاق، ولا سيما بعد مشاهدة الحاجة إلى الأنبياء في جميع الأعصار والأمصار ألفا ألفا ومليونا مليونا لأن في ترك إرسال الرسل وإنزال الكتب، ظلما على العباد وإخلالا في البلاد. بل هي مستندة إلى قصور الشرائط اللازم اجتماعها، وإلى نقض العلل الإعدادية اللازمة لظهور النبي والرسول، ولنزول الكتاب والرسالة، فلا تكن من الخالطين والغافلين.


1- الإسراء (17): 88.